تأملات من اسطنبول

الرابط المختصر
Image
تأملات من اسطنبول

في انتظار إقلاع الطائرة القادمة لعمان من اسطنبول، تذكرت تغريدة على "تويتر"، نقلت عن الرئيس التركي الجديد رجب طيب أردوغان، مضمونها أن تركيا أصبحت محطة متميزة للسياحة العربية. فبعد أن كان زوارها من العرب العام 2002 مليون زائر، وصل عددهم اليوم إلى 4 ملايين؛ وذلك بعد أن شهدت في عهد حزب العدالة والتنمية نهضة شاملة، حولتها إلى نموذج ناجح وجاذب للعرب عموما.
وتتركز السياحة في اسطنبول، التي قامت بلديتها، منذ ترأسها أردوغان العام 1994، بجهود ضخمة لتحسين بنيتها التحتية، حتى أصبحت مدينة جميلة جدا؛ سهلة المواصلات؛ مليئة بالمزارات السياحية؛ ومبدعة في اقتناص الفرص لزيادة التشويق السياحي وتنويع الخيارات أمام السائح.
أخذتُ أتامل وأتساءل: كم من أعضاء البلديات -خاصة الإسلاميين- في بلادنا زاروا تركيا، ليدرسوا تلك التجربة ويستفيدوا منها؟ إذ إن مشكلات بلدية اسطنبول التي تجاوزتها، تشبه كثيرا ما تعانيه مدننا وبلدياتنا، والاستفادة من تجربة تركيا ممكنة في المجالين التقني والإداري اللذين هما من أهم مجالات. فهلا نستفيد من التجربة التركية ولا نبقى نتغنى بها فحسب!
للأسف، تتركز غالب السياحة العربية في اسطنبول على بعض المعالم السياحية الرئيسة، ثم الكثير من التسوق والترفيه. وتساهم برامج مكاتب السياحة ونشرات وكتب السياحة العربية القليلة وشحيحة المعلومات، في استمرار هذا الوضع، مما يضيّع على السائح التعرف على كنوز المدينة السياحية الحقيقية.
من المتاحف الفريدة في العالم وليس في اسطنبول فحسب، متحف اسطنبول لتاريخ العلوم التقنية في الإسلام، والذي أنشأته بلدية اسطنبول في العام 2008. وتقوم فكرة المتحف على إعادة صناعة نماذج للمخترعات العربية والإسلامية في شتى المعارف والعلوم التي عرفتها الحضارة الإسلامية، استنادا إلى صورها في المخطوطات أو ما عثر عليه. والذي يزور المتحف ويطلع على محتوياته، يتساءل: لماذا مناهجنا المدرسية والجامعية تتعامل بسطحية مع إنجازات حضارتنا؟
اختارت بلدية اسطنبول موقعا جميلا للمتحف؛ في حديقة "جلهانة" (حديقة قصر طوب قابي)، والتي لها مدخل خلف "أيا صوفيا" وتحت قصر طوب قابي، ومدخل آخر من داخل مقهى عند محطة ترام "جلهانة" في السور القديم. ومن يزر المتحف يفز بالتعلم واكتساب المعرفة، والمشي في حديقة فاتنة ورائعة كان يتمشى في ممراتها الخلفاء والسلاطين. كما يمكنه الاستمتاع بالجلوس في هذا المقهى المطل على الحديقة، وسماع زقزقة العصافير؛ أو الجلوس في المقهى آخر الحديقة والمطل على مضيق البسفور، مع سماع هدير الموج الأزرق.
تأسس المتحف تحت إشراف البرفسيور التركي فؤاد سزكين (ولد في 24 تشرين الأول (أكتوبر) 1924)، والملقب بشيخ المستعربين. وهو رائد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، ومؤسس ومدير معهد تاريخ العلوم العربية الإسلامية في جامعة يوهان في ألمانيا، وصاحب موسوعة تاريخ الأدب العربي في 12 مجلدا. وله أيضا 5 مجلدات بعنوان "العلم والتقنية في الإسلام" بالألمانية، وترجم للفرنسية والتركية والإنجليزية والعربية. وقد استل من هذه المجلدات الخمسة، مجلد لطيف مصور، يشكل موجزا وملخصا ودليلا للمعرض، يباع بسعر رمزي.
البحث عن تاريخ العلوم الحقيقي هو قضية البروفسور سزكين الأولى. وهو يؤمن بأن الحضارة الغربية اليوم هي ثمرة للحضارة العربية والإسلامية. ولذلك، كرس الكثير من جهوده البحثية للتعريف بهذه الحقيقة المغيبة.
من أقدار الله الجميلة أن أطالع في اسطنبول مقالا لأول أمين عام لجامعة الدول العربية، هو العلامة عبدالرحمن عزام باشا، في رثاء آخر سلاطين بني عثمان. وقد أعاد نشره الأستاذ جمال سلطان. والمقال يكشف عن دور الدولة العثمانية في نهضة أوروبا المعاصرة، وخاصة النهضة السياسية الديمقراطية.
فقد كتب عزام باشا في صحيفة الأهرام المصرية (22 /10 /1944): "امتاز آل عثمان في دولتهم بأن ملكهم ووطنهم وأمتهم جميعاً من صنعهم: أنشأوا ملكاً ثم تولوه، ووطناً ثم سكنوه، وأمة ثم تبنوها، فهم في هذا منقطعو النظير، جاؤوا إلى آسيا الصغرى مشايخ عشيرة من رحل الأتراك فاتخذوا من أوطان أعدائهم وطناً ومن أبنائهم جنداً ومن عامتهم مواطنين، ثم صهروا الجميع فأخرجوا أمة عثمانية حملوا بعد ذلك رسالتها خمسة قرون.
"وكانت هذه الرسالة تنطوي على فضائل كثيرة أهمها في نظري رسالة المساواة والعدل التي مهدت لظهور الديمقراطية في أوروبا المظلمة، وقد كانت فريسة لنظام الإقطاع وكانت كثرة الفلاحين في جنوبها الشرقي عبيداً لأسيادهم البويا. لقد عبر الأتراك العثمانيون المضايق، وبيزنطة تلهو بالقسوة والمظالم، وعبروا الدانوب، ودول أوروبا الوسطى تتعاقد على استدامة استعباد الطبقات، فبولنيا وملدافيا والمجر متعاقدة على تسليم الفلاح الذي يفر من أسياده ولو هاجر في سبيل حريته إلى دولة أخرى.
"كانت الحقول لما وصل العثمانيون إلى شرق أوروبا وكأنها سجون أبدية يتوالد فيها الفلاحون للعبودية، فكسروا أغلال السجون وأقاموا مكانها صرح الحرية الفردية، فهم الذين قضوا على نظام الإقطاع والأرستقراطية ليحل محله نظام المواطن الحر والرعية المتساوية الحقوق، فوصل في دولتهم الرقيق الشركس والصقلبي وغيره إلى أكبر مقام في الدولة، كما وصل النابه من عامة الناس حتى المجهول الأصل إلى مقام الصدارة العظمى والقيادة العليا".
"وتعلمت أوروبا الشرقية على يد محرريها سيادة القانون على الأحساب والأنساب والطوائف والملل والنحل، فترتب على ذلك تطور هائل في اتجاه الحرية والديمقراطية الغربية الحديثة، وكانت القرون الأولى لسيطرة آل عثمان عصوراً ذهبية شمل فيها الناس الأمن والرخاء والسلام الروحي، ولم تكن قوة آل عثمان كما يظن بعض الناس مستمدة من سيف وشجاعة، بل مما هو أعظم من السيف والشجاعة؛ احترام الحق والوفاء بالعهد والخضوع لسلطان القانون والشرع، ولو كان الأمر كما يتصوره الذين ينخدعون بآثار دور الانحطاط من استخدام الطوائف والغيرة بين العناصر والبطش لتغطية الضعف لاستحال أن يدوم ملك آل عثمان ستمائة سنة منها مائتان لا يسندهم فيها إلا سيف مبتور".
فتأمل يا رعاك الله حالنا بتاريخنا العلمي والسياسي المشرق، سواء في زمن السلاطين حين كان دين الإسلام هو المحرك لنا، أو زمن تأسيس جامعة الدول العربية، حين كان العلماء والفضلاء هم أولو القرار والمشورة كعزام باشا.
على وجبة غداء تركية بامتياز، كان الحديث شيقا مع صديق إعلامي تركي بارز، شرّقنا فيه وغرّبنا. ومما لفت نظري بشدة، تصريح صديقي أن الإسلاميين، وخصوصا جماعة الإخوان المسلمين في مصر، رفضت الاستفادة من التجربة والنصائح التركية من أردوغان، بل وأن بعض أعضاء جماعة الإخوان في عدة دول عربية، تعرضوا للمساءلة والمحاسبة الحزبية على لقائهم بحزب العدالة والتنمية، وذلك بسبب نظرة "الإخوان" لحزب العدالة على أنه مفرط ومتهاون في الثوابت!
ومعلوم أن حزب السعادة التركي، وريث فكر نجم الدين أربكان، هو المعادل الموضوعى التركي لجماعة "الإخوان"، وهو الذي استضاف مؤتمرا لقيادات الإخوان في العالم قبل بضعة أشهر، وليس حزب العدالة والتنمية.
وهنا نحتاج وقفة تأمل حول نهاية مسار الحركات الإسلامية العربية من التغني بإنجازات حزب العدالة والتنمية الضخمة والفخمة مع البقاء في مربع عقلية أربكان/ حزب السعادة، صاحب الحضور الهامشي في الساحة التركية؟
قرأت مؤخراً أن هناك أكثر من 17 كتاباً عن الرئيس السابق عبدالله غول. لكن، للأسف، لم يترجم منها كتاب للعربية بعد. وبعد تأمل، وجدت أن هذا يدل على ضعف بوصلة الترجمة في دور نشر عندنا، وفقر في رؤية كثير من المترجمين العرب، وخلل في بنية الحركة الإسلامية التي تقع في أسر الشخص الرمز المرموق والخطيب المفوه، واللذين قد يفتقدهما غول، لكنه يمتلك العقل الراجح والبصيرة النافذة. ومن طالَع مقابلة صحيفة "الحياة" اللندنية مؤخراً معه، يدرك تميز هذا الرجل، وكم نحتاج إلى أمثاله في عالم السياسة لدى الحكم والمعارضة. 
كم كان رائعا في مسجد السلطان أحمد، أو المسجد الأزرق، منظر تلك المرأة من دول آسيا وهي غير محجبة، جالسة على الأرض تنقل في دفترها أحكام الحج من لوحة إعلانية كبيرة، من ضمن عشرات اللوحات الإعلانية التي توضح أساسيات الإسلام بلغات مختلفة للسياح الذين يزورون المسجد.
فتأمل معي كم تتعدد سبل الدعوة إلى الله عز وجل؟ وكم هي سهلة وبسيطة؟ وكم يحتاجها الناس من حولنا، ويتفاعلون معها، ونحن لا نشعر؟
وعودة إلى المواقع السياحية، فيحتوى "مول فوروم اسطنبول" على معرض أسماك (أكوريوم)، وحديقة لمجسمات الديناصورات. وهي تستحق الزيارة. لكن "أكوريوم" منطقة فلوريا أكبر وأضخم. وفرصة النظر لبديع صنع الله عز وجل في البحار من قرب، تفوق بكثير جداً رؤية الأفلام الوثائقية عن عالم البحار.
ومن الأحواض المتميزة، حوض للسمك سموه "الجمال المتوحش"؛ فيه مجموعة من الأسماك الجميلة جداً والغريبة الشكل، لكن ما يجمعها هو كونها عدائية وخطرة وضارة، وبعضها سام.
رحت أتأمل في حياتنا؛ كم تحتوي على مظاهر جميلة وبراقة، لكنها في حقيقتها متوحشة وضارة وسامة! فالفواحش المتنوعة، من الخمر والمخدرات والزنا والتبرج والربا وغيرها، كلها ذات مظاهر براقة وجذابة، لكن عاقبتها الألم والندم والخزي والعار!
أما حديقة الديناصورات، فهي حقاً حديقة مذهلة؛ بضخامتها وتعدد مجسماتها، وما زودت به من مؤثرات حركية وصوتية. ويزيد في روعة الحديقة توفر مرشد يقدم شرحا باللغة العربية عن الديناصورات.
زيارة الحديقة أثارت فضولي لمعرفة هل هذه المجسمات المتعددة هي نتاج أحافير حقيقية، أم أنها للخيال العلمي أقرب؟ للأسف، لم أصل لجواب شافٍ فيما طالعته في شبكة الإنترنت. لكني صدمت فعلا من التحليلات التي يقدمها أنصار نظرية التطور الداروينية حول انقراض الديناصورات، وأن هذه الديناصورات الضخمة تطورت فأصبحت ما نشاهده من طيور كالدحاجة والعصافير والحمام! كما يطرحون فرضيتين لطريقة تطورها من السير على أربع أقدام أو قدمين، إلى الطيران؛ من خلال إما الركض السريع حتى طارت، أو من خلال القفز بين أغصان الشجر! والأعجب من هذا كله أن صيد الذباب كان هو السبب الذي حدا بهذه الديناصورات الضخمة لأن تتطور وتطير! 
وأخذت أتأمل كيف تطيش عقول البشر لتجري خلف تفسيرات كهذه، رفضا للإقرار بأن لهذا الكون الفسيح في حجمه والبديع في صنعته، خالقاً ومدبراً ومالكاً وحاكماً، هو الله عز وجل.
هنا أعلن قائد الطائرة عن هبوطها بنجاح على أرض المطار، ورجوعنا سالمين بحمد الله إلى أرض الحشد والرباط، أرض بركة بيت المقدس وأكنافه، والذي يشهد عدواناً يهودياً سافراً، لن يفله إلا الثبات والرباط والبذل والعمل المخلص والصادق في الاتجاه الصحيح، مع الدعم السليم من الأشقاء الحقيقيين، بعيداً عن المعارك الجانبية والشعارات الكاذبة.