في زمن الحداثة والعولمة تضاعف دور التجارة كأداة للغزو والحرب والاحتلال وتغيير بُنية المجتمعات المستهدفة، وإذا كانت المقاطعة التجارية والحصار الاقتصادي هما المعتمدان في الماضي، فإن الانفتاح والإغراق وغزو الأسواق هي المعتمدة اليوم، فمنذ سقوط الاتحاد السوفيتي تزايد غزو الكوكاكولا ومطاعم ماكدونالدز لتلك البلاد ناقلة معها ثقافتها الرأسمالية والليبرالية.
وفي عالمنا الإسلامي تشن حرب ثقافية وفكرية تستهدف قلوب وعقول أبنائنا وبناتنا من خلال البضائع والمتاجر، فمثلا لم تكتفِ بناطيل الجينز بأن تكتسح السوق بانتشارها بين الرجال والشباب حتى وصلت للبنات والنساء بمختلف القصّات والماركات في كثير من البلاد مع الأسف، ولم يقف الأمر عند ذلك الحد بل شهدنا تحويل الجينز لدشاديش للرجال وجلباب للنساء!
إن خطر التجارة اليوم في غزو مجتمعاتنا والتلاعب بأفكار الناس بما يخالف أحكام الإسلام يتم على ثلاثة مستويات:
1- ترسيخ ثقافة الاستهلاك المفرط، بما يتناقض مع تعاليم الإسلام التي تحث على الاقتصاد وعدم الإسراف والتبذير مع الاستمتاع بالطيبات والمباحات.
إن الاستهلاك المفرط حتى للمباحات من الأطعمة والأشربة والألبسة والأثاث والسيارات وغيرها هو خطأ مضرّ بمجتمعاتنا، فهو يرفع حجم المستوردات مما يضعف الاقتصاد المحلى ويجعل اقتصادنا رهينة بيد الخارج، وتتولد عنه أمراض السمنة ومشاكلها، ويشعل روح الغيرة والحسد بين الأغنياء والفقراء وبين العائلات والجيران.
ومن يطالع ضخامة أرقام التبذير والإسراف الذي نقوم به كمجتمعات عربية يدرك خطورة هذا الاستهلاك المفرط الفردي، فالدراسات رصدت أن العرب ينفقون سنويًّا 20 مليار دولار على العطلات، وتنفق المرأة الخليجية 2 مليار دولار سنويًّا على أدوات التجميل، أما المصريون فينفقون 40 مليون جنيه يوميًّا على المكالمات في الهواتف المحمولة.
2- إخضاع الدين لمعايير السوق الرأسمالي مما يحرف الدين ويحرف بوصلة التدين السليم في المجتمع ويسهل غزو أفكارنا وتلويثها، ومن أبرز الأمثلة على ذلك سوق الحجاب والمصارف الإسلامية والقنوات الفضائية، فقد تحول سوق الحجاب من خدمة المحجبات ليصبح مصدر ربح للملايين لدور الأزياء والمصممين، وبعضهم غير مسلم، من خلال تطويع الحجاب لخطوط الموضة ومتطلباتها، وأصبح الحجاب (الحداثي) لا يحتفظ بجمال المسلمة لنفسها وزوجها، بل يتفنن بإظهار ما كان خبيئا! أما محجبات عمرو خالد/ عمرو ذياب ممن يضعن قماشا على رؤوسهن ويلبسن الضيق والملفت من القمصان والبناطيل فهن خارج حديثنا اصلاً!
أما إقبال البنوك الربوية -محلية وعالمية- على فتح نوافذ إسلامية فلم يسلم من تطويع أحكام الشريعة لحيل ربوية، وللأسف تمارس بعض المصارف الإسلامية ذلك أيضا!
أما فيما يتعلق بالقنوات الفضائية فكثير منها ممّن يرفع شعارا وهوية إسلامية فإنك تحتار عن أي إسلام تتحدث فالاختلاط عام في برامجها مع تبرج مذيعاتها، أما أغانيها -تركوا مصطلح نشيد- فلا تتميز كثير منها عن سواها إلا بعدم ظهور الراقصات فيها، كما أنها تعتمد في تمويلها وأرباحها على الإعلانات الاستهلاكية!
في كتاب "إسلام السوق" كتبت د. هبة رؤوف عزت في تقديمها له: "الحداثة كمشروع علماني فردي تحفر مسارها في المجتمع دون أن يفهم الناس أحيانا مفاتيحها، ودون أن يستوعب من يشتغلون بالفقه والدعوة مزالقها ومواطن الخلل والخطر فيها".
3- نشر وترسيخ كثير من المحرمات في المجتمعات المسلمة من خلال إثارة الغرائز والعواطف بالدعايات التجارية نحو منتجات وبضائع في الحقيقة لا حاجة لها لكنهم نجحوا في إقناع الناس بوجود مشكلة يلزم حلها من خلال هذه المنتجات.
فالسعادة والمتعة تربط بمحرمات مثل التدخين والتبرج والاختلاط والرقص ولفت الأنظار وتقليد المشاهير، ولتحقيق هذه الحاجات المحرمة والكاذبة تنتشر المقاهي والمراقص ومحلات الألعاب ويغرق السوق بالملابس العارية والموضات المنحطة أخلاقيا!
ويلخص مؤلف كتاب "أمريكا والعقول" هذه الموجة من الغزو الفكري عبر التجارة: بقوله "بعد اختراق الدعاية الأمريكية لعقول البشر، استطاعت أمريكا أن تشعر الجميع بالجوع إلى المتعة".
إن التدين الأعوج الذي نراه في الشارع اليوم هو نتيجة حرب الأفكار عبر الدعايات التجارية وما تعرضه الأسواق من متع وشهوات، تحتاج في علاجها إلى نشر الوعي بخطر حرب الأفكار عبر البضائع والدعايات وتوفير البضائع الجيدة بسعر وجودة مناسبة.
التجارة حين تكون أداة غزو واحتلال
2017/02/01
الرابط المختصر
Image