من سمات هذا الزمان كثرة القيل والقال في وسائل التواصل الاجتماعي، وهي سِمة ذمّها النبي صلى الله عليه وسلم عموما، ويزداد ذمها إذا كانت بجهل ويخوض صاحبها فيما لا يعلم أو لا يُحسن، ومن أبرز صور القيل والقال الباطلة كثير من التحليلات والأخبار والمقالات السياسية التي تتعلق بقضايا المسلمين العامة!
فبرغم النية الطيبة خلف تناقل هذه المقالات والمقاطع إلا أنها في الواقع تساهم في إعاقة العمل الإسلامي وحرفه عن مساره الصحيح، فكثير من هذه المنقولات والمشاركات هي في الأصل من الحرب الدعائية المصوّبة على الأمة المسلمة، فيقوم هؤلاء المغفلون -وبعضهم يحمل لقب دكتور-! بتداول مقالات ورسائل ومقاطع هي في حقيقتها أدوات عدوانية إعلامية ونفسية على الإسلام والمسلمين ولكنها صيغت بدقّة وحِرفية بحيث تخدع السذج، وقد بين لنا الله عز وجل أن منّا مَن سيقع في هذا الفخ والمطب "وفيكم سمّاعون لهم".
وحتى نتجنّب هذا الفخ والمطب يجب البحث عن مصدر الخبر والمعلومة والتحليل، فإن كان من أبواق محور إيران – موسكو الإعلامية فيلزم الحذر الشديد، فهؤلاء واليهود يُعتبر الكذب هو الأصل في أخبارهم.
وإن كان مصدر الخبر والمعلومة والتحليل مَن أثبت التاريخ فشله المتكرر في الفهم وعجزه عن تحقيق الصواب في التحليل ولو مرة في عمره، فكيف يُعتمد مثل هذا كقدوة ومستشار؟!
أما مَن كان صالحا في نفسه لكنه لا يفقه بالأفكار والعقائد ودورها في تحريك القوى والأحداث عبر الزمان فكيف يمكن له أن يستشرف المستقبل ويقترب من الصواب في رسم الاستراتيجيات؟
وكم كانت دقة السلف حين قالوا: العلم نقطة كثّرها الجاهلون! وفعلا لو أسقطنا من وسائل الإعلام المذيعين والمذيعات الجهلة والمتجاهلين فكم سيعمّ الهدوء ويصفو المساء من كل ذلك الضجيج بجهل.
من هنا تبرز نعمة سعة الرؤية والتي أصبحت نعمة ضائعة في هذا الزحام الشديد من القيل والقال الباطل الذي ينقله بعض أو كثير من حسني النية وكثير من الأفّاقين والمدسوسين للتشويش على الرؤية الواسعة التي تكفل لأصحابها دقة الفهم وسلامة التوقع، لارتكازها على معلومة دقيقة وربط سليم بين مقدمات -ولوكانت خفية- ونتائج سببية شرعية وكونية.
ومن أمثلة الرؤية الواسعة قصة الخضر وموسى عليه السلام، فلئن كان الخضر يعلم أن هناك ملكا يغتصب السفن لجأ إلى إحداث عيب في السفينة حتى تنجو من الغصب، وهو ما لم يحتمله موسى عليه السلام! وهذه أزمة تتكرر مع كل صاحب معرفة زائدة عن مجتمعه، وهي قضية جديرة بالبحث والدراسة لوضع حلول سريعة وصحيحة لردم الفجوة المعرفية بين العلماء والمصلحين وجهل المجتمع الذي ينفخ فيه إبليس ليصدّهم عن اتباع الحق، ولنا في قصة إبراهيم الخليل عظة وعبرة "يا أبتِ إني قد جاءني من العلم ما لم يأتِك"!
ومن أمثلة سعة الرؤية التي تُلاحظ المقدمات والنتائج تأكيد أبي العباس ابن تيمية، شيخ الإسلام، انتصار المسلمين على التتار في معركة شقحب سنة 702هـ حيث "جعل يحلف بالله الذي لا إله إلاّ هو إن المسلمين لمنصورون، فكان بعض الناس يقولون له: قُل إن شاء الله، فيقول: أقولُها تحقيقاً لا تعليقاً"، وشرح لهم مبرّره في ذلك بقوله: "مثل حال المسلمين لما انكسروا في العام الماضي، وكانت هزيمة المسلمين في العام الماضي بذنوب ظاهرة، وخطايا واضحة من فساد النيات، والفخر، والخيلاء، والظلم، والفواحش، والإعراض عن حكم الكتاب والسنة، وعن المحافظة على فرائض الله، والبغي على كثير من المسلمين الذين بأرض الجزيرة، والروم، مثل ما حدث في غزوة أحد، ثم بعد ذلك أناب بعضُهم إلى ربهم، وعزموا على نصرة شرع الله، فكانت حادثة المسلمين عام أول شبيهة بأحد، وكان بعد أحد بأكثر من سنة، -وقيل سنتين- قد ابتلي المسلمون بغزوة الخندق، فكذلك في هذه الأيام ابتلي المسلمون بعدوّهم كنحو ما ابتلي المسلمون به في عام الخندق، وفي المنتسبين إلى الإسلام من عام الطوائف منافقون كثيرون في الخاصة، والعامة يسمّون الزنادقة".
فقد ربط ابن تيمية بين تحوّل حال المسلمين من المعصية إلى الطاعة والأخذ بالأسباب لمقاومة التتار بأنها علامات الانتصار، وقبل ذلك كوْن التتار باغين عادين بينما جيش الشام ومصر مظلومون، فقد كان ابن تيمية يتأول آيات القرآن "ثم بُغي عليه لينصرنّه الله" كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية.
الخلاصة؛ إنّ الموفق من يتجاوز التشويش الضخم الذي يحدثه تناقل رسائل و"مسجات" وما يبثه الإعلام من التحريف والزور والكذب، ويقف عند المعلومة الصحيحة، ويراقب المقدمات والنتائج والعلاقات السببية بينهما، وعندها يحوز الرؤية الواسعة التي تمكّنه من رؤية المشهد -على اتساعه- في المكان بين القارات، وفي الزمان عبر الماضي والحاضر والمستقبل.
الرؤية الواسعة نعمة مضيّعة!
2017/05/01
الرابط المختصر
Image