مفهوم القوة الناعمة مفهوم حديث في العلاقات الدولية صكّه جوزيف ناي، وقصد به تحقيق الأهداف وكسب الخصوم من خلال جاذبية النموذج والدعاية بدلاً من الحرب والمغريات الاقتصادية، وهو في الحقيقة القوة التي اعتمد عليها الإسلام في الانتشار والتمدد بين الشعوب والدول والأمم عبر الزمن.
والإصلاح -الذي هو دعوة ومنهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام- يقوم أيضاً بالأساس على مفهوم القوة الناعمة وليس القوة الصلبة، ولو أخذنا تجربة العلامة طاهر الجزائري في دمشق وما حولها، وهو الذي نشأ يتيماً في نهاية عمر الدولة العثمانية حيث أصيبت بالضعف والتخلف وانتشار الظلم من الولاة من جهة، واستفحال الاحتلال الأوروبي العدواني والصليبي من جهة أخرى لتبين لنا حقيقة ذخيرة الإصلاح وأنها القوة الناعمة.
فقد كان طاهر الجزائري طالباً للعلم ومعلماً من بعد ومصلحاً علمياً في خاتمة المطاف، فاهتم بتأسيس المدارس وصنع الطلبة المجدين وتأسيس المكتبات العامة ونشر المخطوطات القيمة وتصنيف الرسائل النافعة، وذلك من خلال مجهود فردي وشخصي وبالتعاون مع بعض الأصدقاء والزملاء في أحيان، وبحَثّ التجار والأعيان ودعم الولاة في أحيان أخرى.
فكان من نتاجه تأسيس المكتبة الظاهرية في دمشق التي حفظت لنا ذخائر كثيرة من تراثنا العظيم والتي تولى تحقيق كثير منها فطاحل العلماء، ومن أبرزهم العلامة الشيخ الألباني رحمه الله.
وكان من نتاج الجزائري رعايته للعلامة محب الدين الخطيب الذي فقد والده مبكراً وكان صديقاً للجزائري بل كان قيماً على المكتبة الظاهرية، فتعهده الجزائري بالرعاية والتوجيه حتى أصبح محب الدين من أعلام اليقظة الإسلامية وأركان الإعلام الإسلامي ومفكري الإسلام ورجالاته السياسيين.
وكان من نتاج العلامة الجزائري إعادة بعث ونشر الكثير من أفكار ورسائل شيخ الإسلام ابن تيمية بين الناس مما ساهم في نصرة التوحيد ومحاربة الشرك والخرافة وتنوير الأذهان.
كما كان من نتاج العلامة الجزائري تجديد وتطوير مناهج التعليم وإضافة علوم عصرية جديدة في المدارس الثماني التي فتحتها الجمعية الخيرية الإسلامية في دمشق، والتي كان هو من مؤسسيها.
وكان من نتاج العلامة الجزائري إنشاء مطبعة حكومية لنشر الكتب العامة والمدرسية.
هذه هي ثمار ونتائج رجل لم يكن من الوجهاء والأعيان، ولا التجار والأثرياء، ولم يكن على صلة قوية بالدولة، بل فُصل من وظيفته ولاحقته الوشايات حتى فُتش بيته في غيابه وقرر الهرب من دمشق للقاهرة سنة 1907م، ولم يتزوج ولم يقبل الهبات وعاش على بيع نفائس مكتبته لمن يقدرها من الأفراد أو الهيئات، وكان يبيعها بثمن زهيد.
كان من كلام الجزائري الذي يدرك مفهوم القوة الناعمة: "الإصلاح على اختلاف أنواعه لا بد أن يكون على سبيل التدرج، وفقاً لمقتضى السنن الطبيعية، لأن ما يأتي على جناح السرعة لا يلبث أن يرجع من حيث أتى"، ويؤكد تلميذه العلامة محمد كرد علي منهجه القائم على توظيف القوة الناعمة: "وخطته الإخلاص، والعمل على النهوض بالأمة عن طريق العلم، وبثّ الملكات الصحيحة في أهل الإسلام، وثورته ثورة فكرية لا مادية... إن هذا الطريق يطول أمرها، ولكن يؤمَن فيها العثار، والسلامة محققة ثابتة".
القوة الناعمة ذخيرة الإصلاح حالة العلامة طاهر الجزائري
2018/02/01
الرابط المختصر
Image