حكايات التاريخ وقصص السابقين تحوى الكثير من الخبرات والمعارف التي تمنح عارفيها قوة ومتانة يتفوّقون بها على تحديات الواقع، ولذلك كان ثلث القرآن الكريم تقريبا قصص الأنبياء والأمم التي قبلنا، وقد أمرنا الله عز وجل في كتابه بالاهتمام بها والاتعاظ من دروسها "لقد كان في قَصصهم عبرة لأولي الألباب" [يوسف: 111]، وقال تعالى أيضاً: "أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمّر الله عليهم وللكافرين أمثالها" [محمد: 10].
وفي مكة حين اشتكى بعض الصحابة رضوان الله عليهم شدة العذاب الذي يلاقونه من كفار قريش، كان الجواب النبوي باستحضار تاريخ المؤمنين السابقين لأخذ العبرة والقدوة منه "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض فيُجعل فيها فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجعل نصفين ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصدّه ذلك عن دينه. والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون" رواه البخاري.
ونتيجة لمعرفة سلمان الفارسي، رضي الله عنه، بآلية حفر الخندق الفارسية تلقى كفار قريش صدمة استراتيجية في غزوة الأحزاب، والتي سميت أيضا غزوة الخندق.
وفي عصرنا الحاضر هناك عدد من الأمثلة على خسائر جسيمة لحقت بالمسلمين وبلادهم نتيجة تعطيل قوة المعرفة التاريخية والابتعاد عن الاستفادة من دروس التاريخ وعِبَره، ومنها:
برغم مبادرة العلماء بالمشاركة السياسية كجمال الدين القاسمي ورشيد رضا ومحبّ الدين الخطيب وأحمد شاكر وغيرهم، إلا أنه تم تغييب هذه الخبرة التاريخية لأكثر من 40 سنة حتى مجيء الربيع العربي عام 2011 ليعود كثير من الرموز والهيئات للقبول بالمشاركة السياسية، وتسببت هذه القطيعة في انتشار العلمانيين وازدياد تأثيرهم بما يفوق قدرهم، وقلّلت خبرة الإسلاميين السياسية في شؤون إدارة الدولة، برغم أن الأئمة الثلاثة في عصرنا الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين والشيخ الألباني كانوا مع المشاركة السياسية طيلة هذه المدة تقريباً، لكن منهج التغييب كان هو المتغلب!! واليوم ومع العودة لمسار المشاركة السياسي لا يزال الاهتمام بالخبرة التاريخية السياسية لعلماء السنة ضعيفا، وهو ما سيكرر أخطاء ماضية دون مبرر عند العقلاء!
ومنها أن علماء أهل السنة الذين كانوا يَعرفون تاريخ الشيعة وجرائمهم وخياناتهم وعقائدهم الباطلة حذروا من خيانة وخطورة دولة الخميني وملالي طهران منذ لحظتها الأولى، بينما غالب قادة الحركات الإسلامية خُدعت بالشعارات البراقة وانساقت خلف العواطف الخادعة فأيّدت الخميني، ومن بعده أيّدت حسن نصر الله، ولعلّ أكبر مفصل في ذلك كان مفصل حرب 2006 حين انفرد الشيخ عبد الله بن جبرين برفض معاونة حزب الله، في الوقت الذي زلّت فيه أقدام بعض دعاة أهل السنة بتأييد الحزب! حتى جاءت الثورة السورية ففضحت إرهاب وتكفير وإجرام دولة الملالي وأذنابها كحزب الله وبُوقِه حسن زمّيرة بحق الإسلام والمسلمين.
وقد كان يمكن تجنّب إراقة دماء هؤلاء الأبرياء لو أن قادة الحركات الإسلامية وكثيرا من الناس كانت عندهم الخبرة التاريخية بجرائم وخيانات الشيعة عبر التاريخ.
ومثال ثالث هو الموقف من جماعات العنف والتكفير والإرهاب، ففي حين رفض العلماء الكبار هذه التنظيمات الإرهابية وسمّوها بالخوارج لقتلها الأبرياء بعد تكفيرهم، بقي الكثير من الجماعات والدعاة في موقف وسط، إذا لم يكن ميّالا لهذه الجماعات بسبب جاذبية شعاراتهم المنادية بالجهاد ومقارعة الطواغيت وتحكيم الشريعة.
لكن أهل العلم الذين يعرفون سيرة الخوارج وصفاتهم التي وصفهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: "أنهم يقولون من قول خير البرية"، و"أنهم يقرؤون القرآن لا يُجاوز حناجرهم"، "وأنهم يَقتلون أهل الإسلام ويدَعون أهل الأوثان"، ومن هنا رفضوا هذه الجماعات والتنظيمات، وجاءت أحداث النصرة وداعش في سوريا لتثبت للناس أن موقف العلماء هو الموقف السليم والصائب.
إن المعرفة بالتاريخ ودروسه وعِبَره قوة معرفية تجنّب صاحبها الفتن ومواضع الزلل وتنجّيه من المكائد وفخاخ الخصوم، وتعطيه قوة في المناورة وحيلا واسعة للفوز والتفوق.
اقرؤوا التاريخ إذ فيه العِبَر ضلّ قوم ليس يدرون الخبر
المعرفة بالتاريخ قوة معطلة
2017/05/01
الرابط المختصر
Image