الفتن لا منجاة منها إلا بالثبات على الحق مهما كان مراً، ولذلك قال الله تعالى: "والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصبر"، وفي عصرنا الحاضر مرت على أمة الإسلام فتن عديدة تورط فيها من تورط، ونجا منها من نجا.
ونحن اليوم على أعتاب مرحلة جديدة من الفتن والأزمات ومفترقات الطرق، والتي يحتار فيها الحليم، ويقلق منها حتى الحكيم، ولكن اللجوء إلى الله عز وجل أولاً بالدعاء والرجاء وطلبالهداية والثبات، ومن ثم الأخذ بالأسباب الشرعية، والتي منها اتّباع العلم والدليل الذي يرشد إليه ورثة الأنبياء من العلماء مهما كان ظاهره غير مرحب به أو على خلاف ما تشير إليه العواطف الصادقة أو تهواه النفوس المندفعة.
ولنا في تاريخنا المعاصر تجربتان مهمتان يمكن أن يكون فيهما فائدة لمن كان له قلب يعقل وإلا انطبق عليه قول ألدو هوكسلي: "أهم درس علّمنا إياه التاريخ أن الناس أخذوا دروساً قليلة من التاريخ"!!
ففي بداية عصر الصحوة الإسلامية ظهر تيار الغلو والتطرف والإرهاب لاحقاً والذي تصاعد حتى استكمل بناء فكر الخوارج بالتكفير بغير مكفّر واستحلال الدماء بغير حق، وتفوق على الخوارج الأولين بقلة التدين والمبالغة في الإجرام والإرهاب الباطل!
ومع ذلك وُجد من أيد هذا الغلو ودافع عنه ونصره وسار في ركابه، برغم نهي علماء السنة الكبار عن ضلال هذا المسار فكراً وسلوكاً وأثراً، لكنهم رموا العلماء والمجددين بالعمالة والخيانة واتّباع بغلة السلطان والانحناء لالتقاط الدارهم والدنانير وغيرها من الاتهامات الباطلة والتهم الكاذبة.
ولما دارت الأيام ووقعت الطوام والكوارث بسبب هذا الغلو الفاجر وبدعة الخروج والتكفير والتقتيل وظهرت الآثار السيئة والنتائج الخبيثة لمخالفة رأي العلماء باتباع سفهاء العقول من حدثاء الأسنان، وبدأت تعود العقول لأصحابها وتزول عن بعضهم -برحمة الله- سكرة الغلو والتطرف والشعارات العاطفية والحماسات الشبابية، أخذ كثير من رموز الغلو والتطرف يتراجعون ويتوبون عن تطرفهم جماعات وأفرادا، كالجماعة الإسلامية والجهاد في مصر والإسلامية المقاتلة في ليبيا وغيرها، ومَن بقي على غلوه منهم أخذوا يتصارعون ويضلل بعضهم بعضا!
وثبت لهؤلاء ولغيرهم كم كان موقف علمائنا الكبار محقاً ومصيباً، وكم كانت اتهاماتهم باطلة وفاجرة، وكيف أنهم تورطوا في الدماء المعصومة بغير حق بينما سلِم العلماء ومن سار على دربهم من ذلك، وكيف أن غلوهم خدم اليهود والرافضة في الحقيقة بدلاً من أن يكون عوناً للأمة، وهذا كله اعترفوا به في مراجعاتهم.
وفي بداية عصر الصحوة الإسلامية ظهرت فتنة الرافضة الشيعة بزعامة الخميني، وانساق خلفها الكثير من العلماء والدعاة والجماعات والشباب، بينما حذر منها علماء السنة وصاحوا فيهم: لا تغركم شعارات "الموت لأمريكا وإسرائيل" فلن يموت سواكم على أيديهم، وكالعادة رمى هؤلاء العلماء الأعلام بالسباب والاتهامات والعمالة لأمريكا وكره الجهاد والمقاومة وتحرير فلسطين!
وبعد عقود تبيّن صدق علماء السنة وصحة موقفهم دون أن يضلوا الأمة أو يلمعوا الفجرة المعتدين وينصرونهم ويشقون لهم طريقاً بين المسلمين، وقد أعلن عن خطأ تأييد الشيعة وإيران رموز وجماعات متعددة من أبرزهم الشيخ يوسف القرضاوي الذي صرح بقوله: "ضحكوا عليّ وعلى كثيرين مثلي ... وقفت ضد المشايخ الكبار في السعودية ادعوا لنصرة هؤلاء من يسمى حزب الله حزب الله يبدو أن جماعة العلماء في السعودية كانوا أنضج مني وأبصر مني لأنهم عرفوا هؤلاء على حقيقتهم"، وهذه شجاعة وأمانة تسجل للشيخ القرضاوي.
وفي وقتنا الحاضر تتكرر هذه الفتن بأسماء وحجج جديدة وتظهر فتن جديدة، والعاقل من انشغل بأداء حق الله عز وجل أولاً، ولزم غرز العلماء ورثة الأنبياء في هذه الفتن، واعتبر بقصة الفارق رضي الله عنه يوم صلح الحديبية حين ظن أن الصلح مع كفار قريش فيه الدنيّة، فقال له الصديق رضي الله عنهما: "الزم غرزه- أي أمره ونهيه-، فإني أشهد أنه رسول الله، وأن الحق ما أمر به، ولن يخالف أمر الله، ولن يضيعه الله"، وقد جعل الله ذلك الصلح "فتحاً مبينا".
واليوم عليك بغرز علماء السنة، فإنهم كما قال الإمام أحمد: "الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويحيون بكتاب الله تعالى الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين".
الْزم غرزهم!
2017/08/01
الرابط المختصر
Image