مصطلح "ثقافة الضرار" صكه الأستاذ جمال سلطان قبل ربع قرن تقريبا لوصف موجة الكتابات والمساهمات اليسارية والليبرالية لتحريف الإسلام وتطويعه فكريًا للرؤية العلمانية، وذلك بعد أن فشلت الرؤية اليسارية والماركسية وسقط الاتحاد السوفيتي وتصاعد الحضور الإسلامي في المجتمعات العربية والإسلامية.
ومأخذ الأستاذ جمال سلطان في إطلاق هذا الوصف على هذه الكتابات العلمانية أنها تشبه مسجد المنافقين زمن النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لنشر ورعاية نفاقهم أقاموا مسجدا كستار! لكن الله عز وجل أنزل فيه قوله: "والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله".
وهؤلاء اليوم اتخذوا من الحديث في قضايا الدين في الصحف والفضائيات ستارا لتقويض الإسلام نفسه، فبعضهم يشتغل على تحريف أحكام الإسلام وتزوير معاني الشريعة، وبعضهم يعمل على نفي أصل الدين من خلال إنكار ربانية الوحي واعتباره نصًّا كسائر النصوص البشرية، وبذلك يفتح الباب واسعا لإسقاط العقيدة والشريعة باسم القراءة الجديدة!
الجديد في ثقافة الضرار اليوم أنها تخاطب عموم الجمهور من خلال شاشات الفضائيات بعد أن كانت مقصورة على النخب ومتابعي المنظرين العلمانيين، ومن جهة أخرى أصبحت ثقافة الضرار اليوم تركز على تحليل الحرام والشهوات والفواحش وتمييع قيمة الدين مما يجتذب شريحة واسعة ممن يحاولون جمع الدين والملذات!
أهوى هوى الدين واللذات تعجبني فكيف لي بهوى اللذات والدين
إن لجوء منافقي الفكر -بحسب سلطان- لمحاربة الإسلام اليوم من خلال شعارات ومفاهيم إسلامية يتم تحريفها وتحويرها هي حيلة قديمة ومتكررة، فما نشاهده ونسمعه ونقرؤه اليوم من طعن وتشويه لأحكام الإسلام من خبثاء برامج التوك شو وغيرهم هو اجترار لما كتبه عتاولة ثقافة الضرار قبل ربع قرن، وقد رصد جمال سلطان ذلك في عدد من كتبه التى لا يعرفها كثير من الجيل الحاضر مثل: ثقافة الضرار، غزو من الداخل، أدب الردة، دفاع عن ثقافتنا.
وإذا كان البعض يظن أن هذا الاتهام لمنظري العلمانية العرب بعدائهم للإسلام نفسه وليس الإسلاميين فقط من تجليات نظرية المؤامرة، فأنقل له شهادة د. رضوان السيد، الذي يعدّ من رواد التنوير الإسلامي العلماني، إذ يقول في مقابلة حديثة مع موقع قناة العربية (2/2/2017م) يقول فيها: "قال لي مستشرق فرنسي عام 1998: مفكّروكم جميعاً مصابون بمرض كراهية الإسلام والخوف منه، وهم يعتبرون أنّ الجمهور غير مؤهَّل للتقدم إلا إذا ترك موروثه الديني! وقد تربَّى على أيدي الكبار هؤلاء جيلان من العرب كتبوا مئات الدراسات في ضرورات القطيعة وشروطها من أجل التقدم".
ولكن هل هذه الشبهات والمطاعن حول الإسلام هي من بنات أفكارهم ومن إبداع أقلامهم؟ يجيبنا أيضا جمال سلطان في كتابه (جذور الانحراف) أن هذه التنظيرات السلبية تجاه الإسلام هي نتاج ترديد وتطوير شبهات المستشرقين عموما، وأنه قد سبق تكرار هذه الشبهات وترويجها في مرحلة سابقة قبل ٢٠٠ سنة، فرفاعة الطهطاوي وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد وطه حسين، هم الرواد الأوائل الذين كانوا الجسر الذي عبرت عليه ثقافة الضرار إلى أمتنا، حين تشربوا حضارة ومفاهيم الغزاة الأوروبيين تحت وطأة الهزيمة النفسية والفكرية.
واليوم يعيد أفراخ ثقافة الضرار المأساة من جديد ، فتحْت وقع الهزيمة أمام جحافل العولمة يتم إعادة اجترار الشبهات والاتهامات الاستشراقية والقذف بها في وجوه الناس يوميا من على منابر الفضائيات عبر عمائم مزورة أو شخصيات منحرفة.
إن فهم وإدراك حقيقة وخطر ثقافة الضرار التي يحقن بها الناس بشكل جماعي كإحدى أدوات حرب الأفكار والحرب الناعمة ضد الإسلام والمسلمين يستلزم مقاومة فكرية وإعلامية واعية تعمل على ترسيخ القناعة بأصول الدين وأحقيتها وعقلانيتها وبطلان التدين الذي يروج له أفراخ ثقافة الضرار، وأيضا يلزم تنبيه الجمهور لحقيقة أفكار وأخلاق وسلوك أفراخ الضرار، مما يحصن الأمة من شبهاتهم ويحاصر أكاذيبهم المتكررة والمتجددة.
وأخيراً ينبغى استحضار أن النفاق ومساجد ومنابر الضرار لا تظهر ولا تكثر إلا في حالة قوة الإسلام، واليوم رغم أننا نعاني من ضعف القوة المادية للإسلام، إلاّ أن قوته المعنوية في تقدم وازدياد والحمد لله، ولذلك فإن عدم إدراك بعض المسلمين لهذه القوة المعنوية في الحالة الإسلامية يدفعهم لبعض التنازلات عن بعض الثوابت وبشكل خاطئ، وأسوأ من ذلك تراجع بعض شباب أهل السنة عن ثوابتهم الشرعية تحت ضغط الإعلام والحرب الفكرية لمسارات علمانية صريحة أو علمانية مضمرة تحت يافطات شرعية أو انسياقا خلف شخصيات محسوبة على الإسلام المطوّر والمنفتح وما شابه ذلك من مصطلحات براقة "كسَراب بِقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا".
ثقافة الضرار في شكل جديد
2017/02/01
الرابط المختصر
Image