تمهيد: تفاقمت ظاهرة الغلو والتطرف والإرهاب في واقعنا المعاصر لتصبح من أكبر التحديات التي تشهدها أمتنا اليوم بعد أن كانت ردة فعل ساذجة، وهذه طبيعة الضلال والانحراف، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالبدع تكون في أوّلها شبراً، ثم تكثر في الأتباع، حتى تصير أذرعاً، وأميالاً، وفراسخ"([1])، وهذا واقعٌ في تطور فكر جماعات العنف عبر عدة عقود، حيث أصبح تكفير غالبية المسلمين هو معتقدها بعد أن كان الدفاع عن المسلمين هو مبرّر تشكيلها!
... في هذه السلسلة سنتناول العوامل التاريخية والسياسية والأمنية والثقافية لظهور جماعات العنف والقتال، ومن ثم مسار تطورها التاريخي ومسار تطور انحرافها الفكري والنتائج الكارثية لها على الإسلام والمسلمين، مع التنبيه على الثغرات التي تضخّمت وتفاقمت من خلالها هذه الظاهرة السلبية، وسيكون الإطار الزمني والمكاني الذي نتناوله في هذه المقالات هو منذ انتهاء حقبة الاحتلال الأجنبي وقيام الدول العربية (المستقلة) التي لم تلبِّ طموحات شعوبها، وتصادمت مع هوية الجماهير، مما ولّد مناخا مأزوما، وظهرت فيه ردات فعل عنيفة، عُرفت بجماعات الجهاد.
********
أولاً: الساحة المصرية
3- جماعة المسلمين، شكري مصطفى
لقد تسبب الظلم المتمثل بالسجن والتعذيب في سنوات 1954 وما بعدها، حتى سنة 1964 في بروز مناخ غاضب مائل للعنف والتكفير ضد السلطة في المجتمع المصري، سواء في داخل السجون أو خارجها، ونتج عن ذلك ظهور مجموعات تتبنى تكفير جمال عبد الناصر وتسعى إلى ترتيب انقلاب عسكري عليه من داخل الجيش، وبدأت هذه التنظيمات بدءا من سنة 58 حتى كانت أول محاولة على يد تنظيم د. صالح سرية سنة 74.
لكن حملة الاعتقالات التي قام بها عسكر جمال عبد الناصر سنة 1965 والتي كشفت عن تنظيم سيد قطب الجديد داخل الإخوان تسببت بظهور موجة جديدة من العنف والتكفير استهدفت المجتمع المصري نفسه، ولم تكتفِ بتكفير وقتال رأس السلطة وعساكره، وذلك بظهور فكر جماعة المسلمين على يد الشيخ علي إسماعيل ومن ثم شكري مصطفى، الذي تورط في عدد من العمليات الإرهابية كان أبرزها خطف وقتل الشيخ محمد حسين الذهبي وزير الأوقاف المصري.
فما هي تفاصيل ميلاد هذا الفكر؟ وما مساراته وتطوراته؟ وما هي الكوارث التي سبّبها للعمل الإسلامي؟
أصل الحكاية في السجن
في سنة 1965 قام الأمن المصري ببضعة اعتقالات عشوائية في صفوف الإخوان المسلمين نتج عنها كشف تنظيم الإخوان الجديد الذي يقوده سيد قطب، ولم يكتفِ عسكر عبد الناصر باعتقال أعضاء التنظيم الجديد، بل قاموا باعتقالات طالت كل الإخوان المسلمين، الذين في التنظيم والذين خارج التنظيم وخارج السجن، حتى بلغ عدد المعتقلين عشرات الآلاف([2]) بينما كان أعضاء التنظيم حوالي 300 شخص فقط!! ولم يقف الأمر عند ذلك بل طال الكثير من أعضاء الجماعات الإسلامية الأخرى كأنصار السنة النبوية وجماعة الدعوة والتبليغ والجمعية الشرعية، بل حتى بعض الشخصيات والرموز المستقلة مثل الأستاذ محمود شاكر وفؤاد سراج الدين([3])!
ومن ضمن المعتقلين كان الشيخ علي إسماعيل، خريج الأزهر وشقيق عبد الفتاح إسماعيل، الذي كان "دينامو" تنظيم 65، والذي أعدم في القضية مع سيد قطب ومحمد هواش فقط دون بقية المعتقلين، حيث أعدم سيد قطب باعتباره المنظر لهذا الفكر ومحمد هواش باعتباره البديل الفكري لسيد قطب وعبد الفتاح إسماعيل باعتباره محرك التنظيم.
ومن ضمن المعتقلين شاب صغير كان لا يزال في السنة الثالثة في كلية الزراعة اسمه شكري مصطفى، ويبدو أنه كان من الشباب الذين جذبتهم نشاطات الإخوان السرية في ذلك الوقت، أو كان من الشباب الذين انضموا لحلقات تنظيم 65 دون أن يعرف عن ذلك، كما سيأتي في شهادة أحمد رائف.
وقد تعرض المعتقلون لتعذيب شديد وظلم كبير كعادة نظام عبد الناصر، وبعد انتهاء المحاكمات الهزلية وإعدام سيد قطب وهواش وعبدالفتاح في سنة 1966، هدأت الأحوال قليلا في السجن، ولكن في عام 1967م طُلب من المعتقلين إرسال برقيات تأييد لعبد الناصر عقب إغلاقه خليج العقبة أملا في الإفراج عنهم، وهو طلب تكرر عدة مرات من قبل في سجون عبد الناصر، فأرسل الجميع برقيات التأييد بسبب أجواء الحرب، إلا مجموعة صغيرة رفضت التأييد لأنها تعتقد كفرَ عبد الناصر وعمالته لليهود، وقد كانت بحدود 31 شخصا فقط، منهم محمد قطب ومأمون الهضيبي وأحمد نصير وعلي إسماعيل وشكري مصطفى، وبعد التحقيق معهم صدر قرار بإعدامهم، وتم عزلهم عن بقية المساجين([4]).
مِن بين هذه المجموعة خرج فكر تكفير المسلمين كما يقرر أحمد رائف، فيقول: "ومن الطريف أن فكرة تكفير المجتمع كانت قد ظهرت بين أصحاب زنازين شمال بعد ذلك الظلم الذي أصابهم، والقتل الذي كان ينتظرهم يوم خمسة يونيو، وسمعتُ بهذا وناديتهم من الفناء: أصحيح أنكم تكفّروننا؟
وردّ المرحوم أحمد نصير، وكان جاري في عنبر 12: نعم.
وامتلأتُ دهشة: أتروننا كذلك؟ لسنا من أهل القبلة؟
وهل ترون أنفسكم من المسلمين؟ الإيمان والكفر كلمات تقال.
... وعدت شاردا واجما أفكّر فيما قاله المرحوم أحمد نصير، وأنا أعجب كل العجب. كيف يفكّرون على هذا النحو؟ ولا شك أن الحكومة هي التي غرست في رؤوسهم هذا التفكير بظلمها وانحرافها وجهلها"([5]).
واللافت للنظر هنا أن أحمد نصير هو ابن أخت سيد قطب، والذي يفتخر ويعتز بفكر خاله سيد في تكفير عبد الناصر علنًا في ندوات السجن لغسيل عقول المساجين([6])، وكان أحمد نصير وابن خالته عزمي بكر شافع مسجونين مع خالهم محمد بعد إعدام سيد رحمه الله، وهذا يذكرنا مرة أخرى بأن بعض من اقتنع بفكر سيد قطب سنة 62 من المساجين أخذ يصرح بتكفير الناس، وهذا يدلل على خطورة فكر سيد قطب، خاصة في مناخ الأزمات، وأنه في أقل أحواله قابل للتطرف والغلو والتكفير، حتى أن د. عبد المنعم أبو الفتوح يعتبر شكري مصطفى وجماعته وتنظيم صالح سرية من نتاج تنظيم 65([7]).
وممن تبنى التكفير في السجن وكان له دور بارز في ذلك بحكم خلفيته الأزهرية علي إسماعيل، والذي يروي لأحمد رائف أن التعذيب الرهيب والكفر الذي كان يتلفظ به الضباط كان السبب في دفعه لتكفيرهم وتعميم ذلك على الجميع، ولكنه عقب موت عبد الناصر سكنت نفسه واستطاع العقلاء، ومنهم المرشد الهضيبي، أن يصلحوا من حاله([8]).
ونجد مزيدا من التوضيح لواقع التطرف والغلو والتكفير في السجون عقب سنة 1965 وبداية تشكل فكر شكري مصطفى عند إبراهيم الزعفراني، وهو أحد قيادات الإخوان المسلمين السابقين، حيث ينقل عن الشيخ علي إسماعيل قصة بداية الغلو في فكر الغلو والتكفير الذي سيحمل رايته لاحقا شكري مصطفى، فيقول الزعفراني: "حكى فضيلة الشيخ علي عبده إسماعيل، وهو مؤسس فكر هذه الجماعة وأول أمير لها وهو شيخ أزهري سُجن مع الإخوان المسلمين فى الستينيات، وهو أخ شقيق للشهيد الشيخ/ عبد الفتاح إسماعيل، نحسبه كذلك ولا نُزكّي على الله أحدا، وهو أحد قادة الإخوان الذين أعدمهم عبد الناصر، قال فضيلته:
خرجتُ ذات مرة أصلّي فى السجن فرأيت بعض الإخوان يصلّون وحدهم دون الجماعة، فثارت ثائرتي لذلك وأنكرت عليهم ذلك، وجاءني كلا الطرفين لشرح الموقف واكتشفتُ أن الفريق الأعظم من الإخوان المسلمين لا يقولون بكفر الحاكم والنظام، ويعدّون عامة الناس مسلمين، فى حين أن عددا منهم -بسبب ما وقعوا فيه من تعذيب وتجرؤ المعذبين على دين الإسلام أثناء التعذيب-، هؤلاء يقولون إن الحاكم كافر وإن أعوانه كفرة وإن الناس -برضاهم وسكوتهم عن الحاكم- هم كفرة أيضا، فوقعتُ في حيرة من أمري حيال الرأيين!
ثم ما لبثتُ أن خرجت برأي ثالث اعتقدتُ أنه وسط بين الرأيين، وهو أن من يسمي نفسه بأسماء المسلمين أو يحمل في بطاقته الديانة (مسلم) فلا نحكم عليه بالإسلام ولا بالكفر، ولكن نتوقف في الحكم عليه حتى نتبيّن إسلامه من كفره، ومن هنا نشأ مذهب (التوقف والتبيين).
ويستطرد قائلا: لقد حاروتُ كلا الفريقين في السجن وكنتُ مؤهلا بوصفي شيخا أزهريا أن أدافع عن آرائي، وتتلمذ على يدي كل من شكري مصطفى وعبد الله السماوي، وكانا شابّين في العشرينات، وكان شكري يسجل كل مناظراتي مع الخصوم ويرتّبها ويستعملها في مناظراته، وذات يوم جلستُ مع نفسي أراجع نظرية (التوقف والتبيين) فوجدتُ أن عليّ أن أنشئ فقهاً جديدا لم يسبقني به أحد من أهل الفقه الأولين هو فقه المتوقف فيهم، فمثلا (هل يجوز لزوجة المتوقف فيه أن تظل على ذمته؟ وإذا مات المتوقف فيه قبل تبيّن إسلامه يرثه أولاده أم لا؟ هل يُدفن في مدافن المسلمين أم ننشئ مدافن تسمى مدافن المتوقف فيهم؟) وغيرها من المسائل الفقهية التي تستلزم أن أخرج على الأمة الإسلامية بفقه جديد لم يسبقني إليه أحد من أهل السنة.
واستفقتُ على ما استدرجني الشيطان إليه ليجعل مني رأساً لبدعة ضالة مضلة، وفي صباح اليوم التالي جمعت الإخوان في السجن ووقفت وسطهم أعلن براءتي من نظرية (التوقف والتبيين). وما أن فعلت ذلك حتى صاح كل من شكري مصطفى وعبد الله السماوي واتهماني بالجبن، وأنهما سيظلان متمسكين بهذه النظرية رغم رجوعي"([9]).
وفي هذه الرواية عدة فوائد مهمة لتاريخ التكفير والغلو، هي:
1 - هناك انقسام في صفوف جماعة الإخوان حول تكفير عبد الناصر والعسكر وعموم الناس، فالغالب على قدماء السجناء من الإخوان المسلمين الذين سجنوا في سنة 1954 أنهم لا يرون تكفير عبد الناصر والمجتمع، بينما الذين تأثروا بسيد قطب سنة 62 في السجن أو الذين تأثروا بسيد قطب عبر تنظيم 65 يكفّرون عبدالناصر وعسكره وحكومته وبعضهم كفّر المجتمع الصامت عن جرائم عبد الناصر، وبعضهم كفر رفقاءه في السجن كما في قصة أحمد نصير.
ويؤيد هذا ما حكاه أحمد عبد المجيد، أحد القياديين الخمسة في تنظيم 65، حيث ذكر انقسام سجناء الإخوان حول فكر سيد قطب فقال: "فعندما وصل (سجناء) إخوان 1965 إلى (سجن) قنا، طلب منهم الإخوان القدامى المحكوم عليهم في عام 1954 -بعد فترة من استقرارهم- كتابة بعض الأوراق الخاصة بآرائهم، وقالوا إننا نريد أن نسمع منكم بعد الزوبعة التي أثيرت حولكم، والكلام الذي قيل عنكم بأنكم تكفّرون الناس، وتصدرون الأحكام السريعة، وترمون الحاكم بالكفر، وقد ساهمت أجهزة الإعلام المختلفة في ذلك، وقد أوضح لهم إخوان 1965 الأمر وأنهم لا يقولون بذلك، ولا نكفر أحدًا دون ضوابط شرعية، ثم إنه ليست قضيتنا هي إصدار الأحكام على الناس والانشغال بذلك، بل نحن ندعو الناس إلى الإسلام بصورته الواضحة الناصعة التي نزل بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع تبيان ما هم فيه من الانحراف عن منهج الله حتى يفيقوا ويرجعوا إلى الله.
وبعدها تم كتابة مذكرة تقع في أربع وثلاثين صفحة (فولسكاب) تشرح جوانب العقيدة، وما عليه أعضاء تنظيم 1965، اشترك في كتابتها البعض أذكر منهم الشيخ فتحي رفاعي، مبارك عبد العظيم، وعبد المجيد الشاذلي. وبعد فترة من تسلّمهم هذه المذكرة، قالوا إنه سيحضر مذكرات في هذا الشأن تعالج القضايا والاستفسارات المثارة وستكون من الأستاذ المرشد وعلينا جميعًا أن ننتظر ذلك.
وبعد فترة وصل خطاب من فضيلة الأستاذ حسن الهضيبي – المرشد العام – كان مما جاء فيه: "... وما كنتُ أعلم أن صاحب الظلال قد غيّر في مفهوم الجماعة". وكانت صدمة شديدة لأفراد قضية 1965 بالذات، فهل سيد قطب بعد ما بذل وجاهد حتى قتله الطغاة، تكون هذه نظرة الجماعة إليه؟
وكان بعضهم يقول إننا نعلم أن سيدًا اقتفى أثر أهل السنة والجماعة فيما قال وكتب ولم يأتِ ببدع جديد ثم قال إنه غيّر في مفهوم الجماعة، وهل مفهوم الجماعة يخالف ما عليه السلف؟
وحدثت تساؤلات واستفسارات كثيرة، مع حيرة واضطراب ودوامة عاش فيها هؤلاء الشباب في تلك الأيام واستمر تأثيرها فيما بعد.
وكان بالإمكان التريث والتأكد قبل الوصول لإثارة النفوس ولكن لم يحدث ذلك، ولم تمضِ فترة طويلة حتى وصلت تلك المذكرات التي عارضها إخوان 1965 جميعًا بلا استثناء وكذلك بعض إخوان 1954، والبعض أبدى عليها بعض الملاحظات، أما بقية إخوان 1954 فقد وافقوا عليها بلا تحفظ باعتبارها تتفق مع آرائهم، إلى جانب أنها صادرة من الأستاذ المرشد – رحمه الله – باستثناء البعض منهم كما ذكرت.
وأعيدت للأستاذ المرشد – في مزرعة طره – مع الملاحظات، والاعتراضات، وعلمنا أن كثيرًا من إخوان طره والمزرعة والقناطر أيضًا لهم اعتراضات واستفسارات كثيرة على ما ورد فيها. فجزاهم الله خيرًا على صبرهم الطويل وما لاقوه، بعد أن سجلوا صفحة ناصعة لموكب الدعاة، وما يلقونه في سبيل الله"([10])، ويؤيد هذه القصة د. السيد عبد الستار الذي يقول عن (كشكول) دعاة لا قضاة: "صارت عملية تمرير هذا الكشكول على مجموعة من المعتقلين الذين انفردوا بفكر خاص بهم، وكان على رأسهم الأستاذ محمد قطب وشكري مصطفى وعلي عبده إسماعيل، وكثير ممّن يسمون "بالقطبيين"، أصحاب الفكر الجديد في الإخوان المسلمين.
وطلب محمد قطب ترتيب جلسة مع الأستاذ الهضيبي ليستفسر منه على بعض النقاط... في المسجد القديم.. وانتهى الاجتماع بين الاثنين على عدم وفاق واقتناع"([11]).
ويصف أحمد رائف هذا الخلاف بالانشقاق فيقول: "وكان الانشقاق قد حدث بين الإخوان حول مفهوم الدعوة واستراتيجية الحركة، والأطروحات التي ينبغي طرحها للناس. وكانت مشكلة المستشار الهضيبي تتلخص في كلمات: لا نكفّر مسلما نطق بالشهادتين. ويضيف إليها شكري مصطفي ومِن قبله محمد قطب: وعمل بمقتضاها.
... وكانت ترتب الاجتماعات في المسجد المهجور القائم بجوار المستشفى في معتقل طرة السياسي في عز الظهيرة حيث لا يتجول إنسان.
وكان المرحوم الإمام الهضيبي -على مرضه وسنّه- ينتقل إلى هناك ليجلس إلى الأستاذ محمد قطب وتلاميذه ويحاورهم ويناقشهم ويحاول أن يردّهم إلى ساحة الجماعة"([12]).
2- من حكاية علي إسماعيل يتكرر استنتاج أن الفريق الذي يميل للتكفير والغلو فيه كان له صلة مباشرة أو غير مباشرة بسيد قطب، فعلي إسماعيل هو شقيق عبد الفتاح إسماعيل، الذي كان دينامو تنظيم 65 وكان له مشاركة في التنظيم بحسب رواية علي العشماوي، ولذلك قُبض عليه، وبحسب رواية أحمد عبد المجيد أنه قبض على علي بسبب عدم القبض على شقيقه عبد الفتاح! وإن كان يمكن جمع الروايتين أن الهدف الأساسي كان هو عبد الفتاح لكن جرت عادة عسكر عبد الناصر القبض على أقرباء الهارب أو المختفي، فكيف إذا كان عضوا بالإخوان وشيخا أزهريا!
ويلزم التذكير هنا أن علي إسماعيل، بعد الإفراج عنه في عهد السادات، كان هو السبب في تعريف طلال الأنصاري ومجموعته التي تربت على كتب سيد قطب على زينب الغزالي والمرشد حسن الهضيبي ومن ثم انضموا لصالح سرية في تنظيمه، وهم يظنون أنهم لا زالوا مع جماعة الإخوان([13]) كما أن علي إسماعيل وشكري مصطفى كانا مع محمد قطب في نفس العنبر بالسجن([14]).
ولذلك يمكن الإقرار بـأن "كلام سيد قطب -بغضّ النظر عن مراده منه بالفعل- صار أحد البذور المهمة التي أثمرت الاتجاهات القطبية الجهادية والتكفيرية التي نشأت في مصر في الستينات والسبعينات"([15]).
3- هذه القصة تبيّن لنا أن شكري مصطفى كان ضحية لفكر الغلو والتكفير وليس منشئا له، وهو ما سنَشرحه لاحقا، وقد يكون محاولة البعض تضخيم دور شكري مصطفى للتغطية على الدور السلبي لفكر سيد قطب، الذي بدل معالجة أخطائه بتنقيح كتبه وإزالة المواضع المبهمة فيها على الأقل، بقي الإصرار على طبعها كما هي برغم ما تولد عن ذلك من نتائج سلبية عبر هذه السنوات الطويلة!
4- نتج عن الظلم والتعذيب في السجن والفكر الغالي والتكفيري ظهور عدة جماعات تكفيرية في داخل السجن "الجماعات الإسلامية الجديدة بمعتقل طرة السياسي والتي تجاوزت الثلاثين، وعدد أفرادها مجتمعين لا يتعدى العشرين"!!([16])، ولاحقا بعد الإفراج عن المعتقلين زادت فرقة هذه الجماعات، ويحدثنا عنها د. إبراهيم الزعفراني: "استمر هذا الفكر التكفيرى ينتشر داخل طبقة الشباب حتى أوائل السبعينيات حتى بعد السنوات الأولى لخروج عدد من الإخوان من السجون في عهد الرئيس السادات، وكان عددٌ قليل منهم يحملون الفكر التكفيري، مثلا في الإسكندرية أ. محمد سالم وأ. محمد عبد المجيد، وكانوا قيادات سابقة لإخوان الإسكندرية، بل وتكونت جماعات تحمل هذا الفكر أكبرها جماعة التكفير والهجرة التى كانت تسمي نفسها (جماعة المسلمين)، ولا أبالغ إن قلت أن عدد هذه الجماعات كان بالمئات وكل جماعة منهم تزعم أنها تمثل جماعة المسلمين وتكفّر الجماعات الأخرى، بل وكانت بعض الجماعات تكفّر الخارجين عليها وتعتدي عليهم بالضرب وأحيانا بالقتل"([17])، وهذه طبيعة الغلو والتكفير التشرذم والتفتت ومعاداة الاجتماع والوحدة، ومن ذلك ما نعيشه –لليوم- من انشقاقات جماعات العنف والتطرف على بعضها البعض ومن أبرزها في حاضرنا انشقاق داعش عن القاعدة!
5- تقدم لنا هذه القصة مثالا حيا ومعاصرا على كيفية تولّد البدع من بعضها البعض، وكيف تكبر وتتضخم بسبب الجهل، فعلي إسماعيل وجد فريقين الأول يكفّر بحق وبغير حق، والآخر يتهاون في تعظيم حرمات الله، فلم يكتف بذلك بل ابتدع قولا جديدا لا سند له شرعيا، ثم بدأ ينزل تطبيقات اجتماعية له، وبعد تراجعه أصر شكري مصطفى وعبد الله السماوي على المضي في الغلو مع جهلهما وصغر سنهما، ثم لم يكتفيا بغلو شيخهما المتراجع، بل زادا على ذلك كثيرا وخاصة شكري، وسوف نعرض ذلك بعد قليل.
6- أيضا هذه القصة تقدم لنا دليلا على ضرورة نشر العلم والتزامه للوقاية من الفتن والغلو، فعلي إسماعيل تمكّن من التيقظ لخلل مساره وغلوه برحمة من الله عز وجل وتوفيقه أولا، ثم بما لديه من رصيد علمي أزهري تم استثماره للخروج من الفتنة.
شخصية شكري مصطفى وتدرجه في الغلو والتكفير
شكري مصطفي من مواليد سنة 1942م، وحين قبض عليه سنة 1965 كان عمره 23 سنة، وفي السنة الثالثة من كلية الزراعة، وكان شابا عاديا من شباب الإخوان المسلمين ليس له أي معرفة أو شأن في العمل الإسلامي، ولكن قدّر الله له أن يُسجن مع الزعماء وخاصة مجموعة محمد قطب، ومن هنا بدأت مسيرته في الغلو والتطرف.
وسنعتمد شهادة رفيقه في رحلة السجن أحمد رائف حيث يقول: "ترجع معرفتي بشكري مصطفى إلى أيام التعذيب الأولى بالسجن الحربي، ثم رجعنا إلى معتقل أبي زعبل على قدر، وجمعنا عنبر الزعماء -هكذا كانوا يسمونه- ثم انفصل مع الآخرين إلى زنازين الشمال عندما رفضوا تأييد "الملهم"([18]) "ثم غادرنا معتقل أبي زعبل السياسي وغادره معنا أهل زنازين شمال، وذهب الجميع إلى معتقل طرة السياسي"([19]).
أما نشأته الأسرية فيتحدث عنها أحمد رائف بقوله([20]): "كانت ظروفه الأسرية شديدة فقد طلقت أمه، وتزوج أبوه امرأة أخرى وتزوجت أمه رجلا آخر، وهو لا يدري أين يذهب بعد الإفراج عنه، وكان كثيرا ما يتندر بهذه الحالة ويقول ضاحكا: هذا الاعتقال حلّ لي الكثير من المشكلات".
أما عن شخصيته وتكوينه الشرعي فيقول أحمد رائف: "قد جاء صدفة إلى السجن الحربي وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره -هذا خطأ لا يناسب تاريخ مولده ولا دراسته!- وعذّب مثل الآخرين، ... وفوجئت به في عنبر الزعماء وهو الغلام الحدث، وفوجئت أنه لا يعرف الكثير أو القليل عن الإسلام، اللهم إلا الصلاة، ... كان يسكن في العنبر على مقربة مني، وكان هذا أدعى للأحاديث الكثيرة بيننا، كنتُ في أغلبها المتحدث الذي يجيب على أسئلته الكثيرة النهمة، فهو يريد أن يعرف قصة الإخوان المسلمين وكيف اعتقلوا؟ ولماذا؟ وما هو الجهاد في سبيل الله؟ وكيف قامت دولة الإسلام في سالف عهدها؟ وما معنى دين ودولة؟ مصحف وسيف؟ كان يَسأل ويَسأل ولا يفعل أكثر من ذلك، وفيما عدا ذلك فهو مهرّج مع المهرّجين، ضاحك مع الضاحكين في مرح بالغ".
ثم بدأ بالتحول قليلا كما يقول رائف: "ثم انتابته حالة ... فهو يصمت ويستمر في الصمت حتى أنه لا يتبادل الحديث مع أحد بالمرّة، واقتربتُ منه أيامها وكنت الذي أجيب على أسئلته الكثيرة أسأله عن سبب صمته المريب فلا يجيب، ويكتفي بالقعود على بطّانيته محدقا في لا شيء، ويأكل في موعد الطعام ويصلي مع المصلّين، وإذا خرجنا إلى طابور الفسحة لا يخرج معنا ويكتفي بالجلوس وحيدا في العنبر متأملا محدقا حتى يعود الناس، وتطور الأمر معه فصار يصلي في الليل، وكان في العنبر كثير يفعلون هذا، وانضمّ إليهم وصار واحدا ممّن يقيمون الليل.
وكففت عن سؤاله عن سبب صمته واكتفيت بملاحظته عن كثب أحاول أن أدرك ما يفكر فيه بلا فائدة حتى جاء اليوم الذي رفض فيه التوقيع على التأييد، وانحلّت عقدة لسانه وصار مرحا ثرثارا كما كان من قبل.... وقال لى بشوشا: لعلك تعجب من عدم توقيعي على التأييد؟
في الحقيقة نعم.
تريد أن تعرف السبب؟ وقلت له ملحّا: لو سمحت.
وتنهّد شكري مصطفى تنهيدة طويلة ملأت عينيه بالحزن وفارقه مرحه وبدا جاداً صارما: قد رأيت ما حلّ بنا وما فعلته الحكومة معنا، استباحت أبناءها وضربتهم بالسياط وقتلتهم واغتصبت الفتيات والأطفال، قد رأيت بنفسك هذا هنا في هذا المكان، وفي السجن الحربي كنا سويّا، وصنّفوني من الزعماء ولست كذلك، قد عرفت هذا بنفسك. لقد سمعت منك قصة الإسلام بالتفصيل لم أسمعها من قبل، وكلما ازددت معرفةً ازددت غيظا، والظن أنه إن لم تأتني هذه الفرصة للمعارضة وإعلانها لمتّ كمداً، أقل ما نفعله لحكومة مثل هذه التي تحكمنا أن نظهر لها احتقارنا لها، هذا أقل ما ينبغي علينا فعله، ولو استطعت أكثر من هذا ما ترددت"، وهو هنا يتحدث عن تأييد عبد الناصر في حرب 67 وسبق الإشارة إليه، وواضح هنا تأثير الظلم بالسجن والتعذيب على شخصية شكري.
وفي قصة شكري خطأ يتكرر كثيرا في السجون وهو خلط الشباب الصغار أو المساجين الجنائيين مع شخصيات فكرية أو رمزية في جماعات العنف مما يحوّل هؤلاء الشباب لمسار العنف والتطرف، فشكري في محيط يعلن كفر الرئيس والحكومة ومعاونيه على لسان محمد قطب([21])، ثم يكفّر أحمد نصير بقية السجناء وهو ابن شقيقة محمد قطب([22])، ثم كانت فتنة علي إسماعيل بابتداع التوقف والتبيّن والتي استمسك بها شكري ثم غلا فيها وزاد.
ويواصل أحمد رائف تسجيل تطور شخصية شكري مصطفى فيقول: "كان عنبر اثنين هو أعظم العنابر خطرا على الإدارة والحكومة، وكان في تسلسله يبدأ بغرفة اثنين حيث بها شكري مصطفى ومحمود حلمي والشيخ علي إسماعيل وعبدالله بن أحمد السماوي وآخرون يبلغ عددهم حوالي العشرين حيث الحدة في تناول الأمور من وطأة الاعتقال الرهيب والتعذيب البشع الذي كان.
ثم انتقل محمود حلمي وآخرون إلى غرفة ثلاثة حيث محمد قطب "والعشرات" وهي طبقة الذين قضوا عشر سنين كاملة في السجن دون تأييد، وهؤلاء أقل حدة"([23]). "وكانت غرفة اثنين حيث شكري مصطفى ومن معه تضطرم بالثورة العارمة، شكري يريد أن يعلنها حربا على العالم أجمع، ومن ليس معه فهو من الكافرين، وعنبره هو سفينة نوح والناجي من ركب فيها، ومن ليس معه فهو عليه، كانت نفسه تضطرم بالغضب والرغبة بالانتقام، ويعلن هذا في كل مكان ولكل شخص، وكلّمه العقلاء والحكماء بلا فائدة، وصار الغضب يغلي في صدره حتى جافاه النوم فهو يقطع الليل جيئة وذهابا في الممر الطويل صامتا متأملا يفكر كيف يبدأ ومتى يخرج"([24]).
"وتغيرت أحوال شكري مصطفى داخل زنازين شمال. ومن داخل هذه الزنازين نضج فكر الرفض الذي بلغ مداه عندما قالوا بكفر الحكومة، وزادوا في هذا حتى اعتَبروا أن الأرض كلها دار حرب ليس فيها إسلام، وقد تم هذا كله على مراحل"([25]).
وكان غضب شكري المعلن يواجَه بكثير من الحوارات بلا فائدة، منها هذا الحوار الذي نقله أحمد رائف على هامش لقاءات المرشد الهضيبي بمحمد قطب لمحاولة جمع الآراء لكن لم يتم ذلك، وبقي المرشد على رأي، ومحمد قطب على رأي([26]) وشكري وبعض الشباب على رأي ثالث في غاية الغلو والتطرف، يقول أحمد رائف: "وكان شكري مصطفى يرى القتال الضروس والإرهاب، وقتْل كل من اشترك في تعذيب المعتقلين ليكونوا عبرة لغيرهم، ويجب تعليم الشباب معنى الشهادة والتضحية، وأنه لو قتل ضابط واحد فلن يفكر آخر بتعذيب معتقل واحد بعد ذلك... ويقول إنه من العار على المسلمين أن يمسك بهم كالدجاج دون مقاومة ... فلماذا لا نستشهد عندما يفكرون بالقبض علينا ... ولماذا لا نبدؤهم بالحرب؟ .. وكان يقول إننا نستطيع تصفية هذه الحرب لصالحنا بقتل بضع مئات من الضباط قبل أن ينتبهوا.
ويسأله عاقل: وما نتيجة ذلك في نظرك؟
... سوف نخلق جيلا جديدا من الضباط المؤمنين سيخافون من القتل، وينتبهون لكلمة الإسلام، ولن ينفذ واحد منهم الأوامر، نحن نسلب الظالم سيفه الذي يضرب به الناس.
ويهز الشيوخ رؤوسهم أسفا ... ويقول حكيم: أنت تدعو إلى فتنة تأكل الأخضر واليابس"([27])، هكذا كان يفكر شكري في السجن، لكنه حين خرج من السجن هدأ قليلا ووجّه طاقته وغلوّه نحو المجتمع بدلا من النظام ورجالات التعذيب، فهل كان هذا بسبب الغلو في الغلو أم بسبب توجيه خبيث ذكي؟!
يقول رائف إن شكري واجَه حسن طلعت مدير مباحث أمن الدولة حين زارهم في السجن وقال له: "أنت كافر ورئيس جمهوريتك كافر، ولئن أحياني الله وخرجت من المعتقل لأقاتلنّكم قتالا شديداً، ولئن متّ فسوف يأتي من بعدنا من يقضي عليكم ويزيل دولتكم.... وبطبيعة الحال تحركت الرشاشات والتفّ الجند حول شكري مصطفى، وبإشارة يسيرة من مدير المباحث تركوه...
وقام الرجل -حسن طلعت- إلى مبنى الإدارة وصحب معه شكري مصطفى الذي غاب ساعات"!!([28])، ومن يَعرف وحشية أجهزة أمن عبد الناصر يوقن أن ترك شكري حياً لم يكن عبثاً، هذا الاستخدام من الأمن لشكري مصطفى لن يتوقف بل سيصبح نهجا علنيا بعد أن يقيم تنظيمه عقب الإفراج عنه.
واستقلّ شكري بغلوّه عن بقية الإخوان ومجموعة محمد قطب([29]) وبعد عام 68 أصبح شكري يخلو في سجن طرة بالمسجد المهجور الذي شهد اجتماعات الهضيبي ومحمد قطب، فقد كان "شكري عنيفا غضوبا متنائيا عن الناس يمهّد لأمر عظيم سوف يكون بعد الإفراج"([30])، ولم يكن يوافقه إلا شخص واحد ثم انشق عنه وأسس جماعة تبعه فيها شخص واحد أيضًا([31])، وفي سنة 70 كان شكري منبوذا في السجن من الإخوان([32]).
يعلق أحمد رائف بعد سرده لحوار طويل مع شكري مصطفى بقوله: "كان شكري مصطفى مشروعا خطيرا يوشك أن يكون، قد قام المعتقل بإعداده إعدادا جيدا، وأشرف عبد الناصر وضباطه على صناعته، ولم يغفلوا تفصيلة صغيرة فيه"([33])، وفي نبوءة صادقة عن أثر سياسات الظلم الرسمية التي انتهجتها الأنظمة القمعية على شاكلة نظام عبد الناصر اليساري قال أحمد رائف: "وتركتُه ... وأنا أفكر في جريمة عبد الناصر التي ارتكبها في حق هذه الجماهير الممتدة في ذلك الجسد الهائل الممتد من المحيط إلى الخليج، فقد صنع نظاما إرهابيا صار قدوة لكل البلاد المجاورة وهم يقلّدونه، ومن ثم سوف يكون في كل بلد شكري مصطفى آخر بملابس مختلفة ولهجة أخرى، ولكنه سيكون بنفس هذه الروح المدمّرة التي ترفض العلم وتلقي بنفسها في مجهول الخرافة ... عالما قد ملئ بالفتية والفتيات وقد ملئت أخيلتهم بأحلام الشهادة وضباب التضحية من أجل غاية لا يفهمونها ومُثل لا وعي لهم بها، ومن خلال طريق مخوفة مجهولة قد فَرض الوهم نفسه عليها.."([34])، وكم ينطبق هذا الكلام على فتنة داعش في واقعنا المعاصر التي عصفت بآلاف الشباب والشابات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وينقل أحمد رائف عن محمد قطب توقعه الذي تحقق بانتفاش هذه الجماعات التكفيرية الصغيرة، فينقل عن محمد قطب: "قد ترى واحدا ممّن نراهم رائحين وغادين هنا وهناك يبحثون عن نصير لهم أو تابع فلا يجدون، ولكنهم خارج هذا المعتقل سوف يتبعهم الكثيرون، أكثر مما يظن أي أحد، ربما عشرات الألوف أو قل مئات الألوف"([35])، وفعلا سرعان ما تبع شكري مصطفى عدة آلاف وانتشر فكره في عدة دول، واليوم داعش تجد من يصدق أكاذيبها في مختلف دول العالم!
وينبّه أحمد رائف لقضية مهمة وهي غفلة الجماعات الإسلامية، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، عن مثل هذه الحالات وكيف سيكون مستقبلها خطيرا بسبب إغفالها فحص العقائد والأفكار ومراعاة دروس وتجارب التاريخ، يقول رائف لشكري مصطفى: "مشكلة الإخوان أنهم لا يدركون خطورتك، ولا يفكّرون فيك، ولا يتاولونك تناولا جادا، أما أنا فأرى المستقبل لأني قرأت الماضي وفهمتُه، وأكاد أتخيل ما سوف تفعله عندما تغادر هذا المكان"([36])، ويؤيد مختار نوح أن جماعة الإخوان قصّرت في معالجة التطرف فيقول: "إنها أيضاً لم تشارك بصورة جادة أو حقيقية في مواجهة هذه الأفكار بالقول أو بالعمل على الأقل"([37])، وهو الأمر الذي ما يزال يتكرر من الجماعة بالاستخفاف بكثير من بؤر التطرف حتى تتضخم وتجلب الكوارث التي كان يمكن علاجها بقليل من العلم والفطنة وسلامة المنهج والتفكير!
الخلاصة؛ إن شكري مصطفى الشاب الغر المهرج تحت ضغط السجن والتعذيب والكفر الذي لم يكن يتورع عنه عسكر عبد الناصر وبسبب سجنه مع مجموعة محمد قطب تشرب فكر سيد قطب([38]) - ويبدو أنه فقد توازنه في تلقي فكر سيد كبعض من سبق لهم تكفير الناس وتبرأ منهم سيد- فتحول إلى وحش فكري يعتقد كفر كلّ الناس حتى من علّمه الغلو والتكفير إلا نفسه ومن تبعه! ويتوعد السلطة بتكوين جماعة تحاربها!
كل هذا وهو جاهل بالشريعة وسنه آنذاك لم تتجاوز 30 سنة، وتم إطلاق سراحه للمجتمع ليتحول إلى وحش فكري يطبق نظرياته على خصومه قتلا وعدواناً.
شكري مصطفى خارج السجن
أفرج عن شكري عقب وفاة عبد الناصر وقيام السادات بتفريغ السجون سنة 1971، فأكمل دراسته الجامعية وأخذ شكري يطور من أفكاره ويضع لها كتبا يشرحها فيه، وأخذ يدعو الناس لفكره، والأصوب لبدعته وضلاله، ليشكل منهم جماعة لتعبيد الناس لله وإعادة الإسلام في الأرض كلّها.
يقول عبد الرحمن أبو خير عن شخصية شكري في هذه المرحلة: "وكنتُ كلما استمعت إلى الأخ شكري ازددت يقينا في أنه تغير، فلم يعد شكري ذلك الفتى العصبي الذي لا يؤبه بشأنه كما شاهدته آخر مرة في معتقل طره السياسي، لقد كان حينئذ شكري الداعية المكتمل لعناصر الإمامة لولا بقية من الهياج العصبي الذي يدفعه لتجريح محدّثه إن لمس فيه أدنى من ذرة من الخلاف في الرأي"([1]).
فكره:
فكر شكري مصطفى لا قيمة له لأنه فكر رجل جاهل أصلا بالعلوم الشرعية فهو خريج زراعة، ثانيا أخذ فكره بطريقة مشوهة من خلال علي إسماعيل، حين انحرف نحو التكفير وأعاد إحياء فكر الخوارج واخترع بدعة التوقف في الحكم على المسلمين، ولذلك جاء فكر شكري متناقضا ويحوي الأعاجيب، ولم ينطبق فكره على واقعه هو، وهو مثال ساطع على خطورة امتزاج الجهل والبدعة وكيفية تصاعدها لتصبح بدعة ضخمة قد تصل لحد الكفر والخروج من الإسلام!
فهو يكفّر كل الحكام ويكفّر كل أعوانهم في الحكومة والأمن والجيش، ثم يكفّر من لم يكفّرهم من العلماء والناس، ويكفّر العامة بطاعة الحكومات الكافرة، ويكفّر بارتكاب الكبيرة، ومع ذلك يتعاون مع الأمن ضد الحركات الإسلامية الأخرى باسم نصرة الجماعة الحقة ويكذبون على غيرهم!([2])
ومدّ شكري حكم الكفر على كل تاريخ الإسلام من القرن الرابع الهجري بحجة أن التقليد في الإسلام كفر لا يجوز، وأن الاجتهاد واجب على كل مسلم! وأن التقليد كان أول كفر وقع بين المسلمين، والحقيقة إن شكري نفسه كان مقلدا في ذلك للمعتزلة ولابن حزم والشوكاني، وكان أتباعه مقلدين له!!([3])
وقد اضطرته هذه الضلالات لرمي الصحابة بالجهل، وإنكار الإجماع والقياس، والزعم بأنه وجماعته أفضل من جيل الصحابة([4])، ورأى بعض أتباع شكري أن الصحابة وقعت منهم أخطاء، ولو كانوا في عصرنا وعُرض عليهم فهم شكري وجماعته ثم رفضوه لكفروا!([5])
واعتقدوا أن شكروا هو المهدي وأمير المؤمنين الواجب الطاعة والاتباع، برغم أن شكري لا يطابق اسمُه اسمَ النبي صلى الله عليه وسلم، وليس من أهل البيت كما تخبر الأحاديث! وهذا الاعتقاد جعله لا يأبه لأحد من العلماء على جهله وقلة فهمه وبضاعته.
ومن خلال أجوبة شكري لأسئلة المحكمة يلخص مختار نوح فكر شكري بـ: "أن الأصل في أمة الإسلام أنها أمة أميّة لا تقرأ ولا تكتب، ويَحرم عليها تعلم الكتابة، ويفر من أمام إسرائيل ويعتبر أن الأصل هو الفرار من العدو – وهو شخص لم يقرأ الدستور ولا يعرفه، والخلافة عنده هي سلطة مطلقة للإمام على المحكومين-"([6])
وطوام شكري وأتباعه كثيرة وقد سطروها في كتبهم المعروفة، وضلالهم يتطور مع الزمن إما بالغلو فيه أو بالانشقاق عنه وتكوين جماعة ضلال جديدة، أو بالتسلل لمجموعات أخرى وحرفها كما حدث في اختراق بعض أتباع شكري لجماعة جهيمان الذي احتل الكعبة المشرفة! في تدحرج من ضلال إلى ضلال أكبر([7]).
استراتيجية شكري في الدعوة
كان السائد لدى مجموعات العنف السابقة لشكري مصطفى اعتماد أسلوب الانقلاب العسكري من داخل الجيش على الحاكم والاستيلاء على السلطة والحكم، وكان البعض يفضل خيار الثورة الشعبية وحرب العصابات، لأن صراعهم كان مع السلطة، لكن شكري مصطفى ساوى بين السلطة والمجتمع في التكفير ولم يعد مهتما بالمجتمع، ومنها تغيرت استراتيجيته في العمل لإقامة الجماعة المسلمة، ومن هنا اخترق شكري وجماعته لصالح السلطة لضرب المجتمع أو فئات منه لصالح السلطة!
"إن جماعة المسلمين كان لها استراتيجية مغامرة تتسم بالنفس الطويل لأن الحكم "بالكفر" لم يكن قاصرا على النظام... وبالتالي فإن الاستراتيجية الخاصة "بالانقلاب العسكري السريع" لم تكن هي الملائمة لأفكار شكري مصطفى.
وتقوم استراتيجية الجماعة على تحقيق أهدافها من خلال المراحل المختلفة التي تبدأ بتشكيل خلية للجماعة أو "مجتمع صغير من المؤمنين" يكون هو الخطوة الأولى في سبيل تنفيذ استراتيجية الجماعة، التي تجعلها الجماعة على ثلاث مراحل: الأولى هي التبليغ التي يتبعها التنظيم حتى يستطيع نشر أفكارها ودعوتها، تليها الهجرة وهي مرحلة ثانية، وفي هذه المرحلة تنشغل الجماعة ببناء المجتمع المسلم والتدريب على استخدام السلاح ... وقد مارست الجماعة المرحلتين معا حيث هاجر جزء منها للإقامة بالمنيا منذ 1973 في عزلة عن المجتمع، وتأتي المرحلة الأخيرة حين تخرج الجماعة من عزلتها لتفتح الأراضي "الكافرة""([8]).
مسيرة شكري
يلخص مختار نوح محطات حركة جماعة شكري بقوله: "تمثل في كف الأيدي خلال المرحلة الأولى، وفي الإعلان عن الجماعة في المرحلة الثانية، وأخيراً الجهاد من أجل التمكين في المرحلة الثالثة"([9]).
باشر شكري نشاطه ودعوته بمحافظته (أسيوط) ثم انتقل للقاهرة، وكان أول من قبل دعوته ابن اخته ماهر عبد العزيز بكري في عام 1971([10])، وتمكن شكري من استقطاب أتباع له، كان غالبهم من صغار السن والطلبة، والذين كانوا يوظفون في نشر الدعوة مباشرة.
فلم يكن شكري يكتفي من متابعيه بطاعته، بل كان يأمرهم بدعوة الناس لضلالهم، يقول د. السيد عبد الستار: "زارنا في مسجد الفرقان والسيدة عائشة بالنزهة بمصر الجديدة شاب نحيف عليه مظاهر البؤس والفاقة، وعرّفنا بنفسه عبد المحسن تاجر البيض، هكذا باقتضاب شديد، وقال إنه مكلف من أمير المؤمنين شكري مصطفى لإبلاغنا بالحق الذي هم عليه، وطلب أن نناظره، فإن كان على الحق فقد وجبت في أعناقنا بيعته، وبالفعل اجتمعنا في بيت الأخ محمد شريف الفخفاخ... غير أنه اتضح خلال المناقشة أن تاجر البيض خالٍ تماما من المعرفة بالدين وأنه مجرد مردّد لمقولات شكري... خلال عام 1976 بدأ شكري يفرض أفكاره على الناس بالقوة، وحدث هرج ومرج ومشاجرات وسالت دماء في أكثر من حي"([11]).
كما يروي د. عبد المنعم أبو الفتوح أيضًا نشاط أتباع شكري مصطفى في الدعوة لضلالهم وتوزيع كراساتهم بين شباب الجماعة الإسلامية في جامعة القاهرة، ولكنهم رفضوا فكرهم القائم على تكفير المجتمع بالكلية([12]).
هذه كانت الخطوة الأولى في نشر الدعوة/ الضلالة بين الناس، وعقبها جاء تنفيذ الخطوة التالية وهي العزلة والهجرة من المجتمعات الجاهلية للجبال، وفعلا هاجرت مجموعة من الطلبة لجبال المنيا والوجه القبلي في شهر 9 من سنة 1973 بعد أن تصرفوا بالبيع في ممتلكاتهم وزودوا أنفسهم بالمؤن اللازمة والسلاح الأبيض، وسرعان ما قبض عليهم وعلى شكري ولكن أفرج عنهم بعد 6 شهور([13]).
عاود شكري -بعد الإفراج عنه- لنشاطه بقوة وتوسع في إرسال مبعوثين عنه للدول الأخرى للتبشير به وجلب الدعم المالي، فوسع انتشار ضلاله وبدعته لخارج مصر([14])، حيث وصلت السعودية وأفغانستان وباكستان والجزائر([15]).
لقد استطاع ضلال شكري مصطفى أن يجد له قبولا وأتباعا، حيث "أن جماعة التكفير قد أحرزت تواجدا في الجامعة أيضا، وخاصة في بيوت الطلبة المغتربين بالقاهرة وفي المدن الجامعية بالأقاليم ... وفي خارج الجامعة كان تيار التكفير ينتشر انتشار النار في الهشيم لكنها كانت ومضة خاطفة كومض البرق سرعان ما خبت وزالت"([16])، لقد ظهرت "حركة التكفير والهجرة بصورة عملاقة أكبر من حجمها الواقعي أو السياسي وأكبر حتى من حجم المعرفة السياسية لدى مؤسسها"([17]).
نعم زالت قوة تنظيم جماعة شكري لكن فكر التكفير لا يزال حي للآن في بؤر محدودة ومتعددة عبر الدول([18]) وإذا وجد مناخا مناسبا فسينفجر من جديد!
وفي أثناء هذه المسيرة للدعوة كانت تقع مشادات مع الرافضين لفكره من قبل الدعاة والجماعات الإسلامية ومن المنشقّين عنه أو التائبين عن غلوه وتكفيره ومن العلماء الرسميين الذين يفندون شبهاته وأباطيله.
"وكان التيار السلفي (الجهادي والمدرسي) له الأثر الكبير في محاصرة أفكار شكري وجماعته"([19])، ومن أبرز المناظرات التي تمت مع شكري وجماعته مناظرتهم مع حسن الهلاوي، الذي كان زعيم جناح القاهرة في تنظيم إسماعيل طنطاوي ومن ثم انضم لتنظيم صالح سرية لكنه لم يشارك في حادثة الكلية الفنية حيث كان معروفا بمرجعيته الفكرية لابن تيمية، ولذلك "استطاع أن يدخل في مرحلة مبكرة مع شكري مصطفى في جدل لنقض مذهبه الفكري، ونجح في ذلك بحيث كان شريط المناظرة سببا في نهاية جماعة التكفير، فبرغم تماسك البناء الفكري للتكفير إلا أنه فكّكه عن طريق منهج أهل السنة، وكان ذلك سببا في اقتحام (الكتيبة الخضراء) لمنزله ومحاولة قتله"([20]).
ومن الذين حاول شكري وجماعته قتله رفعت أبو دلال بسبب انشقاقه عن الجماعة رغم أنه من مؤسسيها، والمهندس أحمد عرفة والمهندس محمد سعد الدين([21]).
وهنا نجد أن شكري يخالف منهجه بالعزلة والهجرة للقيام بتصفية خصومه والانشغال بالاعتداء عليهم بينما يرى ترك المواجهة مع الدولة الكافرة! فهل كان هذا من وسوسة الشيطان أم من وسوسة شياطين الإنس الذين راقبوا أو رعوا هذه الغلو والتطرف والتكفير والإرهاب في السجن وعقب السجن؟
وقد أشار الشيخ محمد سرور لظاهرة تفتت جماعة الإخوان في السجن وأنها ظاهرة لم تلقَ حقها من العناية والدراسة والمراجعة، وتسببت بظهور كثير من الجماعات والشخصيات التي سببت أضرارا بالغة لمسار الدعوة والمجتمعات الإسلامية([22]).
ويبدو أن أجهزة الأمن التي تعرف شكري منذ كان في السجن وتعرف استقلاله عن بقية المساجين والجماعات عادت لاستثماره وجماعته، فيروي عضو الجماعة، عبد الرحمن أبو الخير، أن زملاءه في قيادة الجماعة أخبروه بوجود اتصالات مع الحكومة في بداية شهر 9/1976 حيث "عرضت الحكومة على الجماعة رغبتها في التعاون معها، على أساس أن جماعتنا تصرف الشباب عن المناهج الانقلابية، وتدعو إلى الهجرة، إن الحكومة في حاجة إلى جماعة إسلامية تستوعب الخاصة من الشباب، ثم إلى جماعة أخرى تستوعب العامة، ونحن إن شاء الله جماعة الخاصة، وقد قبلنا ذلك. وقد يقولون عنا عملاء، فليقولوا، المهم إن شاء الله نحقق تقدم الجماعة وستصبح إن شاء الله الجماعة الوحيدة في مصر.
وفي مقابل أي شيء يطلق الطاغوت أيدينا...؟ في مقابل صرف الشباب عن الانقلابات، فالحكومة قدمت هذا العرض وهي تعلم أن منهجنا لا يتصادم مع خطتهم حاليا، فهو منهج هجرة ويصرف الشباب عن التجمعات ذات المناهج الانقلابية ... إن الحكومة جادة في عرضها، وقد عرضت علينا أيضا تعويضنا عمّا لحق بنا من أضرار في الماضي كدعاية سيئة أو اعتقال، وطلبت منا رفع قضية ضد دور الصحف والأجهزة الأخرى للحصول على التعويض المناسب ... إننا في حاجة إلى المال لتقوية الجماعة"([23]).
وهكذا تهادنت جماعة شكري مصطفى مع الحكومة والأمن، كما تهادنت داعش اليوم مع نظام بشار، وكما أطلقت يد تنظيم شكري ضد التيار الإسلامي أطلقت يد داعش ضد فصائل الجيش الحر والفصائل الإسلامية الأخرى!
وأيضا كشفت معلومات موثقة عن شراء نظام بشار النفط من داعش، وثبت تقاضي داعش والقاعدة الفدية والأموال من جهات تكفّرها بحجج شتى! وأنها تفاوضت مع "المرتدين والكفار" بينما كفّرت بقية الفصائل لأنها تحاورت وتفاوضت مع "المرتدين والكفّار"، لكنها التناقضات والضلال!!
لم يقتصر قبول جماعة شكري للتعاون مع نظام السادات، بل حين تلقوا عرضا ليبياً من القذافي بدعمهم للانقلاب على السادات، قرروا قبول الدعم المالي منه لكنهم رفضوا الانقلاب لأنهم لا يؤمنون به!([24]) مما يؤكد قابلية هذه الجماعات للتقاطع مع الأنظمة (الجاهلية) لتحقيق مصالحها، كما حدث من تنسيق تنظيم القاعدة مع إيران عقب تورا بورا وتنسيقهم مع نظام بشار عقب احتلال العراق 2003، وقبول جبهة النصرة وتحرير الشام لصفقات مع إيران وحزب الله في قطر في مارس 2017.
العجيب أن مستشار شكري مصطفى، السياسي الصحفي عبد الرحمن أبو الخير، كتب لشكري محذرا أكثر من مرة من فخ ينصب لهم قال فيه: "وإني أرى أننا مقبلون على محنة نقدم فيها من خلال أجهزة الإعلام للجمهور على أننا خوارج القرن العشرين وسوف نضرب بتفويض من مجلس الشعب"([25])، وهو ما حدث، إلا أن شكري لم يستفد من مستشاره الذي كان يشخص أزمة شكري وأمثاله بأنهم جهلة بسبيل المجرمين، وهو ما تكرر لاحقا مع عدة جماعات لم تتيقظ لما ينصب لها من فخاخ لتشويه الإسلام من خلالها وضرب مسيرة الدعوة الإسلامية، وآخرها ما حدث من إفساح المجال لداعش لتتمدد وتتوحش وتعلن بشاعتها بأعلى درجات الاحتراف الإعلامي، ومن ثم انطلقت صافرة النهاية!
وفعلا بدأت عمليات الاعتداء على المنشقين عنها والاعتداء على حسن الهلاوي الذي ناظرهم وهزمهم، وقامت الجماعة بتفجير عبوة ناسفة في سينما، وتفجير في معهد الموسيقى وتفجير في ميدان العتبة، ولكن الأمن لم يتحرك بجدية لردعها ومعاقبتها([26])، حتى حدثت قضية خطف وقتل الشيخ الذهبي من قبل جماعة شكري مصطفى في 3/7/1977 هذه الحادثة التي يختلط فيها التطرف والإرهاب الناشئ عن الجهل والغلو مع الاختراق الأمني والسياسي والتوجيه للإرهاب واستثماره لصالح أجندات وتصفيات سياسية لصالح السلطة!
فهناك الكثير من التساؤلات عن سبب اختيار الجماعة لخطف الشيخ الذهبي: هل فعلا بسبب مواقفه من الجماعة وردّه عليهم أم كان بتوجيه خفي من الدولة لوجود خلافات بينه وبين الدولة؟
أم أن الجماعة هي التي اختارت خطف واغتيال الذهبي لكن الدولة استثمرت ذلك وتخلّصت من خصم ووجدت من يتحمل المسؤولية ويصنع قصة تلهي الشارع عن استثمار الدولة للجريمة؟
أم أن جناحا في جهاز الأمن أراد توريط السادات مع الجماعات الإسلامية التي أفسح لها المجال في وجه الناصريين والشيوعيين؟([27])
وسبب هذه التساؤلات التعامل البارد من أجهزة الأمن مع قضية بهذا الحجم حيث يُخطف وزير من بيته بشكل بدائي، حيث لم تحضر قوى الأمن لمسرح الحدث إلا بعد ساعات! تمكن فيها الجيران من القبض على أحد الجناة بعد أن قام أحد مجموعة المراقبة دون مبرر في لفت الأنظار لجريمة الخطف من خلال تهديد أحد المارة بمسدسه بدون مناسبة مما دعاه للتوقف ليشاهد جريمة الخطف! ويصبح الشاهد الرئيسي في القضية([28])، فهل السذاجة وصلت لهذا الحد أم أنها حركة متعمدة لِلفت النظر للعملية من أحد المخترقين في التنظيم؟
أيضا: أليس من السذاجة أن ترسل الجماعة 3 من أفرادها لرئاسة الوزراء ووكالة الأنباء الفرنسية وصحيفة الجمهورية يحملون بيانا بتبني الاختطاف ومطالبهم ويقبض عليهم الأمن ثم لا يتم معرفة مكان الذهبي وتحريره([29])!
هناك الكثير من الشكوك في كون نظام السادات هو المستفيد من إزاحة الذهبي حيث يقال إنه كان معترضا على سرقة كبيرة من وزارة الأوقاف ورفع قضية ضد بعض المتنفذين في الأوقاف والمقربين من السادات، فجاء اختطافه وقتله للتغطية على القضية([30])!
ومما يعزز هذه الشكوك عدم تحرك الشرطة لمحاصرة المكان إلا بعد 3 ساعات، رغم تبليغهم بعد 5 دقائق من حدوث الاختطاف! ورفض الداخلية دفع فدية للإفراج عنه([31])، وأن السادات كان في الجابون لحضور القمة الأفريقية فلم يقطع زيارته بل واصل سفره لرومانيا والمغرب([32]).
وتم قتل الذهبي برصاصة في عينه لتخرج من رأسه([33]) في داعشية مبكرة، ولكن الغريب في الموضوع أن من تولى ذلك هو ضابط سابق يدعى أحمد طارق، والذي كانت تحوم حوله الشكوك، فهل أحمد طارق هو عميل مزروع في الجماعة كما ثبتت زراعة الكثير من رجال الاستخبارات بين قادة داعش والقاعدة اللتين تعلنان كل فترة عن إعدام عدد من قادتهما بتهمة الخيانة والتجسس لأجهزة المخابرات([34])!
وبعد قتل الذهبي تمكن الأمن المصري من القبض على الجناة وأعضاء الجماعة وزعيمها بالكامل وتعرضوا للتعذيب المعهود في السجون، وخلال شهور قليلة تمّت محاكمة أعضاء الجماعة، وفعلا نفذ حكم الإعدام بشكري وعدد من أعوانه في صبيحة يوم سفر السادات لتل أبيب في 30/3/1978!
وبعد إعدام شكري الذي كان يعتقد أنه المهدي ولن يعدم! أصبح فكر الجماعة يعتمد على انتظار ظهور المهدى للانضمام إليه، وبقي بعض الأعضاء على أفكار الجماعة ونشروها في مصر وخارجها مثل تأثيرهم على جماعة جهيمان في المدينة المنورة، وقسم أصبح مخبرا للأمن([35]) على جماعته والجماعات الأخرى وهي الظاهرة المنتشرة في غالب الجماعات الإسلامية مع الأسف، والتي يبدو أن الأمريكان اقتبسوها من الأمن المصري بدسّ جواسيس على الشخصيات الإسلامية في أمريكا والتي تطورت لاحقاً لتعرف باسم الأدلة السرية!
من اللافت للنظر أن عبد الرحمن أبو الخير يلخص فشل شكري مصطفى بكونه تحاكم للطاغوت حين قبل بالتعاون معها وطلب تعويضات من محاكمها!([36]) وهو الذي زعم أنه أقام دعوته على محاربة الطاغوت حتى كفّر سائر المسلمين من القرن الرابع الهجري، وكيف أن الغلو ينعكس على أصحابه.
الخلاصة: تزاوُج الجهل والظلم من جديد لإنتاج نسخة أشد من الغلو والتكفير، وتقاعُس الإخوان المسلمين عن علاج أفكار الغلو وتواطؤ الأمن المصري في التلاعب بشكري وجماعته تسببت في ارتكاب عدة جرائم وتشويه صورة الإسلام وانتشار هذا الفكر لخارج مصر.
وللأسف لا تزال جهالات هذا الفكر حية بصورة مطورة ولا تزال سياسات شكري الخاطئة تتكرر عند كثير من جماعات العنف والتكفير المعاصرة، ولا يزال كثير من الشباب المتحمس يندفع للتورط في فكر الغلو والتكفير وسلوك الإرهاب والإجرام، وهو يظن أنه يجاهد في سبيل الله!
[1]- ذكرياتي مع جماعة المسلمين، ص 18، بواسطة الحكم بغير ما أنزل الله ج1، ص 305.
[2]- الحكم وقضية تكفير المسلم، سالم البهنساوي، ص 305، نقلا عن الحكم بغير ما أنزل الله وأهل الغلو، ج 1 ص 320.
[3]- الحكم بغير ما أنزل الله، ج 1، ص 48.
[4]- نفس المرجع السابق، ج 1، ص 71، 96، 101، 311، والموسوعة الميسرة.
[5]- التكفير والهجرة وجها لوجه، رجب مدكور، ص 79، نقلا عن الفرق والجماعات الإسلامية المعاصرة، د. سعد الدين صالح، ص 210.
[6]- موسوعة العنف، ص 237.
[7]- الحكم بغير بما أنزل الله، ج 1 ص 226، 229.
[8]- الإسلام السياسي في مصر، هالة مصطفى، ص 148. وقريب منه الأصولية في العالم العربي، ريتشارد دكمجيان، ترجمة عبد الوارث سعيد، ص 142.
[9]- موسوعة العنف، ص 198.
[10]- نفس المرجع السابق، ص 232.
[11]- تجربتي مع الإخوان، ص 184.
[12]- عبد المنعم أبو الفتوح، شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر، ص 64.
[13]- الحركة الإسلامية من المواجهة إلى المراجعة، ص 35. والموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، فصل جماعة المسلمين (التكفير والهجرة)، نسخة الكترونية.
[14]- الموسوعة الميسرة.
[15]- موسوعة العنف، ص 308.
[16]- الحركة الإسلامية من المواجهة إلى المراجعة، د. كمال حبيب، ص 31.
[17]- موسوعة العنف، ص 201.
[18]- الحكم بغير ما أنزل الله وأهل الغلو، ج 1، ص 12.
[19]- الحركة الإسلامية من المواجهة إلى المراجعة، ص 36.
[20]- نفس المرجع السابق، ص 33. وانظر كلام الهلاوي على الحادثة في موسوعة العنف، ص 308.
[21]- الحكم بغير ما أنزل الله، ص 315.
[22]- نفس المرجع السابق، ص 294.
[23]- ذكرياتي مع جماعة المسلمين، ص 58، نقلا عن الحكم بغير ما أنزل الله، ص 322.
[24]- موسوعة العنف، ص 223، 254.
[25]- نفس المرجع السابق، ص 260.
[26]- موسوعة العنف، ص 205، 226، الحكم بغير ما أنزل الله، ج 1 ص 340.
[27]-نفس المرجع السابق، 205، 228.
[28]- نفس المرجع السابق، ص 212.
[29]- نفس المرجع السابق، ص 220، 223.
[30]- الحكم بغير ما أنزل الله، ج1، ص 333.
[31]- نفس المرجع السابق، ج1، ص 339.
[32]- الفرق والجماعات الإسلامية المعاصرة، د. سعد الدين صالح، ص 205.
[33]- موسوعة العنف، ص 204.
[34]- آخرها إعدام جيش خالد بن الوليد في درعا والتابع لداعش عددا من قادته منهم قائده السابق أبو عبيدة قحطان في 4/6/2017.
[35]- ذكرياتي مع جماعة المسلمين، ص 134، نقلا عن الحكم بغير ما أنزل الله، ج1 ص 318.
[36]- موسوعة العنف، 268.
[1] - مجموع الفتاوى، 8/425.
[2]- تم اعتقال 34 ألف شخص، منهم 450 امرأة، انظر: اختلافات الإسلاميين، أحمد سالم، ص 134.
[3]- التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين، علي العشماوي، ص 240، البوابة السوداء، أحمد رائف، ص 372.
[4]- البوابة السوداء، ص 394، 403.
[5]- المرجع السابق، ص 432.
[6]- المرجع السابق، ص 356.
[7]- عبد المنعم أبو الفتوح، شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر، تحرير حسام تمام، ص 63.
[8]- سراديب الشيطان، ص 114، تجربتي مع الإخوان من الدعوة إلى التنظيم السري، د. السيد عبد الستار، ص 13. لكن نجيب ابن عبد الفتاح إسماعيل وأخاه أنس وأختيهما، وهم أبناء شقيقه عبد الفتاح دينمو تنظيم 65، سيصبحون لاحقا من رؤوس التكفير الغلاة لدرجة أن كفّروا أباهم عبد الفتاح الذي أعدم مع سيد قطب لكونه إماما وخطيبا بالأزهر! وكفّروا كثيرا من رؤوس التكفير حتى سميت جماعتهم بجماعة تكفير التكفير! نقلا عن بعض من سُجن معه في بداية الثمانينيات.
[9]- جماعة التكفير والهجرة، صفحة د. إبراهيم الزعفراني على الفيس بوك، 12/11/2015.
[10]- الإخوان وعبد الناصر: القصة الكاملة لتنظيم 1965م، أحمد عبد المجيد، نسخة الكترونية على موقع الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين.
[11]- تجربتي مع الإخوان من الدعوة إلى التنظيم السري، ص 13.
[12]- سراديب الشيطان، أحمد رائف، ص 62.
[13]- فصّلنا ذلك في الحلقة السابقة.
[14]- البوابة السوداء، ص 398 ، 405.
[15]- اختلاف الإسلاميين، ص 473.
[16]- سراديب الشيطان، ص 103. وغالب هؤلاء التكفيرين لم يكن يتجاوز سنه 25 سنة، نفس المرجع ص 116، وهي علامة من علامات الخوارج في السنّة النبوية.
[17]- مذكرات الزعفرانى.. الفهم الإسلامي في مواجهة الفكر التكفيرى (1) منشور على شبكة الإنترنت، اختلاف الإسلاميين، ص 470.
[18]- سراديب الشيطان، ص 95.
[19]- نفس المرجع، ص 96.
[20]- البوابة السوداء، ص 399 وما بعدها.
[21]- البوابة السوداء، ص 355.
[22]- نفس المرجع، ص 432.
[23]- نفس المرجع، ص 508.
[24]- نفس المرجع، ص 509.
[25]- سراديب الشيطان، ص 95.
[26]- "كان محمد قطب نسيج وحده ... والفرق بينه وبين أصحاب العنف أنه يدعو إلى الثبات والمواجهة بكلمة الإسلام... وإن كان لا بد من شهداء فليسقطوا تحت هذا الشعار، ويوما سوف ينتصرون ويتبين الشعب إلى أي شيء يدعون الناس"، سراديب الشيطان، ص 82.
[27]- سراديب الشيطان، ص 62.
[28]- البوابة السوداء، ص 584،583،574، وسبق الإشارة لتلاعب إدارة السجن بشكري في ص 509، حيث قال أحمد رائف: "واستثمرت الإدارة هذه الروح -الغاضبة- في إجراء التدريبات السمجة" والتدريبات تعني الترويض للمساجين.
[29]- يقول د. عبد الله أبو عزة: "تميزت المجموعة القطبية التي تزعمها الأستاذ محمد قطب، شقيق سيد، وهي التي حملت لواء التطرف. ثم انشق عن هذه المجموعة فئة تزعمها شكري مصطفى، وتوالت الانشقاقات بعد ذلك، فقد انسحب من فريق شكري مصطفى شخصان كوّنا من نفسيهما مجموعة منفصلة عن الآخرين، تتبرأ منهم وتكفرهم"! كتابه (الإخوان المسلمون الحركة الأم دراسة نقدية)، ص 208. ورصد انشطارات جماعة شكري مصطفى في السجن ثم تطورها باسم التوقف والتبين محمد سرور في مقدمة كتابه (الحكم بغير ما أنزل الله وأهل الغلو) الجزء الثاني التوقف والتبين.
[30]- سراديب الشيطان، ص 134.
[31]- سراديب الشيطان، ص 76، 96، 103.
[32]- ذكرياتي مع جماعة المسلمين، عبد الرحمن أبو الخير، نقلا عن موسوعة العنف، مختار نوح، ص 525.
[33]- سراديب الشيطان، ص 112، 123.
[34]- نفس المرجع، ص 114.
[35]- نفس المرجع، ص 146.
[36]- نفس المرجع، ص 99.
[37]- موسوعة العنف، ص 199.
[38]- الحكم بغير ما أنزل الله وأهل الغلو، محمد سرور، ج 1 ص 300، والعجيب أن المؤلف يورد نص كلام شكري في اعتماده كلام سيد، ثم ينفى صلة شكري بسيد قطب! قد يصلح أن يقول إن شكري غلا في فكر سيد أو تجاوزه أو انحرف به عن مراد سيد، لكن القول بأنه لا يربطه رابط بسيد قطب فهذه مجازفة.
حكاية جماعات العنف من الانحراف إلى فكر الخوارج 3- جماعة المسلمين، شكري مصطفى
2017/07/01
الرابط المختصر
Image