أزمة التلفزيون في رمضان

الرابط المختصر
Image
أزمة التلفزيون في رمضان

"إسلام بلا خوف، مصر والإسلاميون الجدد" كتاب مهم رصد فيه مؤلفه د. ريموند وليام بيكر نشأة وتطور ما يسميه "مدرسة الإسلاميين الجدد" أو الذين يطلقون على أنفسهم اسم "التيار الإسلامي الجديد" في مصر، وقد ترجم الكتاب الدكتورة منار الشوربجي، ونشره المركز العلمي للدراسات السياسية بعمان سنة 2008.
وقد قام المؤلف برصد جماعي لإسهامات عدد من المعاصرين كالشيخ يوسف القرضاوي ومحمد الغزالي وطارق البشري ومحمد العوا وفهمي هويدي وكمال أبو المجد وغيرهم، وأنهم يحملون ما سماه إسلاما حضاريا متصالحا مع العالم ومتفاعلا معه بثقة، في مقابل فكر العنف والتطرف.
كانت بداية هذه المدرسة بيانا كتبه د. كمال أبو المجد سنة 1980 ولم ينشر إلا سنة 1991 بعنوان "رؤية إسلامية معاصرة" وقّع عليه عدد من الشخصيات المذكورة، وقد جاء هذا البيان كمخرج من أزمة العنف التي شهدتها مصر، بين جماعة الجهاد والجماعة الإسلامية من جهة والحكومة المصرية من جهة أخرى، ولكن هذه الرؤية واجهت في البداية هجوما من قبل العلمانيين والجماعات الإسلامية المشتركة في أزمة العنف.
من القضايا التي تناولها د. بيكر في كتابه: موقف هؤلاء الإسلاميين الجدد من الفن، وتطرق فيه لقضية رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ وكيف أن موقف الشيخ الغزالي بقي رافضا للرواية برغم تنديده بمحاولة اغتيال محفوظ بعكس موقف أبو المجد الذي كان مدافعاً عن الرواية استنادا لمعرفته برؤية محفوظ  أن "أي مشروع عربي لابد أن يقوم على العلم والإسلام" وأنه "حتى رواية أولاد حارتنا التي أساء البعض فهمها لم تخرج عن هذه الرؤية وكان المغزى الكبير الذي توجت به أحداثها أن الناس حين تخلوا عن الدين – ممثلا في الجبلاوى- وتصوروا أنهم يستطيعون بالعلم وحده - ممثلا بعرفة-  أن يديروا حياتهم على أرضهم التي هي حارتنا اكتشفوا أن العلم بغير الدين قد تحول إلى أداة شر وأنه قد أسلمهم إلى استبداد الحاكم".
الغريب أن هذه الوجهة الإسلامية لمحفوظ غير مشهورة، وإن كان الأستاذ محمد جلال كشك يؤكدها أيضاً في بحثه "أولاد حارتنا فيها قولان" والذي نشرته دار الزهراء سنة 1989، وفضح فيها موقف اليسار المصري من نجيب محفوظ حيث كان اليسار يدافع عن سلمان رشدي وروايته أيات شيطانية من خلال تظاهره بالدفاع عن محفوظ وروايته أولاد حارتنا!! ومن طريف ما ينقل كشك عن محفوظ قوله في وصف مثقفي اليسار المصري: " إن الثورة لم تقدم للشعب تعليما مجانياً بل تجهيل باهظ المصروفات".
ومن ثم بيّن د.بيكر تعارض رؤية هؤلاء الإسلاميين للفن، القائمة على أن الفن كسواه ينبع من المجتمع وينتمي إليه ومن ثم ينبغي أن يحترم قيمه مع رؤية العلمانيين الذين يريدون الفن بلا ضوابط ولا قيود بحجة الحرية، وكان الطرفان يتنازعان بأن هذا يؤجج التطرف فالعلمانيون يعتبرون القيود الأخلاقية والقيمية رضوخا للغلاة، بينما الإسلاميون الجدد يقولون بأن الانفلات الفني يوفر الوقود لانتشار فكر العنف.
وبناء على هذه الرؤية لجأ د. مصطفي الشكعة، أستاذ الأدب وعميد كلية الأداب بجامعة عين شمس، سنة 1988 ومن ثم سنة 1991 إلى القضاء بدعوى ضد فوازير رمضان،  باعتبار أنها في توقيتها ومضمونها وتأثيرها الاجتماعي تقوض القيم الإسلامية للمجتمع المصري، وهاجم احتكار الدولة للتلفزيون وإنفاق المال العام في غير المصلحة، وتجنب إدانة الفن بالجملة.
ولأن د. الشكعة لا يستطيع العلمانيون التشكيك في ثقافته وموقفه من الفن المثمر بسبب كتاباته الموضوعية في قضايا الفن والأدب، لجأ الإعلام المسيطَر عليه من العلمانيين اليساريين إلى التعتيم على القضية لأنها لا تحتوي على هجوم مطلق على الفن، ولا القائم عليها من الشخصيات التي يمكن نعته بالتطرف.
كانت فحوى قضية د.الشكعة مدى ملاءمة مثل تلك البرامج لشهر رمضان، حيث أنها تشكل إهانة للتدين الصحيح وتحشر نمطا استهلاكيا غير مناسب في لحظة دينية مهمة، وهو هنا لا  يسعى إلى إدانة الفن، بل إلى إدانة سوء استخدام التعبير الفني في جهاز تموله الدولة من الضرائب المفروضة على المواطنين على نحو يسيء إلى الشعور الديني.
وقد كشفت القضية عن أن سياسة الدولة تسخير الإعلام للترفيه بما يوجه اهتمامات الناس بعيداً عن القضايا الاجتماعية والثقافية المهمة، بدلا من تسخير الإعلام للتثقيف ورفع مستوى الوعي بما يحقق النهضة، تدل على أن الإعلام يفتقد لمنظومة فكرية تساعد على تنمية المجتمع ورفعته.
ركزت قضية د. الشكعة على أن تلك البرامج قد ساعدت على تشجيع منهج استهلاكي قوي في رمضان وهو اليوم قد زاد ترسخه، بدأ بالفوازير ثم المسلسلات ثم خيمة رمضان ثم الأرجيلة وهكذا، حتى أصبح شهر رمضان أكثر الشهور لهواً واستهلاكاً، ما جعل فهمي هويدي يشبه هذا السلوك الدخيل على رمضان بما حدث لمناسبة ميلاد المسيح في الغرب والذي تحول إلى موسم للشراء والتنزيلات والحفلات!!    
ورغم مرور 20 سنة على قضية د. الشكعة لاتزال أزمات الإعلام في وطننا العربي هي هي، فأزمة كتاب ألف ليلة وليلة في مصر مؤخراً هي بسبب أن هذا الكتاب طبع بأموال الناس ودافعي الضرائب، وهم لا يرغبون بهذه النوعية من الكتب وليست هذه الكتب هي التي تعمل على دفع عجلة التقدم والازدهار، ونظرة على ما هيأته الفضائيات العامة والخاصة لرمضان يؤكد أن الإعلام لا يزال يفضل الترفيه السيئ على التوعية والثقافة طوال العام وخاصة في رمضان.