رغم أني زرت إسطنبول عدة مرات إلا أن كل زيارة منها لها طعم ومذاق خاص، وكلما غادرتها شعرت باشتياق للعودة إليها، إنها إسطنبول التي قال عنها نابليون "لو كان العالَم دولة واحدة لجعلت إسطنبول عاصمة لها".
منذ خروجك من المطار تبدأ مناظر الزهور تبهج الروح وهي تصطف بأشكال بديعة منوعة على جنبات الطريق، تذكرك بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يحب الجمال" رواه مسلم، وقال الإمام ابن القيم في بيان معنى جمال الله عز وجل فقال:
وهو الجميل على الحقيقة كيف لا وجمال سائر هذه الأكوان
من بعض آثار الجميل فربّها أولى وأجدر عند ذي العرفان
فجماله بالذات والأوصاف والأفعا ل والأسماء بالبرهان
لا شيء يشبه ذاته وصفاته سبحانه عن إفك ذي بهتان
فالله عزوجل جميل الذات والصفات والأفعال، ويحب الجميل من الأعمال والأخلاق والحديث، والأزهار والورود والبساتين الجميلة هي من النعم العظيمة التي خلقها الله عز وجل في الدنيا متاعاً للناس، وفي الآخرة كانت الجنة ذات الأشجار والأزهار والثمار هي مكافأة المؤمنين الصالحين قال تعالى: "إن للمتقين مفازا* حدائق وأعناباً" (النبأ: 31-32).
وحين تشاهد النهضة العمرانية والبنية التحية، وترى كيف نهض حزب العدالة والتنمية بواقع تركيا من مستنقع التخلف والديون إلى موقع متقدم جداً على صعيد الاقتصاد والصناعة والزراعة والتنمية بحيث أصبحت تركيا على تخوم المركز العاشر عالمياً اقتصادياً، وأن طموحها لم يتوقف، عند ذلك توقن بأن الخرافات والشائعات التي رسخها الاستعمار والمستشرقون عن بَلادة الرجل الشرقي وتخلف العقل الإسلامي هي أوهام لا حقيقة لها.
وأن الشرقيين والمسلمين عندهم من الطاقات والقدرات ما يمكنهم في مدة يسيرة من الرقي والتقدم المادي إذا توفرت لهم القيادة الواعية والخطة السديدة، بل إن المسلمين هم أكثر الناس قدرة على هذا التقدم والإنجاز بسبب دينهم، دين الإسلام، والذي يمنح أفراده السلام مع البشر والبيئة والدافعية للمعرفة الشاملة والإنجاز مع التزام الحق والعدل مع الآخر بشراً أو طبيعة، بخلاف الحضارات الأخرى التي لم تصعد في سلم العمران إلا على جماجم الآخرين والعبث بالبيئة وتخريبها.
كم كانت رائعة ومدهشة تلك الهدية من أحد الأصدقاء الأتراك بدعوته لي لأن أستمع مباشرة لخطاب أردوغان، الرئيس التركي الذي صعد السلم من أسفله عبر انتخابات شعبية متعددة اختارته لإنجازاته المتراكمة، ذلك الخطاب الذي ألقاه في ختام مؤتمر "القمة الأولى للزعماء الدينيين المسلمين في دول آسيا والباسفيك" تستمع لمنطق متماسك يطالب العالم بإقرار العدالة عبر موازين موحدة لا تحابي أحداً، ولذلك لا تستطيع قوى الاستكبار العالمية الرد على ما يطرحه أردوغان بقوة من رفض حق الفيتو في مجلس الأمن ومن إدانة تحيزات الغرب وروسيا تجاه مآسي المسلمين في فلسطين وسوريا وبورما وأفريقيا الوسطى وغيرها.
وعندما تمر في الشارع وترى مراكز الدعاية الانتخابية للأحزاب التركية المتنافسة على مقاعد البرلمان، ترى حالة متقدمة من التنافس والتجاذب على أصوات الناخبين، وإن كانت الحالة التركية تبطل الخرافة التي يروجها الإعلام العلماني أن الناس تقيم الساسة على أساس الإنجاز!
فحزب العدالة والتنمية لم يقصر بتاتاً في الإنجاز، بل حين تطالع بعض برامجه الانتخابية الأخيرة على صعيد الإنجازات التي يرغب بالقيام بها، تفاجأ إلى أي حد من التفصيلات والجزئيات يتطلع الحزب لتحقيقها، ومع هذا تجد أحزابا منافسة تسعى لهدم هذه الإنجازات وإسقاط حزب العدالة والتنمية دون تقديم برنامج يعد بإنجازات أفضل!
ما أجمل هذا العالم الجميل، عالم الإنجازات والتقدم لحزب العدالة والتنمية، هذا العالَم الذي يقوي العزيمة بقدرة أمتنا الإسلامية على مجاراة الأمم الأخرى والتفوق عليها في سنوات بسيطة، كما فعلت تركيا، وماليزيا من قبلها، وليس كما يوهمنا بعض الحاقدين أننا متأخرين سنوات ضوئية عن حضارة الغرب، ولقد كانت هذه سنة المسلمين من قبل، فهم خرجوا من عمق الصحراء رافعين راية التوحيد، وفي عقود قليلة كانوا على أعلى ذرى المجد والسؤدد.
ويناقض هذا العالَم الجميل عالم التفلت من الإسلام قيماً وأحكاما وسلوكا والذي رعته من قديم أحزاب سياسية اختارت العلمانية المتطرفة والمعادية للإسلام منهجاً، فحاربت القرآن وبدلت الأذان وأغلقت الكثير من المساجد ومنعت الحجاب.
فأصبح جزء لا يستهان به من الشعب التركي معاديا للإسلام، وأصبحتَ ترى من الشباب التركي المحسوب على الإسلام سلوكيات مناقضة تماماً للإسلام، بل لا تشك أن كثيرا من هؤلاء الشباب والشابات هم داخلون في قوله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعنّ سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة" رواه البخاري، وفي بعض طرقه عند الترمذي: "حتى لو كان فيهم من يأتي أمّه علانية، لكان فيكم من يفعل ذلك"، فما تراه من انحلال خلقي في الشوارع والمقاهي وعربات المترو هو مصداق قوله صلى الله عليه وسلم من التقليد الأعمى لكل فواحش الكفار.
وهذا الانحراف الأخلاقي هو النتيجة الطبيعية لفرض العلمنة والحداثة وأفكار الجندرة والنسوية على المجتمعات المسلمة، والحالة التركية تصلح كنموذج لحقيقة مآل هذه الدعوات الهدامة على أحوال المسلمين وكيف أنها تنزع الأخلاق والعفاف والحياء من حياتهم.
ويقابل هذا العالَمَ المنفلت الذي يؤلم القلب ويدمع العين على زهرة شباب المسلمين وهي تغرق في أوحال الخطيئة وتسقط في شباك الرذيلة، عالمٌ منير مشرق بالأمل حين ترى مساجد تركيا تغص بالشباب والمصلين والمصليات من كافة الأعمار والمهن والتحصيل الدراسي.
وأصبحت ترى الحجاب يزين رؤوس الكثير من الشابات التركيات بعد أن كانت المحجبة تُحرم من الدراسة والعمل بسبب حجابها، واليوم أخذت حقها بالحجاب بعد أن مُنعت منه سنين طويلة بسبب السياسات العلمانية العدوانية والظالمة.
وأصبحت تركيا في طليعة الدول المسلمة التي تحرص على رعاية أبنائها واللاجئين إليها، وتساعد المحتاجين في أرجاء الأرض وتنصر المظلومين، من أي ملة كانت، بل كم تفخر في تركيا حين ترى في جنبات الطرق أماكن خاصة لشرب القطط والكلاب وحتى العصافير والطيور صنعوا لها أكواخ على الأشجار لتستريح فيها!
أما حين تزور متحفاً من متاحف تركيا وإسطنبول الكثيرة فهنا تدخل في عالم العثمانيين العجيب، في هذه الرحلة زرتُ المتحف البحري في منطقة بيشكتاش على الكورنيش، وهذا المتحف يحتوي على السفن التي كان يستخدمها الخلفاء في نزهاتهم والوزراء والموظفون والعمال، كما يحتوي على مجسمات لبعض البوارج الحربية وقطع من السفن الحربية الكبرى.
وحين تتأمل جمال وفخامة سفن السلاطين العثمانيين تسرح في الخيال حول قوة وثراء الدولة العثمانية وعظمة تلك الدولة، وكيف أنها سادت العالم تقريباً، ومن الطريف أن سفن السلاطين زينت بنقوش تدل على الشجاعة والبطولة من السيوف والدروع والحيوانات المفترسة، بينما سفن زوجات السلاطين زينت بنقوش للزهور والأشجار والثمار.
أما السفن الحربية فقط كانت من المتانة والقوة والضخامة ما حقق لها السيطرة على البحر الأبيض زمناً طويلاً، وبجانب المتحف أقيم تمثال لأمير البحار خير الدين بربروس وإن كانت إقامة التماثيل لا تجوز في الإسلام لأنها قد تفضي للشرك والوثنية، وبربروس حمى بلاد الإسلام من هجمات أوروبا وأنقذ 70 ألفا من مهاجري الأندلس ونقلهم للجزائر، وهزم تحالف أوروبا البحري ضده، حتى طلب ملك فرنسا مساعدته ضد هجوم إسبانيا على فرنسا! واستقرت السيادة في البحر الأبيض للعثمانيين وأقرت بهذا أوروبا وأمريكا التي كانت تدفع ضريبة للقوات العثمانية بدل حماية لها في البحر الأبيض.
وحين تزور متاحف إسطنبول وتسمع الشرح الصوتي لما تشاهده فيها، وتكون أخذت من قبل وجبة ثقافية عن تاريخ تركيا وإسطنبول والدولة العلية بمطالعة كتاب عنها في الطائرة وأنت قادم، فهذا يجعل خيالك يحلق في عالم العثمانيين بأجنحة نسر في عالي الفضاء.
بين تلك العوالم المتشابكة قضيتُ أسبوعاً جميلاً في إسطنبول، وأحلم أن أعود سريعاً إليها وإلى عوالمها المختلفة.
طنبول
ط