هذه الآية الكريمة "إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما" (النساء: 105)، تكشف بكل وضوح الغاية من إنزال القرآن الكريم والرسالة على نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وعموم الأنبياء عليهم السلام، وهي الحكم بين الناس في شؤونهم وأحوالهم وبيان الحق في تصوراتهم ومفاهيمهم، قال العلامة السعدي في تفسيره لهذه الآية: "الحكم بين الناس هنا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأعراض والأموال وسائر الحقوق وفي العقائد وفي جميع مسائل الأحكام".
وقد تكرر هذا المعنى في عدة آيات منها:
قوله تعالى: "وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه" (البقرة: ٢١٣).
وقوله تعالى: "وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عمّا جاءك من الحق" (المائدة: 48).
وقوله تعالى: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك" (المائدة: 49).
ومن المهم هنا الالتفات لربط تحكيم القرآن الكريم بكونه الحق ومن الحق، وهو الله عز وجل، وجاء ونزل على عبده محمد عليه الصلاة والسلام، فتحكيم القرآن الكريم هو الضمانة الوحيدة للبشرية لنشر الحق والعدل والسلام والأمن في ربوعها.
ولذلك صرحت الآية أن الحكم النبوي يكون مقيدًا "بما أراك الله"، "أي: لا بهواك، بل بما علَّمك الله وألهمك، كقوله تعالى: "وما ينطق عن الهوى إِن هو إِلَّا وحي يوحى" وفي هذا دليل على عصمته صلى الله عليه وسلم فيما يبلغ عن الله من جميع الأحكام وغيرها، وأنه يشترط في الحاكم العلم والعدل لقوله: "بما أراك الله" ولم يقل: بما رأيت. ورتب أيضا الحكم بين الناس على معرفة الكتاب، ولما أمر الله بالحكم بين الناس المتضمن للعدل والقسط نهاه عن الجور والظلم الذي هو ضد العدل فقال: "ولا تكن للخائنين خصيما"، أي: لا تخاصم عن من عرفت خيانته، من مدّع ما ليس له، أو منكرٍ حقا عليه، سواء علم ذلك أو ظنّه. ففي هذا دليل على تحريم الخصومة في باطل، والنيابة عن المبطل في الخصومات الدينية والحقوق الدنيوية"، تفسير السعدي.
ومما يوضح ويكشف قيام تحكيم القرآن الكريم على الحق معرفة قصة نزول هذه الآية الآمرة بتحكيم القرآن الكريم وأنها نزلت لتحكم ببراءة رجل يهودي من تهمة السرقة التي حاول بعض الناس (بنى أبيرق) إلصاقها به تغطية على قريب لهم هو السارق (طعمة)، فلما نزلت الآية وبرّأت اليهودي وفضحت السارق هرب للمشركين، وأمر الله عز وجل نبيّه بعدم قبول كلام الخائنين للأمانة والصدق، ولو كانوا مسلمين "ولا تكن للخائنين خصيما"، ولو كان المتهم يهوديا غير مسلم، هذا هو الحق والعدل الذي يجسده تحكيم القرآن الكريم في واقع البشرية، فإحقاق الحق هو ثمرة تحكيم القرآن الكريم في حياة البشرية بمختلف أديانها وأعراقها.
وقد خلد الله عز وجل قصة تبرئة اليهودي في آيات قرآنية تتلى إلى قيام الساعة، وفي هذه الآيات 7 فوائد دوّنها د. محمد جميل غازي في كتابه "المنافقون كما يصورهم القرآن الكريم" هي:
1- أن القرآن الكريم كتاب دين ودنيا، كتاب حكم وعبادة، كتاب أخلاق ومعاملات، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل ليبشر وينذر ويهدي ويحكم.
2- أن الرسول لا يحكم بهواه، ولكن بما علّمه الله وأراه.
3- ليس لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: حكمتُ بما أراني الله، بل يجتهد في أن يصيب حكم الله، وهذا يكون لأهل العلم المؤهلين.
4- فيها توجيه للمحامين أن يحرصوا على الدفاع عن المظلومين والأبرياء، وإلاّ كانوا سببا في إدانة الأبرياء وبراءة المجرمين!
5- ترشد الآية إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر لا يعلم الغيب إلا ما علّمه ربه، فكيف بغير الرسول من الدجالين والفتاحين!
6- مع عظم جريمة من اتهم اليهودي البريء ظلما، إلا أن الله عز وجل دعاه للتوبة، فبابها مفتوح دوما.
7- قررت الآيات قواعد الجزاء في الإسلام وهي:
- فتح باب التوبة لكل مسيء أو ظالم.
- إلزام كل إنسان بنتائج عمله.
- تضاعف التبعة على من يرتكب إثما ثم يرمي به بريئا مهما كان دينه. أ.ه
ولا يزال التاريخ والواقع يؤكدان لنا دوماً حاجة البشرية للمرجعية الربانية لتحكم بينهم وتنهي حالة الظلم المتنوعة عبر محطاتها التاريخية، فمجلس الأمن الدولي الذي يفترض به إقرار السلم والأمن العالميين أصبح هو سبب الفوضى والظلم في العالم، فالفيتو الأمريكي المتكرر لصالح الإرهاب اليهودي منذ عقود والفيتو الروسي لصالح إرهاب وجرائم بشار من أبرز الأمثلة على بؤس تحكيم أهواء البشر في قضاياهم ومشاكلهم.
إن البشرية -برغم تطور معارفها ومنتجاتها- إلا أن العدالة والأمن يبتعدان عنها، سواء على مستوى الأفراد والشعوب الذين يُطحنون تحت وطأة الأوضاع الاقتصادية والسياسية والعسكرية في مختلف أرجاء الكوكب أو تحت ضغط مخرجات الحداثة القاتلة من الفردية والاغتراب، حيث تتضاعف أرقام ضحايا الانتحار والادمان والأمراض النفسية.
إن الإيمان بالقرآن الكريم وتحكيمه في الحياة -أفرادا ودولاً- هو حبل النجاة لهذه البشرية المعذبة، وهو الحل الذي يصل بأتباعه إلى شط الأمان بالصمود في وجه التحديات وصعوبات الحياة، وهو الحل لمجابهة ظلم المجرمين والطغاة بالصبر الإيجابي والعمل المُنتج والمفيد.
وختاماً؛ فإنه من العجيب أن يدرك الجن عظمة القرآن الكريم ودوره وينكر ذلك بعض البشر، ومنهم من هو محسوب على المسلمين! "قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربّنا أحداً" (الجن: 1-2).
" إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله "
2017/06/01
الرابط المختصر
Image