إنصافًا للبخاري والشامي

الرابط المختصر
Image
إنصافًا للبخاري والشامي

أتفق مع الزميل هاشم غرايبة في أهمية التحذير من القصص الخرافية والحكايات المكذوبة التي تشيع بين المسلمين باسم الدين، وأن هذا يضر بالدين والدنيا معاً، ولكن أختلف معه في المثال الأول الذي استخدمه وفي النتائج الخاطئة التي توصل إليها من المشروع الكبير المبارك للشيخ صالح الشامي، وهي النتائج التي تناقض منهج وهدف الشيخ الشامي نفسه، وأخطر النتائج التي طرحها الزميل غرايبة الطعن والتشكيك بسلامة الصحيحين.
فإنكار حديثٍ في صحيح مسلم –والمقصود هنا هو قصة الثلاثة الذين حُبسوا في الغار- دون سند علمي معتمد في علم الحديث الشريف هو سلوك مناقض للمنهج العلمي الذي نسعى إليه جميعاً وهو سلوك يعالج "أسطرة الدين" بوسوسة غير موضوعية، والعجيب أن الزميل غرايبة ينكر صحة هذا الحديث ويمدح كتاب الشامي "معالم السنة النبوية" بأنه "نال تقدير كل علماء الحديث" وفعلا فكتابُه متميز ومحترم، فهلا احترم زميلُنا جهدَ الشامي ولم يطعن فيه حيث أورد حديث الغار في كتابه "معالم السنة النبوية" في الجزء الثالث ص 261!!
ومن جهة ثانية، حين يستند التضعيف لحديث صحيح أجمع نقاد الحديث والمختصون فيه عبر العصور ومن كل المذاهب على صحته بناء على وجهة نظر شخصية وذاتية فهذا أولاً طعن في جمهور العلماء عبر الزمن! وثانيا إن الفهم الذي رفضه للحديث ليس له وجود في الواقع أصلا!
فالحديث حين أثنى على فعل الرجل بالبقاء واقفا طيلة الليل ينتظر إفاقة والديه ليشربهما اللبن، فهو يمدح نية حسنة وهي بر الوالدين، ومعلوم أن بر الوالدين أصل مهم في القرآن الكريم والسنة النبوية، بل جاء الأمر الرباني ببر الوالدين حتى لو كانا مشركين كافرين "ووصّينا الإنسان بوالديه حملتْه أمّه وهناً على وهن وفِصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك إليّ المصير* وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به عِلم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً" (لقمان: 14-15)، ولذلك فهِم المسلمون عبر التاريخ من القرآن الكريم والسنة النبوية بر الوالدين والتزموا ذلك، ومن أجل هذا لا تزال لليوم لا تنتشر دور العجزة في بلاد الإسلام، وفي نفس الوقت لا نجد من المسلمين البارين بآبائهم وأمهاتهم تقصيرا في حق أبنائهم كما تَصور الزميل غرايبة، لأن كل المسلمين فهموا أن هذه قصة تحكي قصة ماضية من قبل الإسلام وأن المقصود منها التنبيه على فضل وعظم وبركة بر الوالدين، وكذلك فضل وعظم وبركة ترك الزنا خوفاً من الله مع القدرة عليه، وفضل وعظم وبركة الأمانة بأداء الحقوق للعمال، وعليه فلا يصح فتح الباب للطعن في صحيح السنة النبوية بغير منهج علمي منضبط بقواعد علم الحديث نفسه، كما لا يصح الطعن بأي قرار قانوني أو هندسي إلا وفق قواعد وأصول علميْ القانون والهندسة ومِن شخص مختص مؤهل، ولا يُقبل قول أيٍّ كان طالما كان غير مختص في مواجهة اتفاق جمهور المختصين في الموضوع.
والنقطة الثانية وهي تشويه نتائج المشروع المبارك للشيخ صالح الشامي وهو (مشروع تقريب السنة المطهرة) بجمع الأحاديث الصحيحة وحذف المكرر وتصنيفها بشكل موضوعي.
وقد مر مشروع الشيخ الشامي والذي استغرق منه سنوات طويلة بعدة مراحل بحسب ما يقوله هو نفسه في مقدمة كتابه "جامع الأصول التسعة" حيث في البداية انطلق من الجمع بين أحاديث الصحيحين البخاري ومسلم لكونها "أصح كتابين بعد كتاب الله" فأخرج كتابه "الجامع بين الصحيحين" فحذف المكرر والأسانيد لاتفاق العلماء على صحة هذين الكتابين، وبذلك تقلصت أحاديثهما معاً من (15126) إلى (3896) حديثاً، لكن ينبغي التنبه هنا أنه حذف المكرر من أحاديث الصحابي فقط ولم يحذف المكرر في الموضوع والقضية، وهو الذي فعله في كتابه الأخير "معالم السنة النبوية" حيث حذف المكرر وانتقى أشمل الروايات في الموضوع وبلغت أحاديث الصحيحين فيه (2131) فقط، ولمزيد من الشرح ففي كتابه الجمع بين الصحيحين إذا تكرر حديث رواه عن أبي هريرة عدد من التابعين فإنه يكتفي برواية واحدة له، ولكنه لا يحذف نفس الحديث لو رواه صحابي آخر كعبد الله بن عمر مثلاً، وقد يتكرر نفس المتن عن عدد من الصحابة فيكتفى برواية لكل منهم، بينما في كتابه "معالم السنة" يكتفى برواية واحدة لأحد الصحابة لاتفاق المتن بينهم، وبذلك نقصت عدد الأحاديث فيه، كما بيّنه الشامي نفسه في مقدمة معالم السنة ص 15.
ولذلك من الخطأ الفادح والكارثي الزعم بأن الصحيح من البخاري عند الشامي هو فقط (2131) من أصل (7563)!!! بل الشامي يعتقد صحة كل أحاديث البخاري، ولكنه انتقى من الصحيحين (2131) حديثا غير مكرر. 
بعد جمع الشامي بين الصحيحين فإنه عمل على كتاب آخر وهو جمع الأحاديث الصحيحة الزائدة على الصحيحين في كتب السنن الخمسة (أبو داود، الترمذي، النسائي، ابن ماجه، الدارمي)، فصدر كتابه "زوائد السنن على الصحيحين".
وبعدها أخرج لنا كتاب "زوائد الموطأ والمسند على الكتب الستة"، أي موطأ الإمام مالك ومسند الإمام أحمد، وبذلك جمعت الأحاديث في الكتب التسعة الأساسية في السنة النبوية في ثلاثة كتب، فجاءت فكرة جمع كل هذه الكتب في كتاب واحد مرتّبة بشكل موضوعي فجمع الكتب الثلاثة السابقة في كتابه "جامع الأصول التسعة".
ثم أخرج كتاب "زوائد السنن الكبرى للبيهقي على الكتب الستة"، ثم كتاب "زوائد ابن خزيمة وابن حبان والمستدرك على الكتب التسعة"، وبعده كتاب "زوائد الأحاديث المختارة على الكتب التسعة".
وكان خلاصة هذا الجمع أن تقلص عدد الأحاديث الكلي بالمكرر في هذه الكتب كلها من (114194) إلى (28430) حديثا بالتكرار للحديث إذا اختلف الصحابي.
وهنا جاءت المرحلة الأخيرة وهي حذف التكرار في الموضوع والاقتصار على رواية واحدة صحيحة لأحد الصحابة فخرج كتاب "معالم السنة النبوية" والذي تقلصت الأحاديث فيه إلى (3921) فقط بدون تكرار نهائياً، واقتصر فيها على الأحاديث الصحيحة -سوى 33 حديثا-، وليس كل ما حُذف من المكرر ضعيفا بل كثير منه صحيح لكنه مكرر!
واعتمد في التصحيح جهود العلماء البارزين ممن حققوا السنن والموطأ والمسند وبقية الكتب كالألباني وشعيب وعبد القادر الأرناؤوط والأعظمي، وهذا من إنصاف وعدالة الشيخ الشامي وتكامله مع العلماء.
المهم أن جهد الشامي لا يهدف للطعن بالصحيحين والقول بأن غالبية أحاديث البخاري ضعيفة كما تَصور الزميل بل هدف الشامي تسهيل وصول المسلمين للسنة النبوية من خلال إزالة التكرار الصحيح أيضاً، وقد نصّ الشامي على تعظيمه للبخاري ومسلم في عدة مواطن من كتابه "جامع الأصول التسعة" منها قوله: "للاتفاق على صحة هذين الكتابين" ص 33، وفي ترتيب الأحاديث على الأبواب الموضوعية فإنه يقدم أحاديث الصحيحين ص 41، ويقول: وبعد انتهاء أحاديث الصحيحين ومعلقات البخاري أضع في سطر مستقل ثلاث نجوم *** لتكون فاصلا بين أحاديث الصحيحين وغيرها ص 43، وحول منهجه في توثيق تصحيح الحديث يقول: وقد ذكرت عند نهاية كل حديث درجته من الصحة والضعف وغير ذلك، باستثناء أحاديث الصحيحين ص 44، وفي معالم السنة أيضا قدّم أحاديث الصحيحين وميّزها ولم يحكم عليه بصحة وضعف للاتفاق على صحتها ص 17، فكيف يصحّ مع كل هذا قول زميلنا عن البخاري: فكم حديثا فيه لا يصح؟؟!!، وينسب هذه النتائج لجهد الشامي المبارك! بينما الشامي يقول إنه متفق على صحة البخاري ومسلم ويقدم أحاديثهما في الكتاب ويفصل بينها وبين بقية الأحاديث بثلاث نجوم ولا يكتب على أحاديث البخاري ومسلم لفظة "صحيح" لأنه متفق على صحتها!!
أختم الكلام بالتنبيه على أن صحيح البخاري بالذات لا يُعد جهدا فردياً، بل هو بِلغة اليوم كتاب محكّم من أعلى الهيئات العلمية في زمانه ولليوم، فسِوى تفرد البخاري بمنهجية علمية فائقة الدقة بنى عليها كتابه، فإن القيمة الحقيقية لصحيح البخاري هي بإجماع العلماء عبر مختلف الأزمان والأقطار على صحته وسلامته وتفوقه على ما سواه من كتب السنة، والعلماء ما وصلوا لهذه النتيجة إلا بعد جولات طويلة وعميقة من النقاشات والاختبارات لكل مرويّات صحيح البخاري وبعد فحص كل محاولات العلماء اللاحقين بمجاراة البخاري كمحاولة مستدرك الحاكم ومستخرج الإسماعيلي وغيرها والتي أثبتت تفوق صحيح البخاري على ما عداه، ومن هنا كان الطعن بصحيح البخاري في الحقيقة طعناً في آلاف الأئمة والعلماء في السنة النبوية عبر الأزمان المتوالية، وهذا كاف لبيان سخافة هذا الطعن خاصة إذا جاء من غير مختص ولا عارف بعلم الحديث الشريف كما هي أول بدهيات النقد العلمي والموضوعي.