إياك وصيام الجوع والعطش!

الرابط المختصر
Image
إياك وصيام الجوع والعطش!

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه، وعنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه، وعنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" رواه البخاري، وعند أحمد في المسند جاءت زيادة "عفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"، وأغلب علماء الحديث على تضعيفها.
فمن صام نهار رمضان وقام ليله وليلة القدر عهده الله عز وجل بالمغفرة، بشرطين هما:
1- أن يكون ذلك إيماناً بالله عز وجل، أي تسليماً لأمر الله عز وجل وانقياداً لشريعته، وتصديقاً أن صوم رمضان ركن من أركان الإسلام، لأن حقيقة الإيمان بالله عز وجل قول وعمل واعتقاد بالقلب واللسان والجوارح، فصوم رمضان وهو ترك المباح من الطعام والشراب والشهوة هو لازم اعتقاد القلب بالإيمان بالله عز وجل خالقاً خلق الكون ومدبره، وسيداً وملكاً وإلهاً له حق التشريع والأمر المطلق، كما قال تعالى في آيات كثيرة "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات" فدوما ما يقرن الإيمان بالعمل الصالح، والمؤمنون يتفاضلون في مقدار تصديقهم وإيمانهم بالله عز وجل وبمقدار انقيادهم وتطبيقهم لأوامر الله عز وجل.   
2- أن يكون ذلك احتساباً للثواب والأجر من الله عز وجل، وليس لعادة تعودها، أو خوفاً وحياءً من كلام الناس وتعييرهم له بعدم الصوم، ويدخل في ذلك أيضاً الفرح بالصوم والرضى به وعدم التشكي من طول الصوم أو شدة الحر.
فمن حقق هذين الشرطين: الإيمان والاحتساب، وعده الله عز وجل بالمغفرة لذنوبه الماضية، والمقصود صغائر الذنوب، قال الإمام النووي: (إن المكفرات إن صادفت السيئات تمحوها إذا كانت صغائر، وتخففها إذا كانت كبائر، وإلا تكون موجبة لرفع الدرجات في الجنات).
أما غفران الذنوب المستقبلية وهي زيادة لم تثبت في الحديث، وتساءل كثير من أهل العلم كيف يغفر ذنب لم يقع؟ فأجاب الحافظ ابن حجر وهو من القلة التي صححت هذه الزيادة، بأن المقصود بمغفرة الذنوب القادمة هو: حفظ الصائمين من الكبائر فلا تقع منهم كبيرة بعد ذلك، وقيل: إن معناه أن ذنوبهم تقع مغفورة.
والصائم المؤمن المحتسب في صيامه يكون صومه دافعاً له لتقوى الله عز وجل بالإقبال على الطاعات التي تنجيه عند الله عز وجل وهو مقصد الصوم الأكبر "يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون" (البقرة: 183)، ويكون صومه دافعاً له للبعد عن الفواحش والغضب والفوضى والصبر على إساءة الآخرين، وهذا هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: "إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم! إني صائم! إني صائم!" متفق عليه.
والرفث في الأصل هو الجماع، ولكن المقصود هنا أشمل من الجماع كما قال الحافظ ابن حجر وهو مقدماته بالكلام والفعل تلميحاً وتصريحاً، وهذا كله في الشهوة الحلال، فكيف بمن يقضى نهاره في النظرة الشهوانية المحرمة للمتبرجات في الشوارع والأسواق أو عبر شاشات الفضائيات، هل هذا ترك الرفث؟؟
وهل الصائمة التي تخرج للشارع والسوق والعمل والدراسة وقد تزينت وتعطرت ولم تتحجب بالحجاب الشرعي الذي لا يصف ولا يشف ولا يلفت ولا يشبه لباس الرجال تركت الرفث وابتعدت عنه؟
وهل الفوضى التي نشهدها في الشوارع والمتاجر وغيرها بحجة الصوم تتوافق مع أمر النبي صلى الله عليه وسلم بترك الجهل والصخب والفوضى، وأمره بمقابلة ذلك بالإعراض عن هؤلاء الجهلة بإعلان الصوم في وجوههم، فالصوم ليس إمساكا عن الحلال من الطعام والشراب والشهوة، بل قبل ذلك ومعه إمساك عن الحرام أيضاً.
فالغرض من الصوم الإجباري شهراً في كل عام، معالجة النفس البشرية وتعويدها على الانضباط بعدم التعدي على محارم الله عز وجل من الطعام والشراب والشهوات والأخلاق السيئة، قال العلامة رشيد رضا في تفسيره (المنار) عند قوله تعالى: "لعلكم تتقون" (البقرة: 183) : "هذا تعليل لكتابة الصيام ببيان فائدته الكبرى وحكمته العليا، وهو أنه يُعِدّ نفس الصائم لتقوى الله تعالى بترك شهواته الطبيعية المباحة الميسورة امتثالا لأمره، واحتسابا للأجر عنده، فتتربى بذلك إرادته على ملكة ترك الشهوات المحرمة والصبر عنها، فيكون اجتنابها أيسر عليه، وتقوى على النهوض بالطاعات والمصالح والاصطبار عليها، فيكون الثبات عليها أهون عليه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "الصيام نصف الصبر"- رواه ابن ماجة".
وتحدث العلامة البشير الإبراهيمي في غفلة بعض الصائمين عن حقيقة الصيام وأنه ليس إمساكا عن الحلال فقط فقال: "هذا الإمساك يشمل في اعتبار الدين الكامل عدة أشياء جوهرية، تمسك المسلمون بالظواهر منها، كالإمساك عن شهوة البطن، وغفلوا عن غيرها وهي سرُّ الصوم وجوهره، وغايته المقصودة في تزكية النفس، وأهمُّها الإمساك عن شهوة اللسان من اللغو والكذب والغيبة والنميمة، ومنها اطمئنان النفس وفرحها بالاتصال بالله، ومنها تعمير النهار كله بالأعمال الصالحة، ومنها الحرص على أداء العبادات الأخرى كالصلاة في مواقيتها، ومنها كثرة الإحسان إلى الفقراء والبائسين وإدخال السرور عليهم بجميع الوسائل؛ حتى يشترك الناس كلهم بالخير، فتتقارب قلوبهم، وتتعاون أنواع البر على تهذيب نفوسهم، وتصفية صدورهم من عوامل الغل والبغضاء، وتثبيت ملكات الخير فيهم".
والصوم يتعامل مع الإنسان بشقيه المادي والروحي، قال د. القرضاوي: "الصيام، وإن كان فيه حفظ لصحة البدن - كما شهد بذلك الأطباء المُختصون - ففيه أيضًا: إعلاء للجانب الروحي على الجانب المادي في الإنسان، فالإنسان - كما يصوره خلق آدم - ذو طبيعة مزدوجة، فيه عنصر الطين والحمأ المسنون، وفيه عنصر الروح الإلهي الذي نفخه الله فيه، عنصر يشده إلى أسفل، وآخر يجذبه إلى أعلى، فإذا تَغلَّب عنصر الطين هبط إلى حضيض الأنعام، أو كان أضل سبيلا، وإذا تغلب عنصر الروح ارتقى إلى أفق الملائكة، وفي الصوم انتصار للروح على المادة، وللعقل على الشهوة.
ولعل هذا سر الفرحة اليومية التي يجدها كل صائم كلما وفق إلى إتمام صوم يوم حتى يفطر، والتي عبر عنها الحديث النبوي: "للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه" متفق عليه".
وأخيراً: ليس غاية الصوم الجوع والعطش؛ كما يظن ويحصل مع بعض الصائمين، ولذلك سمح الفطر للمريض والمسافر، ومن أكل وشرب ناسياً فلا إثم عليه، والسنة النبوية مع تقليل وقت الصوم ما أمكن من خلال تأخير السحور حتى يؤذن المؤذن، بل من رفع شرابا وأذن المؤذن فإنه يكمل شربته! قال عليه الصلاة والسلام "إذا سمع النداء أحدكم والإناء في يده، فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه" رواه أبو داود، وحث النبي صلى الله عليه وسلم بتعجيل الفطور، وجعله علامة على الخيرية فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" متفق عليه.
وقد أخرج ابن ماجه حديثاً وصححه الألباني عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: " رب صائم ليس له من صومه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر"، ولذلك إياك أن تخرج من الصيام فقط بشعور الجوع والعطش، وللأسف أن هؤلاء أيضاً لا يستفيدون من هذا الشعور لا في صحتهم فتراهم على مائدة الإفطار وحتى السحور في حالة أكل مفرطة حتى أصبح رمضان لهم موسما للتخمة وزيادة الوزن! ولا يستفيدون من هذا الشعور رحمة بالفقراء لأنهم يقضون أوقاتهم في الأسواق والمقاهي يبذرون أموالهم ويحرقونها بالشيشة التي تحرق صحتهم وحسناتهم!!