مما يتفق عليه الجميع أن العمل الإسلامي المعاصر من مختلف التوجهات والبلدان قطع شوطاً كبيراً من الإنجاز والعمل في مجالات متنوعة منها: مجال الدعوة إلى الله عز وجل ومقاومة موجات الإلحاد والتغريب التي حاولت حرف الأمة عن دينها بالكلية، ومجال حماية الناشئة من دعايات الإباحية والانحلال التي تعصف بالمجتمعات الإسلامية، ومجال الرعاية الاجتماعية والتعليمية، حيث تم رعاية وإعالة ملايين المساكين والفقراء والأرامل والأيتام والمرضى، وتعليم ملايين الطلبة والطالبات، وفي مجال العمل الاقتصادي والسياسي حيث أصبح الاقتصاد الإسلامي رقما فاعلا في الاقتصاد العالمي، وأيضاً أصبح العمل السياسي الإسلامي طرفا أساسيا في العملية السياسية بشكل عام.
ومما يتفق عليه العقلاء والحكماء في العمل الإسلامي اليوم أنه يعاني من مشاكل ومصاعب داخلية تتعلق به على مستوى الفكر ومستوى العمل تمنعه من تحقيق الأهداف والغايات السامية التي يسعى لها.
ولقد أصبح الصراع الداخلي بين "قوى الشد العكسي" و"القوة العميقة" في الصف الإسلامي من جهة وبين قوى المراجعات والنقد الذاتي معلنا ومكشوفاً وأصبح هذا الصراع بذاته أحد مشاكل العمل الإسلامي المعاصر والذي يعطله عن تحقيق غاياته!
وهذا الصراع فيما يبدو هو صراع طبيعي في مسيرة الإنسانية، حيث أن البشرية كما يخبرنا القرآن الكريم تناسلت من أب واحد هو النبي آدم عليه الصلاة والسلام، وكانت على دين التوحيد، ولكن ذريته بعدة أجيال حرفها الشيطان عن التوحيد للشرك، مما استدعى إرسال الرسل والأنبياء كل فترة لهداية الناس وتصحيح مسارهم، "ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكّرهم بأيام الله" (إبراهيم: 5).
ومع ختم الرسالات ببعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين" (الأحزاب: 40)، فقد توقف وحي السماء، ولكن أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن تجديد حالة الدين موكولة لجهدنا نحن المسلمين بقوله صلى الله عليه وسلم " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"، ولذلك بقيت أمة الإسلام عبر التاريخ تواصل تجديد تدينها بنبذ ما ألصق بالدين والإسلام من شركيات وبدع ومحاربة الجهل بالعلم والاجتهاد، فبقيت أمة الإسلام حية مهما جابهت من كوارث، ومنتجة مهما جابهت من قمع واستبداد، فضلاً عن إنجازاتها العظيمة وسيادتها للعالم قرونا طويلة.
واليوم تحتاج الأمة حالة تجديد جديدة، تنتقل بها مما وصلت إليه من استعادة للهوية بعد مرحلة الاستعمار والاستقلال والصراع العلماني الإسلامي، إلى مواصلة مسار التقدم والنهضة مع استكمال تدينها بشكل صحيح يحميها من رواج البدع والخرافات التي عرقل مسيرتها قديماً، ويحميها من مخاطر الغلو والتطرف التي تعيق نهوضها ويمكّن لعدوها.
وهذا التجديد المطلوب يشمل الأمة بأجمعها لكن يطالَب به بداية على وجه الخصوص نخبتها من العلماء والدعاة والساسة والإعلاميين وأمثالهم، ولما كانت الأمة –في الغالب- متفقة على أن عزتها مرهونة بسلامة دينها، وتجاوزت دعوات العلمانيين، أصبح من المهم اليوم التركيز على تجويد التدين وتطبيق الإسلام في حياتها لتصل للمجد كما وصل سلفها وأجدادها.
وهنا أجد من المناسب استذكار تشخيص العلامة ابن القيم في كتابه المشهور "الجواب الكافي لمن سأل عن الجواب الشافي" عن سبب تخلف النجاح عن المسلم أو المسلمين بسبب الفهم الخاطئ للإسلام والذي يتسبب في خلل التدين على المستوى الفردي، ويتسبب في انحطاط قوة المسلمين وريادتهم على مستوى الأمة.
يقول ابن القيم: "وبالجملة فالقرآن من أوله إلى آخره صريح في ترتب الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب، بل ترتيب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال.
ومن تفقه في هذه المسألة وتأملها حق التأمل انتفع بها غاية النفع، ولم يتكل على القدر جهلا منه، وعجزا وتفريطا وإضاعة، فيكون توكله عجزا، وعجزه توكلا، بل الفقيه كل الفقه الذي يرد القدر بالقدر، ويدفع القدر بالقدر، ويعارض القدر بالقدر، بل لا يمكن لإنسان أن يعيش إلا بذلك، فإن الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القدر...
لكن يبقى عليه أمران بهما تتم سعادته وفلاحه، أحدهما: أن يعرف تفاصيل أسباب الشر والخير، ويكون له بصيرة في ذلك بما يشاهده في العالم، وما جربه في نفسه وغيره، وما سمعه من أخبار الأمم قديما وحديثا، ومن أنفع ما في ذلك تدبر القرآن فإنه كفيل بذلك على أكمل الوجوه ، وفيه أسباب الخير والشر جميعا مفصلة مبينة، ثم السنة، فإنها شقيقة القرآن، وهي الوحي الثاني، ومن صرف إليهما عنايته اكتفى بهما من غيرهما، وهما يريانك الخير والشر وأسبابهما، حتى كأنك تعاين ذلك عيانا، وبعد ذلك إذا تأملت أخبار الأمم، وأيام الله في أهل طاعته وأهل معصيته، طابق ذلك ما علمته من القرآن والسنة، ورأيته بتفاصيل ما أخبر الله به، ووعد به، وعلمت من آياته في الآفاق ما يدلك على أن القرآن حق، وأن الرسول حق، وأن الله ينجز وعده لا محالة، فالتاريخ تفصيل لجزئيات ما عرّفنا الله ورسوله من الأسباب الكلية للخير والشر .
الأمر الثاني أن يحذر من مغالطة نفسه على هذه الأسباب، وهذا من أهم الأمور فإن العبد يعرف أن الغفلة والمعصية من الأسباب المضرة له في دنياه وآخرته ولابد، ولكن تغالطه نفسه بالاتكال على عفو الله ومغفرته تارة وبالتسويف بالتوبة والاستغفار باللسان تارة وبفعل المندوبات تارة وبالعلم تارة واحتجاج بالقدر تارة وبالاحتجاج بالأشباه والنظراء تارة والاقتداء بالأكابر تارة أخرى".
فابن القيم هنا يرشدنا إلى أن القرآن والسنة النبوية وسنة الله في الكون تأمر بوضوح وقوة بضرورة الأخذ بالأسباب الصحيحة للنجاح والفلاح في شؤون الدنيا والدين، وأن هذه النجاح حتى يكون تاماً يلزم معرفة تفاصيل هذه الأسباب الموصلة للخير والمانعة من الشر، وألّا نركن لبعض المغالطات من التدين المغلوط بالركون لأسباب غير سليمة ولو كانت من أعمال الخير والقربات كالدعاء والاستغفار، أو أن عدونا غير مسلم وهكذا.
والمتأمل في حال العمل الإسلامي اليوم يجد أن إخفاقه عن إكمال مسيرته للنجاح التام يعود لما ذكره ابن القيم تماما، وهذه بعض الأمثلة:
- من الأسباب الصحيحة الواجب اعتمادها في نجاح العمل الإسلامي الاعتماد على العلم والمعرفة، وقد رأينا الفارق الكبير بين تجربتي ماليزيا وتركيا اللتين قامتا على توفر عنصر العلم والمعرفة لتنجح في إدارة الدولة، بينما حين تم الاكتفاء بالشعارات في تجربة الرئيس محمد مرسي حصل إخفاق كبير، بينما في نفس التجربة حين تسلح وزير التموين باسم عودة بالعلم والمعرفة تمكن من تحقيق إنجاز كبير وملموس تحت نفس الظروف المناوئة.
- من الأسباب الصحيحة للنصر والانتصار الوحدة وجمع الكلمة، وقد رأينا من قبل عقود الأثر السلبي لتفرق فصائل الجهاد الأفغاني في تأخر النصر وعدم استقرار أفغانستان رغم خروج الروس، واليوم تتكرر المأساة بتفرق الثوار والمجاهدين في سوريا رغم توحد عدوهم عليهم!
وقد لمست هذه الفصائل بركة أي تعاون وتنسيق ووحدة جزئية يقومون بها على المستوى العسكري أو السياسي، فقد حققت لهم هذه الوحدة الجزئية انتصارات ومنجزات كبيرة، فكيف إذا تحققت لهم فعلاً الوحدة الشاملة على أسس سليمة تنبذ التفريط والغلو؟
- من أسباب رفعة المسلمين التزام شرائع الإسلام كافة، فلا يعقل بحال من الأحوال أن نقيم الدروس والمحاضرات ونؤلف الكتب والنشرات حول أهمية الطهارة وصفة الوضوء والصلاة وغيرها من العبادات والشعائر، ثم لا نربط ذلك كله بشؤون الحياة من حولنا، فلا تتغير حالة النظافة في مساجدنا ومتوضآتنا ومنازلنا ومدارسنا ومرافقنا وشوارعنا عن الحالة السابقة من الجهل بالدين والأمية وانتشار البدع والخرافات، هل نعيش علمانية مقنعة تفصل بين قيم الإسلام كالنظافة والترتيب والنظام وحفظ الوقت والأولويات والمساواة التي تدعو لها العبادات وبين سلوكنا اليومي العادي؟
- وهذا مثال على الأثر السلبي لعدم معرفة تفاصيل الخير والشر، فقد بقيت قطاعات من العمل الإسلامي تهوّن من الخطر الذي سيطال الأمة لاحقاً بمداهنة الأفكار الغالية والمتطرفة سواء من الخوارج أو الشيعة، حتى وقعت الكارثة الماثلة اليوم للعيان من التفجيرات الدموية والاغتيالات الغادرة والممارسات الطائفية الجائرة فضلاً عن فتاوى التكفير التي تطال الجميع، كما يتمثل ذلك في واقع داعش والميلشيات الشيعية.
حيث كان البعض يحسن الظن ببدايات هذه التيارات بحجة أنها فصائل تقاتل أعداء الأمة الخارجين وتحارب دفاعاً عن بلاد الإسلام ضد عدوان إسرائيل وأمريكا، ولم يدركوا تفاصيل الشر في فكر وسلوك هذه الجماعات الإرهابية والتكفيرية.
- وأخيراً كم تسبب تقديم وتقريب أهل الولاء على أهل الكفاءة في داخل الصف الإسلامي من كوارث وخلافات، فضلاً عن تعارض ذلك مع قيم الإسلام، وإشاعة حالة من التناقض بالتماهي مع حالة الفساد التي نحاربها!
ولكن تم تبرير ذلك كما يقول ابن القيم بمغالطة النفس بأن هذا من مصلحة الدعوة! أو أنه لا يؤثر أو أن الأفضلية هو لمن معنا!
ختاما: لنعمل جميعاً على إكمال ما تم من خير بإصلاح أنفسنا بداية، بالتزام الأسباب الصحيحة، والتعمق في تفاصيل هذه الأسباب في هذا الواقع المعقد والمركب، ونتجنب المغالطة واتباع الهوى باسم مصلحة الدعوة والإسلام، حتى نكون جزءا من حالة التجديد المطلوبة اليوم والتي هي عملية جماعية وليست عملية فردية.
ابن القيم يكشف لنا مكمن الخلل في العمل الإسلامي!
2016/03/01
الرابط المختصر
Image