اتباع النبي علامة محبة الله عز وجل (3)

الرابط المختصر
Image
اتباع النبي علامة محبة الله عز وجل (3)

لا زلنا نتحدث عن جوانب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والتي هي الطريق لنيل محبة الله عز وجل ومغفرته، قال تعالى: "قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم" (آل عمران: 31)، وبيّنا في الحلقة الأولى أهم ما يجب متابعة النبي صلى الله عليه وسلم فيه في جانب العقيدة والإيمان والأفكار والمفاهيم، وفي الحلقة الثانية تناولنا معالم اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في جانب العبادات والشعائر والمعاملات، وفي هذه الحلقة سنتحدث عن اتباعه في جانب الأخلاق.
اتباع النبي صلى الله عليه وسلم في التخلق بالأخلاق الفاضلة
لقد مدح الله عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: "وإنك لعلى خلق عظيم" (القلم: 4)، ووصفت أمُّ المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، خلقَه صلى الله عليه وسلم بقولها: "كان خلقه القرآن" رواه مسلم، وقد أمرنا الله عز وجل بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنها أخلاقه العالية، قال ربنا في كتابه: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً" (الأحزاب: 33)، فالمسلم والمسلمة الصادقان في محبتهما لله عز وجل يتبعان النبي صلى الله عليه وسلم في أخلاقه أيضا.
مفهوم الخلق في اللغة
الخلق هو السَّجيَّة والطَّبع والدِّين، ومفهوم الخلق في الاصطلاح: هو هيئة في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال بيسر وسهولة، ومما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: "... واهدِني لأحسنِ الأخلاق، لا يهدي لأحسنِها إلا أنت، واصرِفْ عني سيِّئَها، لا يصرِفُ عني سيِّئها إلا أنت" رواه مسلم، ومن هذا الدعاء النبوي يتبين لنا أن الأخلاق منها حسن وفاضل، ومنها سيئ ومذموم.
أما الأخلاق الحسنة فيكفي أنها الغاية من بعث الله عز وجل للأنبياء عليهم السلام للبشرية جمعاء لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما بُعثت لأتمّمَ مكارم الأخلاق" رواه البيهقي وصحّحه الألباني.
فالأخلاق أساس دعوة الرسل جميعاً، صلوات الله عليهم، لأن أول الأخلاق الفاضلة هو توحيد الله عز وجل بالحبّ والطاعة والعبادة قال تعالى: "فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون" (البقرة: 152)، وذلك شكراً على جميل إنعامه وفضله على البشرية بحسن خلقهم "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" (التين: 4)، وبتكريمهم على غيرهم من الكائنات "ولقد كرّمنا بني آدم" (الإسراء: 70)، وبتسخير الكون لهم "وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه" (الجاثية: 13).
ولذلك كانت مرتبة الإحسان، والتي هي أعلى مراتب الإيمان والإسلام، هي مرتبة حسن الخلق مع الله عز وجل أولاً ومع خلقه ثانياً، يقول العلامة عبد الرحمن السعدي عند تفسير قوله تعالى: "وأحسنوا إن الله يحبّ المحسنين" (البقرة: 195) :" وهذا يشمل جميعَ أنواع الإحسان؛ لأنَّه لم يقيِّده بشيء دون شيء، فيدخل فيه الإحسان بالمال كما تقدَّم، ويدخل فيه الإحسان بالجاه؛ بالشفاعات ونحو ذلك، ويدخل في ذلك الإحسان بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وتعليم العلم النَّافع، ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس؛ من تفريج كرباتهم، وإزالة شدَّاتهم، وعيادة مرضاهم، وتشييع جنائزهم، وإرشاد ضالِّهم، وإعانة مَن يعمل عملًا، والعمل لمن لا يحسِن العمل ونحو ذلك، مما هو من الإحسان الذي أمَر الله به، ويدخل في الإحسان أيضًا الإحسانُ في عبادة الله تعالى، وهو كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: "أن تعبد اللهَ كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يَراك" . أ.هـ
ولهذه المكانة المركزية لحسن الخلق في الإسلام قال النبي صلى الله عليه وسلم:" أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا" رواه أبو داود وصححه الألباني، فتمام الخلق مع الله عز وجل بعبادته، وتمام الخلق مع عبيده هو ما يكمل الإيمان، ولما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر كان جواب النبي صلى الله عليه وسلم: "أفلا أكون عبداً شكوراً" رواه مسلم. 
ومن هنا قسّم العلماء والباحثون الأخلاق إلى قسمين هما الأخلاق مع الله عز وجل، والأخلاق مع خلقه، وتحت القسم الثاني أقسام فرعية، وكان هذا كله من خلال دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأخلاقه العالية.
يقول الإمام ابن القيم: قال أحدهم : حسن الخلق قسمان:
أحدهما مع الله عز وجل: وهو أن تعلم أن كل ما يكون منك يوجب عذرا، وكل ما يأتي من الله يوجب شكرا، فلا تزال شاكرا له معتذرا إليه سائرا إليه بين مطالعة منته وشهود عيب نفسك وأعمالك. والقسم الثاني: حسن الخلق مع الناس ، وجماعه أمران: بذل المعروف قولا وفعلا وكفّ الأذى قولا وفعلا".
1- الأخلاق مع الله عز وجل: أساس الخلق مع الله عز وجل هو الالتزام بالتوحيد كما قال تعالى على لسان لقمان: "وإذ قال لقمان لابنه وهو يعِظه يا بنيّ لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم" (لقمان: 13) فعبادة غير الله عز وجل هي تضييع لحق الله عز وجل وإعطاؤه لمن لا يستحق وهذا عين الظلم، بينما عبادة الله عز وجل هي عين العدل والحق، وقد قسم بعض العلماء موضوع حسن الخلق مع الله عز وجل إلى ثلاثة أمور:
الأول: تلقي أخبار الله بالتصديق، وهذا مصداق قوله تعالى: "ومن أصدق من الله حديثاً" (النساء: 87)، ولذلك فإن ما نعايشه اليوم من بعض أبناء المسلمين المتأثرين بشبهات الأعداء والمستسلمين لأهوائهم من تكذيب أخبار القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية بشكل صريح ومباشر أو غير مباشر عبر التأويل والتحريف هو من سوء الخلق مع الله عز وجل، والمسلم والمسلمة الحريصان على محبة الله عز وجل عليهما تصديق كل ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا لبّ الإيمان بالغيب وأساس الدين، ومن وطّن نفسه على تصديق أخبار الله عز وجل سهل عليه دفع كل شبهة جديدة حتى لو لم يتمكن من إبطالها في لحظتها، خاصة في هذا الزمان الذي كثرت فيه الشبهات ضد الدين والإسلام في وسائل الإعلام، ومن لم يوطّن نفسه على ذلك قد يتزعزع إيمانه وتستولي الشبهة على قلبه وعقله.
الثاني: تلقي أحكامه بالتنفيذ، وهذا حقيقة الطاعة والخضوع لله عز وجل، فكيف ندعي حب الله عز وجل ونحن لا ننفذ أوامره وأحكامه، ولو استقام الناس على تنفيذ أحكام الله لانتهت مشاكلهم المالية والأخلاقية وحسنت علاقاتهم الاجتماعية وعمّ الأمن والأمان ربوعهم.
فتلقي أوامر الله بالتنفيذ بحسن الطاعة والعبادة يهذب نفوسهم ويدفعهم لأداء الحقوق وإعانة المظلوم والمحتاج ويعمم العدل ورد المظالم ويدعو للإتقان من الحاكم والمحكوم في أعمالهم ووظائفهم.
والثالث: تلقي أقداره بالصبر والرضا، فالحياة لا تخلو من محن وأزمات، والمؤمن المحب لله عز وجل والمتبع للنبي صلى الله عليه وسلم يؤمن بأن الصبر وعدم التسخط واتباع الأسباب الشرعية والدنيوية هو الحل السليم، وإلا تعرض للاكتئاب والأزمات النفسية أو أقدم على الانتحار كما بدأ يشيع بين بعض المسلمين لضعف إيمانهم مما يعقد مشكلتهم في الدنيا بزعزعة أسرهم وفي الآخرة بالعذاب الشديد.
والقلب المؤمن حين يتبع النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان بعظمة الله عز وجل وأنه صاحب الصفات العلى والأسماء الحسنى وأن أوامره دوما هي عين الحكمة والعدل وأن وحيه في القرآن الكريم والسنة الصحيحة محفوظ يسهل عليه القيام بحق حسن الخلق مع الله عز وجل، وأي خلل في الإيمان سينعكس على ضعف أو خلل خلقه مع الله عز وجل.
2- الأخلاق مع خلق الله عز وجل، وهي أقسام:
* أخلاق ذاتية ونفسية: كالصدق والأمانة والعفة والصبر والشجاعة والكرم والحياء وغيرها من الأخلاق الفاضلة التي كانت من شمائله صلى الله عليه وسلم.
* أخلاق اجتماعية: كبرّ الوالدين وحسن رعاية الأبناء والإحسان للزوج وإكرام الزوجة وحسن الجوار وصلة الأرحام والتعاون مع المجتمع ومراعاة الآداب العامة وغيرها من الفضائل والمكارم التي أرشد لها صلى الله عليه وسلم.
* أخلاق اقتصادية: كأداء الحقوق وإتقان العمل ودقة الموازين وترك الغش كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* أخلاق سياسية: كالرحمة بالمرؤوسين والعدل في القضاء والحفاظ على الأموال العامة ومراعاة المصالح الحقيقية للمجتمع واحترام السفراء والإيفاء بالمعاهدات والاتفاقيات كما كانت سيرته صلى الله عليه وسلم.
* أخلاق مع البيئة: كالحرص على النظافة وإماطة الأذى عن الطريق وعدم إتلاف الزرع ولو في الحرب وعدم الإسراف في الماء اتباعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
* أخلاق مع الحيوان: كحسن الذبح وعدم العبث بحياتها للّهو وحسن التعامل معها وتجنب إرهاقها فوق طاقتها وتوفير الرعاية لها من الطعام والشراب والعلاج، فحتى الحيوانات كانت تعرف حسن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فتلجأ إليه وتشتكي ممن أضر بها.
* أخلاق مع غير المسلم: كحسن التعامل معه ورعاية حقوقه ما لم يعتدِ ويتجاوز، ولقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
* أخلاق في الحرب: كرعاية حقوق الأسرى وعدم التعرض للمدنيين والحفاظ على الممتلكات العامة والخاصة وكانت سيرته في الغزوات والسرايا تطبيق نموذجي لذلك.
هذه مجمل جوانب الأخلاق الإسلامية التي تجسدت في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم ويضيق المقام عن حصر سائر الأخلاق النبوية وذكر أدلتها، والمسلم والمسلمة الحريصان على محبة الله عز وجل ومغفرته يكونان حريصين على تعلم الأخلاق النبوية وعلى التخلق بها على قدر الوسع والطاقة، وبهذا تزدهر حياتنا الفردية وتسعد أسرنا وعائلاتنا وتعم السعادة فيها بدلاً من تزايد الخلافات واللجوء للشرطة والمحاكم وتصاعد حالات الطلاق والشقاق والخلع، وباتباع الأخلاق النبوية تستقر مجتمعاتنا الإسلامية وتستقيم أحوالنا السياسية والاقتصادية وينحصر الفساد والاستبداد.
إن شيوع الأخلاق النبوية بيننا يجلب السعادة حتى للبيئة والحيوانات وحتى لأعدائنا لأن أخلاقنا الإسلامية تقوم على الرحمة والعدل مسنودة بالشجاعة والقوة المحقة.
أخلاقنا الإسلامية المنبثقة من أخلاق النبوة والتي يلتزم بها كثير من المسلمين والمسلمات تقدم كل يوم دليلا على رقيها وإحسانها للبشرية جمعاء في كثير من المواقف التي نطالعها في وسائل الإعلام، فلنجدد العزم على زيادة الالتزام والاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم في أخلاقه لننال أكثر رضى الله ومغفرته.