اتباع النبي علامة محبة الله عز وجل (5)

الرابط المختصر
Image
اتباع النبي علامة محبة الله عز وجل (5)

نختم هذه المقالات عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، والذي جعله الله عز وجل سبيل محبته، "قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم" (آل عمران: 31)، بالحديث عن اتباعه في سنته التركية، وهي ما تركه صلى الله عليه وسلم من الأعمال قاصدا، فكما تحدثنا عن اتّباعه في جانب العقيدة والإيمان والأفكار والمفاهيم، واتّباع النبي صلى الله عليه وسلم في جانب العبادات والشعائر والمعاملات واتّباعه في باب الأخلاق وفي مسائل الحياة أو ما سماه بعض العلماء بالعادات.
السنة التركية:
إن سنة النبي صلى الله عليه وسلم تنوعت بين أعمال فعلها وأعمال تركها عامداً، وإن كان ما فعله هو السائد، والذي يستحضره المسلم والمسلمة غالبا، لكن تمام اتّباع النبي صلى الله عليه وسلم هو موافقته فيما تركه، وقد فهم ذلك الصحابة والتابعون والأئمة المرضيون، ومن ذلك:
قول حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "عليك بتقوى الله والاستقامة اتّبع ولا تبتدع"، وقال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، رحمه الله: "قِف حيث وقف القوم، فإنهم عن علمٍ وقفوا، وببصر نافذ كفوا، وهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى"، وقال الإمام الأوزاعي: "اصبر نفسك على السنة وقِف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكف عما كفوا، واسلك سبيل سلفك الصالح فإنه يسعك ما وسعهم"، وعبّر عن ذلك الإمام الشافعي، رحمه الله، بوضوح وتصريح فقال: "لكننا نتبع السنة فعلا وتركا".
فالفعل والترك هو أمر يطلب من المسلم والمسلمة اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيه، قال تعالى: "كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه لَبِئس ما كانوا يفعلون" (المائدة: 79) فسمى الله ترك النهي عن المنكر فعلا سيئا سيحاسبون عليه! وقال صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده" رواه البخاري، فسمى ترك الأذى إسلاماً وسيجازى عليه المرء بالثواب.
ولذلك يقسّم العلماء الترك لقسمين: ترك عدمي؛ وهو الترك مع الذهول عن المتروك أو مع عدم القدرة عليه، وهذا لا يحاسب عليه المسلم والمسلمة، وترك وجودي؛ وهو الكفّ مع القدرة، وهذا الذي يدخل في حد التكليف، ويجازى عليه بالثواب إن تركه لله عز وجل كترك السرقة والزنا والرشوة والكذب والظلم والفساد وسوء الخلق ... إلخ.
وبحسب أطروحة الدكتوراه ليحيى خليل، وهي بعنوان (السنة التركية) تُعرف السنة التركية بأنها: سكوت النبي صلى الله عليه وسلم عن الفعل غير الجبلي مع قيام المقتضى وعدم المانع؛ وأن لا يكون المتروك حقاً للغير.
وشرْح هذا التعريف باختصار هو أن السكوت عن الفعل يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم فقط وليس غيره، ولا يكون من أفعاله الجبلية الشخصية ككونه يكره أكل الضبّ مثلاً، ويكون مبرر الفعل موجودا في زمانه صلى الله عليه وسلم كسكوته وتركة أخذ الزكاة عن الخضروات رغم أنها موجودة بين يديه وأخذه الزكاة عن التمر والنخل، ولا يوجد مانع من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كتركه صلاة التراويح جماعة حتى لا تُفرض على والمسلمين، ولذلك فتركه لصلاتها جماعة لم يكن لحرمة صلاة التراويح جماعة بل حتى لا تصبح صلاة واجبة يأثم من يتركها، ولا يكون تركه لذلك الفعل بسبب حق لأحد كتركه أكل الثوم لحق الملائكة والمسجد فلا يحرم أكل الثوم وإنما من أكله لا يأتي صلاة الجماعة.
ومعرفة السنة التركية يكون بتصريح الصحابة بترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الفعل، أو يكون ترك الفعل المعين مفهوما ضمنيا أو عدم نقل الصحابة ذلك الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم رغم توفر همتهم لنقل كل أفعاله صلى الله عليه وسلم.
ولعل الأمثلة التالية توضح أكثر مفهوم السنة التركية:
1- صلاة العيد: فصلاة العيد صلاة جماعية وتحتاج إلى إعلام ليجتمع الناس، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يؤذن لها ولا يقول "الصلاة جامعة"، ولا يقيم لها الصلاة ولا يصلي ركعتين سنة في مصلى العيد، فلذك كانت سنته ترك الأذان والإقامة وصلاة ركعتين سنة في المصلى.
وقد صرح بترك الأذان والإقامة بعض الصحابة، فعن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال: "صليتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم العيد غير مرة ولا مرتين فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، بغير أذان ولا إقامة" رواه مسلم، ولذلك قال الإمام الشافعي في كتابه "الأم": "ولا أذان إلا للمكتوبة، فإنا لا نعلمه أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا للمكتوبة" وهذا فيه نفي نقل الصحابة للأذان لغير المكتوبة، فلا أذان لصلاة الكسوف أو الخسوف كذلك.
وبخصوص سنة العيد، قال الإمام النووي في المجموع: "أجمعوا على أنها ليس لها سنة قبلها ولا بعدها" ومستند الإجماع هو ترك النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم لوجود هذه السنة.
2- ترك الجهر بالنية في الوضوء والصلاة: فقد نقل الصحابة رضوان الله عليهم لنا صفة وضوئه وصلاته صلى الله عليه وسلم ولم يذكروا أنه كان يجهر بالنيّة، وقد شرح الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلّم، فعن حمران مولى عثمان بن عفان أنه رأى عثمان بن عفان دعا بوضوء، فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات ثم أدخل يمينه في الوضوء ثم تمضمض واستنشق واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلاثا ثم مسح برأسه ثم غسل كل رجل ثلاثا، ثم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ نحو وضوئي هذا، وقال: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يُحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه" رواه البخاري.
ولقد بيّنت لنا أم المؤمنين عائشة رضوان الله عليها بداية صلاته صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين" رواه مسلم.
ولذلك قال الإمام النووي في كتابه "المجموع": "النية الواجبة هي النية بالقلب، ولا يجب التلفظ باللسان"، والمذاهب الأربعة متفقة على أن القلب هو محل النية.
3- إنكار عقيدة المعتزلة أن القرآن الكريم مخلوق: وقد كانت حجّة الإمام أحمد بن حنبل في رفض هذه العقيدة المبتدعة أنه لا مستندَ لها في القرآن الكريم أو في السنة النبوية، فكيف تكون عقيدة إسلامية صحيحة ولم ترد في الوحي؟ ولذلك قال الإمام أحمد في كتابه (الرد على الجهمية والزنادقة): "يقال له: هل تجد في كتاب الله آية تخبر عن القرآن أنه مخلوق؟ فلا يجد. فيقال له: فتجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن القرآن مخلوق؟ فلا يجد".
4- التبرك ببعض الآثار والأشياء مما له تعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم: فمما هو معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حجّوا وزاروا مكة وكان فيها الكعبة والمقام والمنزل الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها من الأماكن التي جلس تحتها أو مرّ بها، ولم ينقل أنه حث أصحابه على زيارتها أو التبرك بها!
بل وجدنا الفاروق الملهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "أما والله لقد علمت أنك حجر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك" رواه مسلم، ولذلك لم يكن الصحابة والتابعون يستلمون ويتمسّحون بمقام إبراهيم وغيره مما حول الكعبة.
وروي أن الفاروق رضي الله عنه أمر بإزالة الشجرة التي بايع الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم تحتها بيعة الرضوان، وبيّن الإمام ابن حجر العسقلاني أنه فعل ذلك حتى "لا يحصل بها افتتان لما وقع تحتها من الخير، فلو بقيت لما أمن تعظيم بعض الجهال لها"، وقارِن فعل الفاروق الملهم بشجرة الرضوان وبين ما أحدث وابتدع مؤخرا في الأردن -بدون سند ودليل- من زيارة شجرة في الصحراء يدّعون أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس تحتها في رحلته للشام وهو غلام مع عمه أبي طالب!
ومما يكشف بطلان هذه الفرية أن هذه القصة حدثت في زمن فتوته صلى الله عليه وسلم ولم يكن هناك من يسجّل أخباره، ولم يعرف هذه الشجرةَ أحدٌ طيلة هذه العقود، والآن فجأة بدون سند أو دليل تظهر! لكنها باب للضلال في الدين والتكسب وأكل مال الناس بالباطل إذا تحولت لمزار ويباع ورقها وترابها كما يفعل مع كثير من الأشياء المشابهة زورا وبهتانا.
واتّباعا للنبي صلى الله عليه وسلم ولِما فهمه الصحابة الكرام عنه، قال الإمام النووي في بيان ضلال ما يفعله بعض الجهلة عند قبره صلى الله عليه وسلم: "لا يجوز أن يطاف بقبره صلى الله عليه وسلم ويكره إلصاق الظهر والبطن بجدار القبر، قاله أبو عبيد الله الحليمي وغيره، قالوا: ويكره مسحه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبعد منه كما يبعد منه لو حضره في حياته صلى الله عليه وسلم. هذا هو الصواب الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه، ولا يغتر بمخالفة كثيرين من العوام وفعلهم ذلك، فإن الاقتداء والعمل إنما يكون بالأحاديث الصحيحة وأقوال العلماء، ولا يلتفت إلى محدثات العوام وغيرهم وجهالاتهم".
5- ذكر الله عز وجل مع الرقص: معلوم أن ذكر الله عز وجل من العبادات الجليلة "يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا" (الأحزاب: 41)، والنبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل البشرية في ذكر الله عز وجل، فهل كان يذكر الله بالرقص والقفز؟ وهل علّمه أصحابَه؟
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولم يُنقل عنه، لما سئل سلطان العلماء العز بن عبد السلام عن الرقص أثناء الذكر أجاب بقوله: "الرقص بدعة لا يتعاطاه إلا ناقص العقل، ولا يصلح إلا للنساء، وقال الشيخ السبكي عن الذكر بطريقة الرقص والقفز: "السماع على الصورة المعهودة منكر وضلالة، وهو من أفعال الجهلة والشياطين، ومن زعم أن ذلك قربة فقد كذب وافترى على الله، ومن قال: إنه يزيد في الذوق فهو جاهل أو شيطان، ومن نسب السماع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤدب أدبا شديدا، ويدخل في زمرة الكاذبين عليه صلى الله عليه وسلم، ومن كذب عليه متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، وليس هذا طريقة أولياء الله تعالى وحزبه وأتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل طريقة أهل اللهو واللعب والباطل، وينكر على هذا باللسان واليد والقلب".
هذه بعض الأمثلة على السنة التركية الواجب الاقتداء والاتباع فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم والتي تضبط كثيرا من الخلافات بين الناس، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل شيئا مع توفر دواعيه وانتفاء المانع منه كي يكون خيراً وعبادة والله عز وجل يقول: "اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينا" (المائدة: 3)، فكيف يتم الدين ثم يزعم زاعم أن من الدين أشياء لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ولذلك نلتزم فهم الصحابة الكرام والسلف الصالح في فهم الدين واتّباع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد لخص لنا الإمام الشافعي ذلك بقوله: "لكننا نتبع السنة فعلا وتركا".