التزام الحق هو مقصد الرسالات الربانية كما قال تعالى: "إنا أرسلناك بالحق" (البقرة: 119)، واتباع الحق هو غاية خلق الإنسان وامتحانه، وهو الفيصل بين الثواب والعقاب، ولهذه المنزلة السامية للحق تكرر ورود لفظ (الحق) 283 مرة في القرآن الكريم، وجاء بمعان كثيرة من أهمها:
بمعنى الله سبحانه، لقوله تعالى: "ولو اتّبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض" (المؤمنون: 71).
وبمعنى القرآن الكريم، لقوله تعالى: "فقد كذّبوا بالحق لمّا جاءهم" (الأنعام: 5).
وبمعنى الإسلام، لقوله تعالى: "وقل جاء الحق" (الإسراء: 81).
وبمعنى العدل، لقوله تعالى: "ويعلمون أنّ الله هو الحق المبين" (النور: 25)، وقوله سبحانه: "فاحْكم بيننا بالحق ولا تشطط" (سورة ص: 22).
وبمعنى التوحيد، لقوله تعالى: "فعلموا أن الحق لله" (القصص: 75). وهناك معان أخرى للَفظ "الحق" في القرآن الكريم يمكن معرفتها بمراجعة كتب النظائر والأشباه.
وهذه المعاني تكشف فضيلة الحق بارتباطه بالله عز وجل ودينه وكلامه القرآن الكريم وتوحيده وعدله وغيرها من المعاني الجليلة، ومن هنا كان اتّباع الحق والتزامه فضيلة وشرفا يحرص المؤمنون الصادقون على اكتسابهما والتنافس فيهما.
وسنقف مع بعض الآيات التي تكشف لنا واجب المؤمن تجاه الحق واتباعه والتزامه والثبات عليه:
1- قوله تعالى: "قل الله يهدى للحق" (يونس: 35)، فالله عز وجل هو الذي يرشد للحق والصواب بالأدلة والبراهين، وليس الآلهة الباطلة من الأوثان والأحجار والأشجار، أو الفلسفات الوضعية والأهواء والآراء الشاذة والمريضة كما نرى في الفلسفات الحداثية وما بعد الحداثية، والتي حولت الإنسان إلى آلة صماء وحيوان حيران!
2- قوله تعالى: "قل نزّله روح القدس مِن ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين" (النحل: 102)، فالقرآن الكريم نزل من الله عز وجل ونزل بالحق، ليكون مثبّتاً للمؤمنين عند المحن والفتن بتوضيح المفاهيم وتبيان الأحكام الشرعية الصحيحة، وهداية ونورا للمؤمنين لتجاوز هذه الفتن والمحن وبشارة للمسلمين تخفف عنهم الآلام والمصاعب في الدنيا وتفرحهم بما أعده الله عز وجل في المستقبل للمؤمنين في جنات الخلود.
3- قوله تعالى: "والعصر* إن الإنسان لفي خُسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر" (العصر: 1-3)، فالثبات على الحق والتواصي به هو علامة الفوز وعدم الخسارة، وهو شأن المؤمنين المصلحين، وهذا يحتاج إلى معرفة الحق أولاً، والثبات عليه ثانياً في المحن، والتواصي به ثالثاً، والموفّق من يستكمل هذه المراتب الثلاث.
4- قوله تعالى: "فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنّى تُصرفون" (يونس: 22)، وهذه حقيقة قرآنية إذا استقرت في القلب صدّت كل الشبهات القديمة والحديثة، فكل ما يخالف الحق الذي جاء به القرآن والإسلام وأرشد إليه الله عز وجل فهو باطل.
وهذا الوضوح والقوة في تحمل عقيدة التوحيد هما سبب بقاء الأمة المسلمة حيّة برغم كل ما صُبّ عليها من شهوات وشبهات وعذابات ومؤامرات، فتحملت الأمة كل ذلك ونفضته عن نفسها لكونه ضلالا عن الحق، ولا تزال الأمة المسلمة ترفض هذا الضلال، ولا قيمة له عند المؤمنين.
5- قوله تعالى: "ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون" (البقرة: 42)، وهذا منهج منحرف نهى الله عنه أهل الكتاب، وهو عام لنا أيضا، فبعض الناس -لتمرير بعض ما يريده من الباطل- يخلطه بشيء من الحق أو يقوم بكتمان بعض الحق الذي يتعارض مع رغباته وأهوائه، وهذا كثير في أهل البدع كالخوارج والشيعة، الذين خلطوا باطلهم إما بدعوى تحكيم الشريعة! أو حب آل البيت! وهو منهج متّبع عند كثير من الساسة الذين يعادون الدين، لكنهم يحاولون تسخير الدين لمآربهم بخلط الحق بالباطل أو كتمان بعض الحق.
والواجب على المسلم الصادق قبول الحق صافياً وتقديمه للناس كما هو بدون تزوير أو إنقاص منه.
6- وقوله تعالى: "ولا تتّبع أهواءهم عمّا جاءك مِن الحق" (المائدة: 48)، حيث يحذرنا ربنا سبحانه وتعالى من قبول أهواء الكفار والمنافقين التي تعارض الحق مهما ظننا أن هذه الأهواء تحقق المصلحة ومهما زخرفوا هذه الأهواء.
لكن للأسف في زمن الضعف والانكسار رأينا الكثير من الناس يقبل كثيرا من أهواء أعداء الملة ويدعون لاتّباعهم في ما يعارض الحق الذي جاء به القرآن وأمر به الله عز وجل، فبعضهم يسعى لتحليل الربا وبعضهم يدعو لترك الحجاب وبعضهم يشكّك في القرآن الكريم، وبعضهم يساوي بين التوحيد والشرك وأنها وجهات نظر متنوعة ومتعددة!
وهذا كله من الخضوع للباطل وعدم الثبات على الحق والصبر عليه في وجه المحن والفتن.
7- قوله تعالى: "وإن يكُن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين" (النور: 49)، ينبهنا القرآن الكريم لحيلة بعض المغرضين بقبولهم لحكم الشريعة والدين إذا كان في صالحهم فقط! ثم يدّعون أنهم من أهل الحق وأتباعه.
وهؤلاء لهم نماذج كثيرة جدا، منهم العلمانيون الذين يتمسّحون في الدين إذا توافق معهم، ولكنهم سرعان ما يشنّون الهجمات على الدين والشريعة إذا خالفت شهواتهم ورغباتهم الدنيئة، فهم ضد الحجاب والعفة وأحكام الزواج والطلاق والميراث الشرعية، ومع التبرج والسفور والإباحية والتّفلت، فهم -في الحقيقة- مع حرية الوصول للمرأة.
كما أن هذه الآية تشمل المتعصبين لآراء أحزابهم وقادتهم من المتدينين، فهم يقبلون الحق الذي جاءت به الشريعة ما وافق قول أئمتهم، أما إذا تعارضت آراء أحزابهم وقادتهم مع الدين فإنهم يُعرضون عن الانقياد للشرع! وهذا مخالف لاتّباع الحق والثبات عليه مهما أولوا وبررو.
8- قوله تعالى: "وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا" (الإسراء: 81)، وهذه سنّة كونية لا تتغير أن الباطل يزهق ويمحق إذا جاء الحق، فعلى أتباع الحق القيام بحقه، وهو التزامه ونشره ومجابهة الباطل بالحق، وعندئذ يزهق الباطل.
وما انتفاش الباطل اليوم في العالم إلا بسبب تقصير أهل الحق بواجب الحق بالحق.
اتّباع الحق نور
2017/08/01
الرابط المختصر
Image