رغم أن الكثير من الناس مهتم ومؤيد لإنهاء احتلال الأقصى من قبل اليهود والصهاينة، إلا أنهم لا يدركون كثيرا من تاريخ الأقصى وقضيته، ولا يدركون الكثير من الدروس التي ارتبطت بفتحِه وعمارته ونهضته وتقدمه، ولا بدروس احتلاله واغتصابه من الصليبيين، ولا بدروس استعادته وتحريره على يد صلاح الدين، ولا بدروس تكرّر احتلاله من الصليبيين بعد تحريره بـ 42 سنة ولمدة 10 سنوات، ثم احتلاله مرة ثالثة من الصليبيين لمدة سنة!
في هذا المقال سنركز الحديث عن تاريخ الاحتلال الصليبي الثاني والثالث والدروس غير المستفاد منها لليوم في التعاطف والاهتمام والعمل لنصرة الأقصى المحتل للمرة الخامسة على يد اليهود سنة 1948 جزئياً حيث القدس الغربية، وسنة 1967 كلياً باحتلال القدس الشرقية، بعد احتلاله للمرة الرابعة على يد بريطانيا سنة 1917 لمدة 30 سنة.
كثير من الناس لا يعرف أن القدس والأقصى بعد تحريرهما على يد صلاح الدين سنة 583 هـ/ 1187 م تم إعادة احتلالهما من الصليبيين سنة 627هـ/ 1229م لمدة عشر سنوات، فبعد وفاة صلاح الدين سنة 589هـ / 1193م انقسمت دولته بين أبنائه: الملك الأفضل علي بن صلاح الدين، الذي تولى على القدس ودمشق، والملك العزيز عماد الدين عثمان بن صلاح الدين، الذي تولى على مصر، وبين إخوة صلاح الدين: الملك العادل الذي تولى على الأردن والكرك، وبعض ولاة صلاح الدين أعلنوا استقلالهم عن الدولة الأيوبية التي أسسها صلاح الدين، مثل عز الدين مسعود، والي الموصل، وقد حذر العلماء من خطورة هذا التفتّت للدولة الأيوبية.
وفوق مصيبة التفتت والتشتت كان كلا الملكين الأفضل علي بن صلاح الدين والعزيز عماد الدين سيئي التعامل مع العلماء والأمراء والعامة، فشاع الظلم وتفشت الضرائب المجحفة، كما نشبت بينهما النزاعات والخلافات المتكررة.
وأرسل أهل دمشق للملك العزيز عماد الدين عثمان يطلبون قدومه من مصر وتخليصهم من شر أخيه الأفضل، الذي وجدها فرصة سانحة للاستيلاء على ملك أخيه وليمدد ملكه! لكن عمه العادل نصحه بالبقاء في مصر فاستجاب له وعاد لمصر بعد أن كان قد وصل جيشه لجنوب فلسطين، ولكن أهل دمشق كرروا الطلب من العزيز فتحرك مرة ثانية واستعان بعمه العادل الذي فشل في الإصلاح بينهما، فرأى معاونة العزيز على الأفضل الذي اعتبره الأسوأ، وفعلا استولى العزيز على القدس ودمشق ولكن العادل طلب منه العودة لمصر وأن يتولى هو أمر دمشق، فأصبح العزيز يحكم مصر وفلسطين والقدس، وتم إرضاء الأفضل بحكم منطقة حوران.
وفي ظل هذه الخلافات والصراعات (الأخوية) قامت الإمارات الصليبية في عكا وصور وطرابلس وأنطاكية بالتنسيق فيما بينها ومراسلة بابا روما لشنّ حملة صليبية جديدة ضد القدس والأقصى، لكن قدّر الله عز وجل أن تدبّ الخلافات بين هذه الممالك والجيش الألماني القادم لهذا الغرض، والذي عاد أدراجه بسبب هذه الخلافات!
ومع كل هذه التحديات تضاعفت صراعات الأيوبيين فيما بينهم، فحين توفي الملك العزيز سنة 595هـ، خلفه ابنه المنصور، وكان عمره 10 سنوات، فطلب أمراء الجيش من الأيوبيين في الشام أن يرسلوا وصيّا على المنصور، فبادر الملك الأفضل لذلك واستلم حكم مصر، وسرعان ما أساء السيرة مع أهل مصر، وحبك المكائد ضد عمه الملك العادل في الشام، وفعلا شن هجوما على دمشق استمر لستة شهور لكنه فشل وعاد لمصر، لكن العادل لاحقه وهزمه واستولى على حكم مصر، وبذلك عادت دولة صلاح الدين لتتوحد تقريباً من جديد على يد العادل، لكنه كرر سياسة صلاح الدين بتولية أبنائه الحكم في عدة مناطق، فلما مات سنة 615هـ، تفرقت الدولة إلى ثلاث ممالك يتولاها: الكامل، والمعظم، والأشرف، مما حدا بالبابا الدعوة لحملةٍ صليبية جديدة، والتي تحركت ووصلت لدمياط في مصر، واحتلتها وهددت الملك الكامل باحتلال مصر إذا لم يسلمهم القدس، لكن أخاه المعظم، والي دمشق، أرسل له نجدة صغيرة.
رافق ذلك هجوم المغول من جهة الشرق حتى وصلوا مشارف العراق مما أشغل الناس عن مناصرة الملك الكامل في مصر ضد الصليبيين، فرضخ الكامل وتفاوض على القدس! لكن الصليبيين طمعوا بمصر مع القدس مما اضطر الكامل والمصريين للمقاومة، وفعلا بقيت مقاومة الصليبيين قائمة مدة 3 سنوات حتى تراجع الصليبيون إلى عكا.
وفي سنة 624هـ، توفي الملك المعظم، فاقتسم أخواه مملكته، فالكامل ضمّ القدس لملكه في مصر، والأشرف ضم دمشق لحكمه في الأردن، وقبل تولي الكامل لحكم القدس كان قد استنجد بإمبراطور ألمانيا، فريدريك الثاني، لمعاونته ضد أخويه المعظم والأشرف مقابل أن يسلّمه القدس!! لكن فريدريك لم يصل إلا في سنة 625هـ، مع 500 فارس فقط بعد تولي الكامل لحكم القدس مما جعل الكامل يتراجع عن وعده وبدأ مفاوضات طويلة مع فريدريك، أسفرت عن موافقة الكامل على اتفاقية هدنة مدتها عشرة سنوات تنازل فيها عن القدس والناصرة وبيت لحم واللد وصيدا لفريدريك دون قتال شريطة أن لا يبني بها الصليبيون قلاعا، حيث كان الملك المعظم قد خرب أسوارها عندما حاصر الفرنج دمياط، بل تترك كمدينة دينية مفتوحة لا يُمنع منها المسلمون مقابل عدم مهاجمة ملكه في فلسطين ومصر، ليتفرغ لقتال أخيه!!
ووصف المؤرخ المقريزي حال المسلمين عند عقد الاتفاق سنة ٦٢٧ ه بقوله: «إن الملك الكامل أرسل رجاله، فنودي بالقدس بخروج المسلمين منها لتسليمه إلى الفرنج … فاستعظم المسلمون ذلك، وأكبروه، ووجدوا من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه.. واشتد البكاء وعظم الصراخ والعويل، وحضر الأئمة والمؤذنون من القدس إلى مخيم الكامل، وأذّنوا على بابه في غير وقت الأذان، واشتد الإنكار على الملك الكامل، وكثرت الشفاعات عليه في سائر الأقطار».
واستمرت القدس محتلة حتى سنة 635هـ حيث تفاقمت خلافات الأيوبيين بعد وفاة الملك الأشرف والملك الكامل، وانتهز الصليبيون الفرصة وبدأوا يعدّون لحملة جديدة باعتبار اتفاق الكامل سقط بموته، وبنوا قلعة برج داود بالقدس، مما عدّه الناصر داود ابن المعظم نقضا للهدنة والاتفاق فاستعان بالخوارزميين، وجاء من الأردن وهاجم القدس وهدم البرج بالمنجنيق وحرّر القدس بعد عشر سنوات (٦٣٦ ه).
ولكن مع الأسف سرعان ما عادت الخيانات والخلافات بين الأيوبيين لتجعل الناصر داود نفسه يتفق مع الصالح إسماعيل، والي دمشق، على تسليم القدس للصليبيين لكسب معونتهم ضد ابن عمهم الصالح نجم الدين أيوب، ملك مصر، وذلك سنة 641هـ، ويروي المؤرخ ابن واصل الحموي تلك المصيبة فيقول: "فرأيتُ الرهبان والقسوس على الصخرة المقدسة، وعليها قناني الخمر برسم القربان، ودخلتُ الجامع الأقصى وفيه جرس معلّق، وأُبطل بالحرم الشريف الأذان والإقامة، وأُعلن فيه بالكفر"!!
ومرة ثانية استعان الصالح نجم الدين أيوب ملك مصر بالخوارزميين لتحرير القدس سنة 642هـ، في معركة رهيبة قرب غزة سماها بعضهم بحطين الثانية، تجمعت فيها جيوش ممالك الصليبيين وجيش الصالح إسماعيل ضد جيش مصر الصغير الذي تمكن من هزيمتهم، وساعده في ذلك انشقاق أغلب جيش الشام وانضمامه إلى جيش مصر ضد الصليبيين، وبذلك انتهى الاحتلال الصليبي للقدس، والذي بلغ مجموع سنواته 99 سنة، ليتجدد مع الاحتلال البريطاني، ومن ثم اليهودي.
ومن أهم الدروس الواجب الاستفادة منها في واقعنا الحالي من هذه التجربة المرة خطورة الخلافات والصراعات الداخلية بين الملوك والأمراء الأشقاء أو القادة داخل الصف الواحد.
وكيف أن الأعداء كانوا على أهبّة الاستعداد لاقتناص الفرصة ونصرة طرف على آخر طالما أن عنده الاستعداد لخيانة القدس والأقصى.
ومشابهة ذلك الحال السيئ لما هو حاصل اليوم في واقعنا السياسى مشابهة واضحة، حيث تتراشق الدول العربية والإسلامية فيما بينها الحملات الإعلامية، وأحياناً العسكرية (غزو العراق للكويت، المغرب والجزائر، مصر والسودان،..)، وأسوأ هذه الصراعات العسكرية على الإطلاق هو عدوان إيران ومليشياتها الطائفية والإرهابية ضد عدد من الدول بقيادة (فيلق القدس) حيث قتلت مئات الآلاف ودمّرت القرى والبلدات والمدن بحجة البحث عن طريق القدس! والمستفيد الوحيد من تدمير هذه الدول وقتل أهلها وتشريدهم هم اليهود محتلو القدس! والأعجب من ذلك أن كل هذا العدوان يتم تبريره من قادة محور طهران باسم المقاومة والممانعة لليهود محتلي القدس!!
والأخطر من الحروب الأهلية بين الدول العربية والإسلامية انجرار الشعوب العربية لهذه الصراعات الإعلامية والسياسية وتراشقها التخوين والشتائم، مما يفتت الوحدة الباقية على مستوى الشعوب، فمرة تنشب هذه المعارك بين الشعوب لسبب تافه كالمعارك بسبب كرة القدم، ولعل نموذج مصر والجزائر مثال واضح على ذلك، وقد يكون بسبب أكاذيب وإشاعات يتم ترويجها بين الشعوب ضد الشعوب الأخرى من قبل سفهاء أو خبثاء بإشراف عالمي، وقد يكون بسبب تحليلات سياسية مضللة.
إن وعينا بضرورة وحدة شعوب الأمة على الحق بانتهاج صحيح الإسلام من جهة والحرص على الوحدة والاتفاق والاجتماع مع تقديم النقد البناء وحصر الصراع والعداء مع الأعداء الحقيقيين للأمة وعدم الانجرار خلف الشائعات والمعارك الجانبية والوهمية لهو من الواجب الذي على الجميع التزامه.
لنتوقف جميعا عن نشر الخلافات المبنية على الإشاعات والأكاذيب، ولنتوقف عن نشر الكراهية وتفريق الصف في وسائل التواصل الاجتماعي أو في حواراتنا المباشرة، فالأقصى لا يُنصر بالوقيعة بين الناس والشعوب والدول وتفتيت الصف واللحمة وإثارة الحروب الأهلية والبينية، فهل نتعلم الدرس التاريخي!
احتلال الأقصى والدروس غير المستفادة!
2017/12/01
الرابط المختصر
Image