لم يتوقف الكثيرون عند تصريح الرئيس الأمريكي ترامب بخصوص اتفاق الإمارات واليهود واللقب والتسمية التي سمّاه بها (اتفاق أبراهام) والتي شرحها السفير الأمريكي لدى اليهود ديفيد فريدمان حين قال إن اتفاقية السلام بين الإمارات وإسرائيل ستعرف باسم "اتفاق إبراهيم"، حيث سميت على اسم "أب الديانات الثلاث الكبرى"، المسيحية والمسلمة واليهودية.
وهذه التسمية تنسف أوهام كثيرين ممن يحاولون نفي أي دور للدين عموما، وللإسلام خصوصا، في الشأن السياسي المحلي والدولي، في الوقت الذي يصر فيه غالبية اليهود، وفي مقدمتهم النتن، على يهودية الدولة كشرط لأي تفاوض واتفاق، ويسمي الاتفاق الأخير باسم (إبراهام) وهو الاسم العبري أو التوراتي لأبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وذلك ضمن سياق سياسي دولي بامتياز يقوم على استخدام الدين وتوظيفه في السياسة الدولية سواء لدى الروس، الذين يوظفون الدين عموما والكنيسة الأرثوذكسية خصوصا، كأحد مظاهر القوة الروسية الناعمة أو تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت بأهمية الدين في صنع السياسة الخارجية في عالمنا اليوم.
وحول ماهية الإبراهيمية ومضمونها وتاريخها والمطلوب منها وحقيقتها وحقيقة مخاطرها أنصح القارئ الكريم بمشاهدة حلقة حوارية ثرية للدكتورة هبة جمال الدين الباحثة في الدراسات المستقبلية بمعهد التخطيط المصري والتي كانت بعنوان: الإبراهيمية دين جديد يعيد رسم خريطة الشرق الأوسط، وقد سبق لها أن نشرت في يناير ٩١٠٢ بحثا طويلا من ٠٢١ صفحة في مجلة مستقبل التربية العربية بعنوان: الدبلوماسية الروحية مسار جديد ومخاطر كامنة وسياسات بديلة لصانع القرار، ولتشويق القارئ لمشاهدة الحلقة ومطالعة بحثها الهام -ولعله الأول في الباب- ألخّص بعض المحاور والأفكار الرئيسة.
تقوم فكرة الإبراهيمية على أن الصراع في منطقة الشرق الأوسط سببه ديني أو من أسبابه الدين، وعلاجه لابد أن يكون من خلال الدين! ولكون الصراع بين طرفين يهودي ومسلم ووسيط أو حليف مسيحي فإن البحث عن جذر ديني مشترك يقود لإبراهام= إبراهيم ليكون محور الارتكاز!
قد تبدو هذه الفكرة مقبولة أو صحيحة بشكل مبدئي، لكن واقع الحال والتطبيق يقول بخلاف ذلك، حيث يعترف الإسلام بعيسى وموسى عليهما الصلاة والسلام ورسالتهما الصحيحة كرسالات سماوية، بينما لا تعترف المسيحية إلا باليهودية كديانة سماوية، بينما اليهود لا يعترفون لا بالمسيحية ولا الإسلام! مما يجعل الجذر المشترك –عمليا- هو اليهودية، وبذلك تصبح الإبراهيمية في الحقيقة = اليهودية مباشرة أو بشكل غير مباشر! وهذا في ميزان الإسلام أمر مرفوض تماما لقوله تعالي: "ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين" (آل عمران: ٧٦).
ويتضح خطورة هذا المدخل (الإبراهيمي) حين نعرف أن المطروح هو نزع القداسة عن القرآن الكريم والإنجيل والتوراة وعن الأماكن المقدسة في الديانات الثلاث ومنحها فقط لما يتم إقراره من مفاهيم ومبادئ كمشترك إبراهيمي بينهم! وإضفاء صفة القداسة فقط على المراكز الإبراهيمية! وقارن هذه التوجهات الخفية التي تريد اجتثاث الدين والهوية والمقدسات والرموز والأرض والتاريخ بينما يطلبون من شعوب المنطقة وخاصة المسلمين التسامح والتعايش وتقبل الآخر = اليهود بعدوانهم وإرهابهم!
ومن هنا تتضح أهمية بناء وعي الأجيال وبناء هويتهم الصحيحة والحرص على تطوير المناهج التعليمية بشكل سليم وبناء لمصلحة أمتنا وليس لمصلحة شركات يهودية أو خطط (إبراهامية)، وفي الوقت الذي تُنتقد فيه مناهج التعليم في بلاد العرب والمسلمين لا تمس المناهج المتطرفة اليهودية، وقد حاولت وكالة "الأونروا" قبل مدة تغيير مسمى القدس للمدينة الإبراهيمية ولكن تصدي الفلسطينيين أجبرها على التراجع عن هذا التحريف.
هذه الأفكار كما تقول د. هبة ليست شطحات خيال بعض الحالمين أو المتهورين كالرئيس ترامب، لا، بل هي استراتيجية تنظر لها وتؤصل مراكز دراسات أمريكية في جامعات عريقة مثل هارفارد وغيرها، وتحتضن هذه الاستراتيجية وزارة الخارجية الأمريكية منذ سنوات طويلة.
ومن الأمثلة العديدة التي تقدمها د. هبة على قِدم هذه الاستراتيجية وأنها قيد التطبيق والتحضير أن صندوق النقد الدولي قدم تقريرا عن المشترك الإبراهيمي في عام ٠٠٠٢، وأن الأمم المتحدة عقدت أول اجتماع للقادة الدينيين سنة ٥٠٠٢ للتمهيد لانخراط رجال الدين في تفاوض دبلوماسي قبل تفاوض الساسة الدبلوماسي!
وتؤكد د. هبة أنه تقرر الاعتماد على رموز التصوف لقيادة هذه الدبلوماسية الإبراهيمية ولذلك عقد في المغرب في ٧١٠٢ الملتقى العالمي الثاني عشر بعنوان: التصوف والدبلوماسية الروحية، الأبعاد الثقافية والتنموية الحضارية.
ومن الأمور المهمة التي نبهت على خطورتها د. هبة طرح اليهود وأنصارهم لقصة المسار الإبراهيمي (رحلة إبراهيم) بين الدول، وهي تقوم على مزاعم التوراة التي ثبت تحريفها والتلاعب بها، حيث أن هذا المسار المزعوم هو تقريبا يماثل الأطماع اليهودية لإسرائيل الكبرى! ومن جهة أخرى هناك مطالبات بنزع ملكية المسار من الدول والشعوب الموجودة وتدويلها! كما أن اليهود يرددون دعاية خطيرة هي مراعاة الشعوب الأصلية بالمنطقة!
وهذا يذكرني بكتاب غريب وعجيب صدر منذ أشهر تحت اسم (التوراة الحجازية) لطبيب لبناني يزعم فيه أن التوراة عربية الأصل ومكتوبة بلهجة حجازية منقرضة لكنه استطاع إعادة إحيائها بشكل فردي! وقد رفض ذلك كثير من المختصين والباحثين في اللغات القديمة! ثم أخذ يقدم مقررات عجيبة منها أن غالبية القبائل العربية اليوم في الجزيرة العربية تنحدر من بني إسرائيل وليسوا من نسل إسماعيل!
ومما يؤكد أن هذا المخطط كبير وممتد ومتعدد المظاهر ما أعلن عنه قريبا من إقامة كنيس يهودي في الإمارات وأداء الطقوس فيه دون وجود من يحتاج إلى ذلك.
ترجع د. هبة بداية فكرة الإبراهيمية لسيد نصير المسجون في أمريكا بتهمة قتل حاخام يهودي إرهابي في ٠٩٩١ كمحاولة منه لإطلاق سراحه بعد أن ثبت أن الحاخام قُتل برصاصة ليست من رصاصات نصير! وأنه راسل عددا من المسؤولين الأمريكان حول ذلك حتى تفاعل معه ديك تشيني نائب الرئيس الأمريكي وقال له: لقد وصلت الرسالة.
لكن هل (الإبراهيمية) فعلا من بنات أفكاره أم هي إيحاء من جهات أخرى، أم تطوير على فكرة السادات بمجمع ديني للديانات الثلاث بسيناء؟ أم أن هناك جذورا أعمق وأبعد من ذلك؟ الأيام كفيلة بالإجابة عن ذلك وبيان مدى نجاح هذه البوابة لتمرير صفقة القرن والتطبيع مع اليهود.