الإسلاميون ومركز راند قراءة في مشاريع الاعتدال الأمريكي

الرابط المختصر
Image
الإسلاميون ومركز راند قراءة في مشاريع الاعتدال الأمريكي

مرة ثانية يعود الباحث بلال التليدي لاستعراض موقف مركز دراسات أمريكي من مشاركة الإسلاميين السياسية، بتخصيص مركز راند بدراسة مستقلة بعد دراسته السابقة عن مركزي واشنطن وكارنيجي، وصدرت الدراسة أيضاً عن مركز نماء وتقع في 170 صفحة، وكانت طبعتها الأولى عام 2015م، وساهم د. عادل الموساوي في الكتاب بورقة عن أثر تقارير "راند" في صياغة مفردات السياسة الخارجية الأمريكية.
تنبع أهمية تقارير مركز راند من كونه نشأ أصلا في داخل وزارة الدفاع الأمريكية قبل ما يزيد عن 60 عاما، ولذلك تلْقى توصياته قبولا واسعا في دوائر الإدارة الأمريكية، ويأخذ كثير منها طريقه إلى التطبيق على أرض الواقع.
تهدف الدراسة لبيان أطروحة مركز راند تجاه الحركات الإسلامية وتطوراتها ومقارنتها بأطروحة مراكز الدراسات الأمريكية الأخرى، وذلك بالتركيز على فحص دراستي المركز "الإسلام المدني الديمقراطي" لشيريل بينادر، التي صدرت عام 2004م، والتي هدفت إلى تقديم أساس نظري لتفسير مدني ديمقراطي للإسلام، وموقف الأطراف الإسلامية من هذا التأسيس النظري.
والدراسة الثانية "بناء شبكات معتدلة في العالم الإسلامي" لعدة باحثين سنة 2007م، والتي تولت فحص جدوى تلك الاستراتيجية اعتمادا على تجربة أمريكا مع القوى الشيوعية إبان الحرب الباردة.
في الفصل الأول قام الباحث باستعراض دراسة "الإسلام المدني" وأنها جاءت كرد فعل على تفجيرات 11/9، وحاجة أمريكا لإعادة صياغة وتشكيل رؤية المجتمع العربي والسيطرة على التحديات التي نتجت عن تلك التفجيرات، وقد تصدرت أطروحتان في أمريكا حول علاج ذلك هما: رؤية أمنية يرافقها فرض تعديلات على فهم الإسلام وتحالف مع قوى حداثية، ورؤية تركز على ترقية الديمقراطية وإشراك الإسلاميين في النسق السياسي، وهو ما تم استعراضه في كتاب المؤلف السابق عن مركزي واشنطن وكارنيجي بتفصيل.
على هذه الخلفية جاءت دراسة "الإسلام المدني" لتنتقل من حالة فهم ما يجري في العالم العربي، وحالة المساهمة في إنتاج معرفة علمية تفسر الوقائع والعلاقات في العالم الإسلامي، لتطرح خطة عمل تؤثر وتغير الواقع، واعتمدت لذلك على التوصيات العملية والتنفيذية، لتحقيق الرغبة الأمريكية بـ "عالم إسلامي متناغم مع النظام العالمي: ديمقراطي، وقابل للنمو الاقتصادي، ومستقر سياسيا، وتقدمي من الناحية الاجتماعية، يتبع قواعد السلوك الدولي وقوانينه". ولحصول ذلك ترى دراسة "الإسلام المدني" ضرورة تغيير خريطة مواقع ووظائف الفاعلين في العالم الإسلامي! 
تنطلق الورقة من أن العالم الإسلامي يعاني من التخلف والبعد عن الثقافة العالمية، وبسبب ذلك يعاني الغرب من سلوكيات التفسيرات الراديكالية للإسلام (التطرف والإرهاب)، وللتخلص من ذلك كله، يجب تطوير الإسلام نفسه وتعديله أو إعادة بنائه، عبر دعم تيارات تقبل تفسيرا حداثيا للإسلام، ومحاصرة التيارات الرافضة لذلك.
ولتجنب أن تحدث ردة فعل ضد أمريكا أثناء تطويع الإسلام، تقترح الورقة أن يتم ذلك عبر تيار حداثي إسلامي، وينحصر دور أمريكا في تعيين الاتجاهات التي يمكن لها فعل ذلك، والتفكير بطرق دعمها ومساندتها، والتحسب لمخاطر تداعي صورة أمريكا الإيجابية بين المسلمين بسبب ذلك.
ولتحديد الجهات المنفذة للخطة، يتم تقسيم المسلمين إلى أربعة اتجاهات بحسب الرؤية الأمريكية للإسلام دون معايير علمية وموضوعية، هي:
1- أصوليون، متمسّكون بالإسلام وهذا الاتجاه يضم طيفا واسعا من ملالي الشيعة وحزب التحرير وطالبان وعلماء السعودية! وهم –بدورهم- نوعان: من يمارس الإرهاب ومن لا يمارسه!
2- تقليديون، وهم محافظون يحرصون على محافظة الدولة على تطبيق الإسلام ولا يمارسون الإرهاب، وإصلاحيون يمكنهم تقديم تنازلات تتعلق بتطبيق الإسلام.
3- الحداثيون الذين يؤمنون بأن الإسلام جاء لمرحلة زمنية مضت، ويمكن اليوم تطويره بحسب الواقع الجديد والقيم العصرية، ويتمثل هؤلاء في عدنان إبراهيم، وسعد الهلالي، والقرآنيين، وأمثالهم.
4- العلمانيون الذين يَفصلون الدين عن السياسة، منهم معتدلون يحصرون الدين في المجال الشخصي، ومنهم متطرفون كالشيوعيين يحاربون الدين نفسه.
وترى الدراسة أن التركيز يجب أن يكون على الحداثيين من خلال دعم رؤيتهم ضد التقليديين (الهيئات الدينية الرسمية، الشخصيات الدينية الشعبية)، ونشر أعمال الحداثيين ودمجها في مناهج التعليم الديني، ودعم العلمانيين بشكل فردي خشية من دعم تيارات شيوعية ويسارية معارضة للسياسات الأمريكية رغم توافقهما ثقافيا، وزرع بؤر توتر بين التقليديين والأصوليين، ودعم التقليديين حينما يتقاطعون مع الاختيارات الأمريكية، وإبراز مواقفهم تلك، وملاحقة الأصوليين، وضربهم، واستغلال نقاط الضعف.
يؤكد الباحث أن هذه الدراسة تجاوزت فهم الواقع وركزت على تلبية رغبات الخارج، ولذلك لم تنجح هذه الرؤية لليوم رغم مرور 12 سنة عليها، فلا زال التيار الحداثي هامشيا لا تأثير له في الشارع، برغم المساحة الواسعة له في الإعلام، وتم إهمال المجتمع وهو الأغلبية الصامتة والذي لم يتطرف ولم "يتحدثن"، وبقي محافظاً على وسطيته.
وأخيراً فإن السلطات القائمة لا تجد مصلحتها دوما في التحالف مع القوى الحداثية لما قد يلحق بها ذلك من ضرر بالغ.
الفصل الثاني استعرض دراسة "بناء شبكات معتدلة في العالم الإسلامي"، وهي تهدف لتقديم أفكار ومقترحات لتقوية التيار الحداثي في العالم الإسلامي بما يضعف قوة التيار الأصولي، اعتمادا على تجربة مقاومة الشيوعية قبل عدة عقود.
أبرزت الدراسة أن التجربة السابقة راهنت على المجتمع المدني وبناء مؤسسات ديمقراطية وخلق بؤر توتر داخل البنية اليسارية ودعم اليسار غير الشيوعي، ونجحت في مكافحة الشيوعية في أوربا والاتحاد السوفييتي. 
لكن الفارق بين التجربتين أن العدو الإسلامي اليوم ليس ذا طابع مؤسسي كالشيوعية، والمجتمع المدني وقوة الصلة مع أمريكا كانت في أوربا قوية بخلافه في العالم الإسلامي، وبينما كان يمكن السيطرة والتحكم بالإعلام لصالح أمريكا فإن السيولة الإعلامية اليوم تُضعف من ذلك كثيراً، وكانت خيارات أمريكا أمام الشيوعية واضحة ومحددة بخلاف اليوم. لكن واضعي الدراسة يتجاوزون هذه الاختلافات ويرون إمكانية إعادة تطبيقها بنجاح.
وذلك بالمراهنة على دعم (المعتدلين) بسحب عناصر القوة من التيار الغالب وهو التيار الإسلامي لصالح تيار هامشي هو الحداثيون، والجديد في هذه الدراسة أنها تتجاوز مفهوم الاعتدال الذي طرحه مركز كارنيجي، وهو رفض العنف، لتصك مفهوما ثقافيا للاعتدال يربط الاعتدال بقرب هذا التيار من القيم الليبرالية مهما كانت مناقضة للإسلام نفسه!
ولذلك كان من أوجه نقد الباحث لهذه الدراسة أنها تستبطن فكرة استقرار الإرهاب في أصل الإسلام والدين، وأن تعديله هو الحل! كما أن من جوانب خلل هذه الرؤية أن معيار الاستقرار هو استقرار مصالح أمريكا بغضّ النظر عمّن يحققه من الأنظمة القائمة، مهما كانت فاسدة أو غير ديمقراطية، وليس الاستقرار القائم على العدل والحق.
وجاء الفصل الثالث ليقارن طرح دراسات مركز راند مع بقية المراكز الغربية، حيث تتفق غالب هذه المراكز على أن أمريكا تواجه تحدي تنامي الإرهاب وأن التيار الحداثي هو الأقرب لأن يكون حليفا وشريكا لها في مواجهته برغم إقرارهم بضعفه وهامشيته، وحول اعتماد الديمقراطية في الشرق الأوسط فهذه المراكز لا خلاف بينها على ذلك طالما أنه لا يضر بمصالح أمريكا.
وتتوزع خيارات هذه المراكز في العمل المطلوب لمعالجة تحدي الإرهاب بين ترويج تفسير مدني جديد للإسلام، أو تقوية شبكات الاعتدال ودعم الشركاء الحاليين والعمل على تنشئة آخرين، والتلاعب بخارطة التحالفات بين الأطراف الدينية لصالح الحداثيين، أو دعم اندماج الإسلاميين المعتدلين في الحقل السياسي.
لكن الخلافات تظهر بين رؤي هذه المراكز في تحديد المعتدلين وشكل التعامل معهم وإلى أي مستوى، حيث يرى مركز واشنطن ضرورة منع الإسلاميين من الوصول للسلطة ولو عبر الانتخابات، ولذلك يتبنى فكرة ديمقراطية الاستثناء، والتي تعني دعم الديمقراطية وحرب الإسلاميين!
أما مركز كارنيجي فيرى ضرورة إدماج الإسلاميين سياسيًا ليعتدلوا، ومن ثم تعميق صلاتهم بالقوى العلمانية في وجه الاستبداد السلطوي، لكسر لعبة السلطة في احتضان الأقلية العلمانية في وجه المعارضة الإسلامية بما يديم حالة الفساد السلطوي، ويعزز فرصة تطرف القوى الإسلامية.
وقريب من رؤية كارنيجي، يتبنى مركز بروكينغز والمعهد الأمريكي للسلام رؤية إدماج الإسلاميين المعتدلين في السلطة، وأن هذا الدمج هو الذي يحقق الاستقرار في المنطقة وللمصالح الأمريكية.
وبذلك تقترب رؤية مركز راند من رؤية مركز واشنطن في الخطوط العامة، لكنها تتقاطع مع رؤية مركز كارنيجي وزملائه في توظيف المعتدلين في تحقيق رؤيتها وإن كان مفهوم المعتدلين عندها أضيق من رؤية "كارنيجي" وزملائه.
وجاء الفصل الأخير الذي أعده د. عادل الموساوي بعنوان "تأثير مراكز الأبحاث الأمريكية في توجهات وسلوك السياسة الخارجية"، وبين فيه أن لهذه المراكز تأثيرا على سلوك السياسة الخارجية لكنه سلوك مضطرب يتقلب بين الرؤى المتعارضة، حيث تأرجحت السياسة الخارجية بين تأييد الديمقراطية لتجنب انفجار الشعوب ضد السلطات الفاسدة والمهترئة، والتراجع عن دعم الديمقراطية خوفا من صعود قوى ثورية وإسلامية معارضة لأمريكا، ولذلك اتسمت سياسة أمريكا بصفة النصف خطوة! وذلك أن الواقع يفرض غالباً على الساسة قرارات معاكسة لكثير من التوصيات.
في الختام: من المهم فهم تباين الرؤى الغربية والأمريكية تجاه الإسلاميين واستثمار ذلك، كما أن من المهم فهم خلفيات كثير من السياسات التي تطبق في واقعنا، سواء لصالح القوى الغربية أو المحلية في لعبة تعديل موازين القوى على الأرض، والتعامل مع ذلك بذكاء وفطنة لما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين وبلادهم.