تنطلق رؤية الإنسان في منظور الوحي الرباني من أن جنس الإنسان خلق من خلق الله عز وجل، لكنه جنس مكرم، بل منزلته تأتي في قمة الكائنات، قال تعالى: "ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلاً" (الإسراء: 70)، وقال تعالى: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" (التين: 4)، ومن مظاهر التكريم لجنس الإنسان أن الله عز وجل خلق أباهم آدم، عليه السلام، مباشرة بيده، وليس كما تزعم خرافة داروين بالنشوء والارتقاء والتطور، وأمر الله عز وجل الملائكة وإبليس بالسجود لآدم أبي البشر تكريماً له "قال يا إبليس ما منعك أن تسجدَ لما خلقتُ بيديّ" (ص: 75)، ومن هنا أصبحت العلاقة بين الإنسان والشيطان وذريته علاقة عداوة إلى يوم القيامة "إن الشيطان لكم عدو فاتّخذوه عدوا" (فاطر: 6)، وبهذا يتبين لنا عظم فداحة جريمة عبادة الشيطان من بعض أبنائنا بسبب جهلهم بدينهم والوحي الرباني الخاتم، وبسبب إهمال أسرهم ومؤسسات المجتمع الرسمية والأهلية، وبسبب تكرر الأنشطة الخبيثة كـ (# قلق) الموصلة لعبادة الشيطان صراحة، أو ضمنيا بعصيان الرحمن وطاعة الشيطان الذي تعهد "ولأُضلّنّهم ولأُمنينّهم ولآمُرنّهم فليُبتكنّ آذان الأنعام ولآمرنهم فلَيغيرن خلق الله" (النساء: 119).
ومن تكريم الخالق لجنس الإنسان أن سخر له الكون بأجمعه "وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه" (الجاثية: 13)، ومن هذا التسخير توافق خلق الإنسان والكون معاً، ومن أمثلة ذلك تبادل الأدوار بين الإنسان والأشجار في استخدام الهواء حيث يستخلص الإنسان الأوكسجين ويطرد ثاني أوكسيد الكربون بينما الأشجار تقوم بالعكس "ذلك تقدير العزيز العليم" (يس: 38).
وهذه الرؤية الربانية لتكريم الإنسان تتناقض كلياً مع الرؤى العلمانية التي تعتبره حيواناً! أو الرؤى الدينية المحرفة التي تعتبر الإنسان جنسا مدنسا!
ومن هنا فإن علاقة الإنسان بالله عز وجل هي علاقة عبودية وطاعة تقوم على الحب لله عز وجل الذي أنعم وتفضل بخلق الإنسان أولاً، ثم جعله في أحسن تقويم، ومَن تأمل خلق الإنسان وما فيه من دقة وإحكام لا تقارن معها كل مبتكرات العلوم العصرية، ويكفي أن نقارن بين عمل الكلْية في جسد الإنسان بكل يسر وعفوية وبين مشاق عمليات غسيل الكلى للمرضى شفاهم الله عز وجل.
والرؤية الإسلامية لجنس الإنسان تقوم على التساوي بين أفراده إلا بالتقوى والعمل الصالح، فلا تمييز بين الناس بالعرق أو اللون أو اللسان أو الغنى أو الصحة، قل جلّ في علاه: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات: 13)، ومن هنا فإن الإنسان له احترامه وتقديره مهما كان دينه، ولذلك حين مرّت جنازة لشخص يهودي قام النبي صلى الله عليه وسلم من مجلسه حتى توارت، ولما استغرب ذلك بعض الصحابة قال لهم عليه الصلاة والسلام: "أليست نفساً؟!" رواه مسلم، وعليه فلا يجوز الاعتداء على أي إنسان وظلمه مهما كان دينه دون أن يرتكب جريمة يستحق العقوبة عليها، وهذا اقتداء بالمنهج الرباني العادل مع كافة البشر في الدنيا والآخرة "ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تُظلم نفس شيئاً" (الأنبياء: 47)، وهذا يبين لنا انحراف المتطرفين والغلاة كداعش عن منهج الوحي الرباني باعتدائهم على المؤمِن وغير المؤمن بدون وجه حق.
ويؤكد الوحي الرباني أن جنس الإنسان قد منحه الله عز وجل القدرة على الإدراك وتعلّم ما يحتاجه "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة" (النحل: 78)، وأن الله عز وجل هو الذي منح الإنسان نعمة القدرة على البيان "الرحمن* علّم القرآن* خلق الإنسان* علّمه البيان" (الرحمن: 1- 4)، وبهذه الخصائص استحق جنس الإنسان تولي مهمة خلافة وعمارة الأرض "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" (هود: 61).
وقد بيّن لنا الوحي الرباني مكونات خلق الإنسان وأنه مزيج من المادة (الماء والتراب) والروح فقال جل جلاله: "الذي أحسن كل شيء خلَقه وبدأ خلق الإنسان من طين* ثم جعل نسله من سلالة من ماءٍ مهين* ثم سواه ونفخ فيه من روحه" (السجدة:7-9)، وعليه فإن الإنسان إذا بقي أسيراً لحاجات المادة والجسد فإنه ينتكس من عليائه "ثم رددناه أسفل سافلين" (التين: 5)، وهذا حال مَن تنكب عن طريق عبادة الرحمن فعبد الشيطان أو الأحجار أو الحيوان والقاذورات، ولعل بعضهم يكون من حملة جوائز نوبل في العلوم "إن هُم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً" (الفرقان: 44) وذلك أن الحيوان يقوم بمهمته في الحياة ولا ينكر خالقه، كما أن الجري وراء حاجات المادة فقط يورد صاحبه الفواحش والمنكرات وإدمان الخمور والمخدرات، ويورّطه في جرائم أخرى كالسرقة والاغتصاب والقتل والخيانة و...
ويقابل هؤلاء مَن أهملوا حاجة الجسد وغلوا في شأن الروح بخلاف منهج الوحي الرباني تحت شعارات الرياضات الروحية والتصوف والرهبنة، فنتج عن ذلك قبائح كثيرة منها قلة النظافة ودخول عوالم الجنون وإهمال الواجبات الدينية، بينما منهج الوحي الرباني الموازنة بين حاجات الروح والجسد، وقد بيّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلى وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" متفق عليه.
ومن هنا فإن الإنسان في منظور الوحي الرباني يمتلك القدرة والإرادة لفعل الخير والشر، وعلى أفعاله واختياره يحاسَب "إنّا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا" (الإنسان: 3)، وأن باب التوبة والمغفرة والرجوع لله عز وجل وتقواه مفتوح للجميع دون واسطة أحد من بشر أو غيره، قال تعالى: "فمَن تاب مِن بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم" (المائدة: 39).
هذه الخطوط العريضة لمنظور الوحي الرباني للإنسان، وهو المنظور الوسط العادل الذي لا يؤلّه الإنسان كما تفعل الحضارة الغربية، تحت نظريات كثيرة منها نظرية السوبرمان لنيتشه، أو نقيضها من النظريات كنظرية وفلسفة العدمية التي لا ترى في الوجود كله ووجود الإنسان هدفا وقيمة ومعنى! فالحمد لله على نعمة الإسلام وهداية الوحي الرباني.
الإنسان في منظور الوحي الرباني
2018/10/01
الرابط المختصر
Image