في خضم الأحداث المتلاطمة -محليا وإقليميا وعالميا- والتي شملت أغلب جوانب الحياة يتلفت المسلم من حوله ماذا يجابه وماذا يتوقى؟ هل ينشغل بحروب الإبادة التي تصب على رأسه في عدة بقاع من الأرض كالصين وبورما لكونه مسلما أو كما في العراق وسوريا لكونه سنيا؟
أم ينشغل بالمحاولات الدائبة والمتكررة لاجتثاث حكم الشريعة الإسلامية أو ما تبقى منها في دساتير وقوانين الدول المسلمة كما في السودان مؤخرا ومن قبله في تونس ومصر وغيرها؟
أم نستغرق في صد المؤامرات الخارجية والداخلية لتحريف الإسلام وتبديله بعد عجزهم عن إزالته وإبعاده كما صرح الماكرون الفرنسي أو التصريحات المؤيدة له من بعض العمائم وكثير من أصحاب ربطات العنق من أبناء المسلمين!
أم نسمح لهم لجرّنا لمربع الانشغال التام بالحروب الأهلية الداخلية، سواء على صعيد المنازعات السياسية بين محاور الأنظمة العربية والإسلامية، أو على صعيد مناكفة المناهج البدعية الضالة سواء جماعات الغلو والإرهاب أو الطرق الصوفية الخرافية أو تيار التبديع والتجريح العميل.
أم نستسلم لدوامة الفساد المتعاظمة في بلادنا والتي تبدأ من البلطجة في الشوارع ولا تنتهي عند حد القرارات الرسمية الغبية كإيقاف صلاة الجمعة لعدة شهور بحجة كورونا!
أم نموت من القهر والكمد بسبب استفحال الفواحش والمنكرات بين شبابنا وبناتنا تقليدا للكفار عبر الشاشات بعد أن أضعفوا أو قتلوا جهاز المناعة لدى الأجيال عبر تضليل الإعلام وتحريف المناهج التعليمية ومحاصرة الدعوة الإسلامية.
لا مخرج للمسلم والمسلمة من هذه الدوامات والصراعات والفتن المفروضة علينا إلا باعتماد البوصلة القرآنية "فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم" (محمد: ١٩).
فالعلم هو الأساس في الحياة وفي الوحي الرباني ولذلك كانت البداية "اقرأ"، فالعلم هو ركن النهضة والتقدم والنجاح في كل جوانب الحياة "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" (الزمر: ٩)، ولو تلفت المرء من حوله سيجد أن أهل العلم في أي مجال هم الرواد والمقدمون فيه، ولأن هذه سنة ربانية في الكون من تفضيل المتعلم على الجاهل جاءت الشريعة الغراء بتحليل أكل ما صاده الكلب المعلّم وتحريم صيد الكلب غير المعلم.
فالعلم هو الأساس في البوصلة القرآنية، لكن يبقى الركن الثاني وهو: ما هو العلم المطلوب والمقصود لذاته؟ فيكون الجواب واضحا "فاعلم أنه لا إله إلا الله"، التوحيد هو العلم والحقيقة الكبرى التي جاءت بها كل الرسل والأنبياء عبر تاريخ البشرية كلها "ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت" (النحل: ٣٦).
والعلم بتوحيد الله عز وجل ومقتضياته ولوازمه هو العلم الحقيقي الذي نبه القرآن الكريم على ضرورة اتباعه وتجنب مسلك أهل الكفر والضلال والخسار فوصف علمهم بأنهم "يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون" (الروم: ٧).
فمن تعلّم أن الله عز وجل هو الإله الحق في الكون عرف أن هذا الوجود كله -المحسوس منه وغير المحسوس لنا- هو من خلقه، وهو مالكه والمتصرف فيه، وعرف أن الله عز وجل متصف بكل صفات الكمال والجلال والعلم والحكمة والقوة والعظمة، ومن تحصل هذا العلم والمعرفة يعرف أيضا أن الله عز وجل قد تعهد لأوليائه بالنصر والتمكين والفوز والسعادة والجنة إذا قاموا بواجبهم من الطاعة والمجاهدة والثبات، وأن منهم من يفوز بالنصر والظفر في الدنيا والآخرة، وأن منهم من يفوز بالصبر أو الشهادة في الدنيا والنعيم في الآخرة.
ومن علم أنه لا إله إلا الله عز وجل فإنه لا تؤثر فيه المحن والابتلاءات إلا مزيدا من الثبات واليقين بصدق دين الله، فحين يرى الإبادة تحصد المؤمنين يستحضر قوله تعالى: "وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد" (البروج: ٨)، ولن تجدي معهم كل محاولات تغييب الإسلام عن حياتهم أو تبديل هويتهم مهما تلاعبوا بالدساتير والقوانين وها هي الشعوب المسلمة في جمهوريات آسيا وتركيا والبوسنة وغيرها غيبوا الإسلام عن دساتيرها قسرا فماذا كانت العاقبة؟
ولن تجدي كل محاولات تحريف الإسلام الخارجية والداخلية مهما زينوها بشعارات التنوير والتطوير والتحديث والتقدم مع المؤمنين بصحة الوحي الرباني في القرآن والسنة.
ومن عرف حقيقة التوحيد وأنه إفراد الله عز وجل بالحب والطاعة والعبادة لن تصرفه ملذات الدنيا وشهواتها، ولن تحرف الصراعات السياسية بين الأنظمة مساره عن عقيدة الولاء لكل مسلم والبراء من كل كافر، ومن علم أنه لا إله إلا الله حق المعرفة لن تخدعه المناهج البدعية مهما تجملت بمجاهدة الأعداء أو تشدقت بنصرة السنة أو ادّعت تزكية الأنفس.
ومن عرف التوحيد الحق عرف طريق إصلاح الفساد بالنصيحة والموعظة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة.
الخلاصة؛ من اتبع البوصلة القرآنية بالعلم الصحيح والصادق للتوحيد فإن قلبه يطمئن أولا، لأنه يدرك أنه يأوي إلى القوة الحقيقية في الوجود، ولأنه يعرف أن الله عز وجل وضع سننا في الكون على المؤمن الالتزام بها في وجه الابتلاءات، منها الأخذ بالأسباب الدنيوية، ومنها بذل الوسع والطاقة ثم التوكل على الله عز وجل، وأن الخسارة في معركة هي لتقصير منا ولكنها ليست الخاتمة والنهاية بل النصر في الختام لأهل الحق في الدنيا، ولذلك أبيد كل الظلمة والطغاة عبر التاريخ.
والعِلم بالتوحيد يدفع المؤمن للإقدام في سبيل نشر الخير والدفاع عن الحق ونصرة المظلوم دون انتظار الجزاء إلا من الله عز وجل، ولذلك أقام أهل الإيمان دولة الحق والخير والعدل دوما عبر التاريخ.
فالبشرية حين تتبع البوصلة القرآنية وهي: العلم بالتوحيد، يتحقق لها الاستقامة والهداية، وتعبر على الصراط المستقيم للجنة والفوز العظيم في ا لدنيا والآخرة.