التيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير القرآن الكريم عرض ونقد

الرابط المختصر
Image
التيار العلماني الحديث وموقفه من تفسير القرآن الكريم عرض ونقد

هذا هو عنوان أطروحة الماجستير للباحثة منى الشافعي، والتي قدمت في جامعة الأزهر، وصدرت عن دار اليسر بالقاهرة سنة 1429هـ، في 700 صفحة، وتتكون من تمهيد وأربعة أبواب، تناولت التعريف بالتيار العلماني المعاصر، وشبهات العلمانيين حول القرآن الكريم وتفسيره، ومواقف العلمانيين من مناهج علم التفسير، وتهافت أقوال العلمانيين في التفسير، ويصعب في هذه المقالة الإحاطة بكل جوانب الكتاب لكبر حجمه، ولذلك سأقتصر على بعض الجوانب التي طرقتها الباحثة فيه.
يعالج الكتاب قضية في غاية الخطورة وهي الحرب العلمانية ضد الإسلام والمتمثلة في حرب القرآن الكريم وتفسيره، وذلك بعد فشل الحرب العسكرية على استئصال الإسلام من نفوس المسلمين، فبرغم هزيمة المسلمين عسكرياً إلا أنهم لم يُهزموا على الصعيد الديني والعقدي، فلا يزال الإسلام راسخاً في قلوب وعقول المسلمين، بل لا يزال الإسلام والقرآن وبرغم الهزيمة المادية ينتصران في معركة العقائد والأديان، وهو من أوسع الأديان انتشاراً ونموا واستقطاباً لغير المسلمين من مختلف الأديان والجنسيات والثقافات.
ومن هنا جاءت فكرة ترك معاداة الإسلام والقرآن والهجوم المباشر عليه، إلى استخدام سياسة الحرب غير المباشرة من خلال التصدي لدراسته وتفسيره وشرحه، بدلاً من علماء التفسير وأهل الشريعة والدين، باسم التجديد!!
وقد ارتكز المشروع العلماني في محاربة القرآن باسم التجديد على أسس ثلاثة، وهي:
1- نزع القداسة عن النص القرآني عن طريق الدعوة إلى النقد الحر
يقول نصر حامد أبو زيد: "إن النص القرآني وإن كان نصاً مقدساً إلا أنه لا يخرج عن كونه نصاً، فلذلك يجب أن يخضع لقواعد النقد الأدبي كغيره من النصوص" (مفهوم النص، ص 24)، وهذه جرأة وقحة على القرآن الكريم بمساواته بنصوص البشر، وتعمد إسقاط مصدره الإلهي، ومعاملته معاملة النصوص البشرية.
وإذا كانت بعض النصوص البشرية كنصوص العلوم التطبيقية أو القانونية والدستورية لا يجوز ولا يصلح أن تعامل معاملة النصوص الأدبية، فكيف يجوز لمسلم أن يطبق قواعد النقد الأدبي على كلام رب البشر!!
2- هدم مبدأ المرجعية لنصوص القرآن الكريم
زعم العلمانيون أن هدفهم من دراسة القرآن الكريم هو تجديد مفاهيمه للناس وتقديم نوره للبشرية، باسم التجديد والاجتهاد، لكن سرعان ما انكشفت الحقيقة وأن مقصودهم الحقيقي هو طمس القرآن والصد عنه، يقول نصر أبو زيد: "إن حل مشكلات الواقع إذا ظل معتمداً على مرجعية النصوص الإسلامية يؤدي إلى تعقيد المشاكل" (النص، السلطة، الحقيقة، ص 144)، وهذه كذبة كبيرة، فها هو الغرب وها هي دولنا العلمانية لا تعالج الواقع بالنصوص الإسلامية فهل حلت مشكلاتها؟ أم أن غياب حلول النصوص الإسلامية هو سبب استفحال المشاكل؟
هل النصوص الإسلامية (القرآن الكريم والسنة الصحيحة) تعقد مشاكل الفقر والأخلاق والاقتصاد، أم تحل مشاكل الحرمان والمجاعة بالزكاة والصدقة والتكاتف، ومشاكل الإدمان بالإيمان والتقوى، ومشاكل الاقتصاد بتحريم الربا وتشريع التجارة والحث على القرض الحسن، وهكذا.
3- إبطال مرجعية كتب التفسير التراثية وإضعاف الثقة بها
دأب العلمانيون على مهاجمة التراث وتفاسير العلماء، حتى يتمكنوا من بث سمومهم مكانها، ها هو محمد شحرور يقول: "ماذا قدم السادة العلماء للناس؟" (الكتاب والقرآن، 194)، وهذا فيه إهدار للجهود العظيمة التي قدمها العلماء في تفسير القرآن الكريم وشرحه، والتي على هداية القرآن الكريم قامت حضارة الإسلام العظيمة، والتي لا تزال لليوم تشع أنوارها على العالم من خلال ارتكاز العلوم العصرية على أصولها ومكتشفاتها ومخترعاتها ومعارفها، وهي حقيقة يسلم بها كل منصف دارس لتاريخ العلوم.
ومن الشبهات التي يطرحها العلمانيون المعاصرون زعمهم أن القرآن الكريم هو من صياغة الواقع وانعكاسه، وليس هو كلام الله عز وجل! وذلك لتحطيم مرجعية القرآن الكريم في قلوب وعقول المؤمنين.
يقول نصر أبو زيد: "الواقع إذن هو الأصل ولا سبيل لإهداره، ومن الواقع تكوّن النص، ومن لغته وثقافته صيغت مفاهيمه، ومن خلال حركته بفاعلية البشر تتجدد دلالاته، فالواقع أولاً، والواقع ثانياً، والواقع أخيراً" (نقد الخطاب الديني، ص 99)، وهذه شبهة من أصول ماركسية وهي تناقض بدهيات العقول والواقع نفسه، فإذا كان القرآن انعكاسا للواقع وليس كلام الله عز وجل، فلماذا عجز فصحاء الجاهلية عن الإتيان بمثله وهم من نفس الواقع، بل وهم الشعراء والبلغاء؟ وكيف يكون القرآن الكريم انعكاسا للواقع الجاهلي بعلومه ومعارفه البسيطة، ثم نجد في القرآن الكريم إشارات لعلوم ومعارف لم تكتشف إلا مؤخراً؟
ثم لماذا لا نجد في القرآن الكريم انعكاس الواقع الجاهلي بوثنيته وجاهليته وفحشه أو نجد عقائد اليهود والنصارى التي كانت معلومة عند قريش، بل نجده مناقضاً لها متعالياً عليها؟
ثم لماذا نجد أن القرآن الكريم -لو كان انعكاسا للواقع- يتأخر عند حدوث بعض الوقائع، فمثلاً في حادثة الإفك التي اتهمت فيها الصديقة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، يتأخر القرآن أربعين ليلة؟ ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم من قبل اليهود عن الروح، تأخر الوحي بالجواب، ولم يكن انعكاسا فوريا للواقع!
وأخيراً لو كان القرآن الكريم من صياغة الواقع وانعكاسه، فكيف قام بتغيير هذا الواقع الجاهلي والواقع العالمي في سنوات محدودة بدلاً من تكريسه وتجذيره؟؟
إن هذه الشبهات المنمقة التي تخلب ألباب المراهقين فكرياً، لا قيمة لها في ميزان الحق والعلم والواقع السليم، وتكشف عن حقيقة غاية العلمانية بمحاربة القرآن الكريم بطريقة غير مباشرة.    
ومن خبائث العلمانيين في الدس على القرآن الكريم نفي صبغة الألوهية عن القرآن الكريم بزعمهم أن القرآن الكريم (الوحي الإلهي) حين يُفسر يصبح نصاً بشرياً!
يقول د. فؤاد زكريا: "ففي عصر الرسول صلى الله عليه وسلم فقط كان التشريع إلهياً وكان التفسير والتطبيق بدوره إلهياً، لأن المكلف بالتفسير والتطبيق كان مبعوثاً من عند الله، أما في جميع العصور اللاحقة فقد دخل البشر بكل ما يتصفون به من ضعف وهوى ولم يعد النص الإلهي يتحول إلى دافع لا يتحقق إلا من خلالهم" (الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية، ص 147)، ثم طورها للأسوأ حامد أبو زيد فأدخل قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للوحي في طور تحول القرآن من إلهي إلى بشري! (نقد الخطاب الديني، 93).
وهذا القول نوع من الجنون، فهل لو قرأ شخص قصيدة لشاعر آخر أو شرحها أو نقدها تصبح قصيدته وتنتفي علاقة الشاعر بها!!
وهذا القول يصادم صريح القرآن الكريم الذي وصف كلام النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "وما ينطق عن الهوى" (النجم: 3)، وقوله تعالى: "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه" (التوبة: 6)، الله عز وجل يقول "كلام الله"، وأبو زيد يقول كلام محمد؟! فمن نتبع؟
والغاية من وراء هذا نزع قدسية ومرجعية القرآن الكريم من حياة المسلمين، وجعله كأي كلام بشري عرضة للخطأ والصواب وتنحيته لمرجعية علمانية بشرية وضعية تجلب الدمار والكوارث للبشر.
ومن أمثلة عبث العلمانيين بالتفسير، نقلت الباحثة عن محمد أركون قوله: "كل الدلالات تتطور حتى لفظة الله" (أقطاب العلمانية، ص79)، ويشرح ذلك في موضع آخر بقوله: "على عكس ما تنطق المسلمة التقليدية التي تفترض وجود إله حي متعالٍ ثابت لا يتغير، فإن مفهوم الله لا ينجو من ضغط التاريخية وتأثيرها، أقصد أنه خاضع للتحول والتغير بتغير العصور والأزمان" (مفهوم النص، ص 20)، وهذا إنكار صريح لحقيقة الله عز وجل، فكيف يتصدى أركون لتفسير القرآن الكريم وهو ينكر حقيقة وجود الله عز وجل، حتى نعرف أن القضية هي إبطال للإسلام والقرآن لكن بطريق غير مباشر.  
وختمت الباحثة أطروحتها بتعرية المناهج العلمانية التي تدّعي تجديد التفسير، وأنها في الحقيقة شعارات لا تطبق منهم أنفسهم فضلاً عن عدم موضوعيتها وعلميتها، فمحمد شحرور مثلاً الذي أثار ضجة بطروحاته العجيبة في القرآن الكريم والتفسير، أفرد في كتابه "الكتاب والقرآن" فصلا بعنوان "قانون التأويل" زعم فيه أنه يتقيد بستة ضوابط في تفسير القرآن، وجعل أولها: "التقيد باللسان العربي" (ص 206)، ومعلوم لكل من طالع كتابه أنه نسف قواعد اللغة العربية نسفاً، مما يكشف عن جهل بالغ باللغة العربية، وعبر عن فداحة هذا الجهل بالعربية الدكتور يوسف الصيداوي الذي رد على شحرور بكتاب لطيف عنونه باسم "بيضة الديك" لأنه لم يجد في كتاب شحرور صوابا لغويا واحد، إلا قول شحرور: الكتاب من كتب!!
وبسبب هذه المناهج المخترعة بلا علم ولاعدل وقع العلمانيون في تناقضات مضحكة، فها هو المستشار العشماوي يخالف علماء المسلمين كافة في قاعدة: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، فيقلبها إلى العكس تماماً حيث يعتبر العبرة بخصوص السبب وليس عموم اللفظ، وذلك حتى يجعل الواقع/ السبب يتحكم في القرآن، وينفي عموم أحكامه للبشرية عبر الزمان والمكان، ولكنه لا يقدر على التقيد بقاعدته الباطلة لأنها تفسد عليه مأربه، فنجده في كتابه "معالم الإسلام" (ص 56) يخالف قاعدته ويأخذ بعموم النهي لأهل الكتاب عن الغلو في الدين ويطالب بها المسلمين! وبعد ثلاث صفحات فقط يعود ليتمسك بقاعدته الباطلة في عدم عموم النهي لأهل الكتاب عن الحكم بغير ما أنزل الله عز وجل!! 
وفي النهاية هذه نصيحة لشبابنا ومثقفينا الذين قد تغرهم المصطلحات البراقة والأساليب الحداثية والعزو لأسماء غربية رنانة، أن يطالعوا هذه الدراسة وأمثالها ليعرفوا حقيقة مقصد العلمانيين من الاشتغال بالقرآن الكريم والتفسير، وكم هو حجم الدجل والتزوير الذي يمارسونه علمياً ومنهجياً، عن سابق قصد وتصور.
وكما قال الله تعالى: "يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره ولو كَره الكافرون" (التوبة: 32).