الحج مرآة لواقع الأمة

الرابط المختصر
Image
الحج مرآة لواقع الأمة

الحج ركن من أركان الإسلام الخمسة، وقلوب المسلمين تتعلق به لكونه مفروضاً مرة في العمر وأيضاً بسبب أنه لا يمكن القيام به إلا في فترة قصيرة من العام. والحج يمكن أن نعتبره نموذجا مصغرا عن حال الأمة أو "حالة دراسية"؛ ذلك أن الحج يشارك فيه مندوبون عن كافة أجناس وقوميات وعرقيات المسلمين، وأيضاً هو لكلا الجنسين تجد فيه كافة شرائح المسلمين من الناحية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. كما أن الحج ليس محصورا على مذهب فقهي محدد أو منهج عقدي معين أو حركة إسلامية دون أخرى. هؤلاء الحجاج جميعاً، على اختلافهم وتنوعهم، يمارسون نفس الشعائر في نفس المكان وفي نفس المدة، وبذلك تكون هذه "العينة" مثالية في عرف الدراسات الاجتماعية. لا يتسع المجال للحديث عن العديد من الظواهر التي يمكن قراءتها من واقع الحج ولذلك نركز على أهم هذه الظواهر وهي: أولا؛ تشير الإحصاءات إلى تزايد عدد الحجاج بشكل مذهل خلال الستين عاماً الماضية، ففي تقرير لصحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 25/2/2002 ذكرت أنه "في عام 1950 كانت أعداد الحجاج لم تتجاوز المائة ألف حاج ثم تضاعف هذا العدد عام 1955. وبعد ذلك ظلت الأعداد ولمدة عشر سنوات تتراوح بين الزيادة والنقصان ثم أخذت في الارتفاع، حيث بلغت عام 1970 أكثر من 400 ألف حاج واستمرت الزيادة في التصاعد حتى وصل العدد عام 1973 إلى 645 ألف حاج. وفي عام 1975 قفز العدد دفعة واحدة إلى 918 ألف حاج، أي زيادة بنسبة مئوية قدرها 51 في المائة. وفي موسم حج عام 1983 قفز عدد الحجاج القادمين من الخارج لأول مرة حاجز المليون". هذه الزيادة في عدد الحجاج هي انعكاس واضح ومباشر لواقع المد الإسلامي في العالم الإسلامي، فتضاعف عدد الحجاج بين عامي 1950– 1955 يدل على البدايات لتحقيق نتائج الصحوة الإسلامية وبداية انحسار لموجة الإلحاد والشيوعية التي سادت في تلك الفترة، كما أن الزيادة الواضحة في أعداد الحجاج بعد سنة 1973م مؤشر متوافق مع مجريات تلك الفترة. فقد شهدت تلك الفترة إفراج السادات عن سجناء الإخوان المسلمين من سجون جمال عبد الناصر وبداية عودتهم للشارع المصري وبداية نشوء الجماعة الإسلامية في الجامعات المصرية، وإعلان السادات بداية "دولة العلم والإيمان" ومن ثم الانتصار في معركة العاشر من رمضان التي كانت كلمة السر فيها "بدر" وشعارها "الله اكبر"، ومن ثم تم تثبيت عدد الحجاج من خارج السعودية بما يقارب 1.2 مليون حاج سنوياً - بسبب ضخامة الأعداد الراغبة بالحج سنوياً بما يفوق الإمكانيات- فهذه الزيادة في عدد الحجاج مؤشر مهم على توسع انتشار التدين لدى المسلمين في كافة أنحاء العالم، ويؤكد هذا أيضاً الأعداد المتزايدة سنوياً للمعتمرين بحيث أصبح عدد المصلين في ليلة 27 رمضان يفوق عدد الحجاج من عدة سنوات. ثانياً؛ في الحج تلحظ أن حالة التدين والالتزام الإسلامي شاملة ولا ترتبط بجيل أو سن أو جنس أو جنسية أو لغة أو قومية، كما أن هذه الحالة لا تقتصر على تيار إسلامي دون سواه. وتلمس في هذا الإقبال على التدين انتشار الوعي الديني الصحيح وانحسار الجهل والبدع والخرافات بين الكثير من الحجاج وخاصة المتعلمين منهم، وشيوع روح الوسيطة والتمسك بالقرآن والسنة بعيداً عن التعصب المذهبي المتحجر أو التنطع والغلو والتطرف. وتلمس بوضوح الحرص من كثير من الحجاج على تفهم مقاصد الحج ودروسه والعمل على تغيير كثير من السلوكيات السلبية واكتساب مجموعة جديدة من الآداب الإسلامية. وينتشر الإدراك والوعي تام بشمولية التدين وأنه ليس مقصوراً على الشعائر الظاهرة للإسلام فلذلك تجدهم من المبدعين في أعمالهم الدنيوية، كما أن جزءا كبيراً منهم يساهم بشكل قوي في تنمية مجتمعه عبر مشاركته في المؤسسات الخيرية والدعوية والثقافية المختلفة. حتى الحجاج الذين قد لا يكونون من المحافظين على الشعائر الإسلامية كالصلاة أو الحجاب تجد أنهم حريصون على توسيع مفهوم التدين ليشمل حسن المعاملة والتعامل مع الآخرين أو البيئة أو المجتمع، وهذا حق لا شك فيه لكن حسن التعامل مع الخالق لا يجوز التقصير فيه بحال من الأحوال! ثالثاً؛ في الحج أيضاً ترى الجانب الآخر من واقع المسلمين فتلحظ أثر البيئة والواقع المعيشي والصعب الذي ما تزال تعيشه قطاعات كبيرة من المسلمين في العالم، فالأمية التي تصل نسبتها ما يزيد على 50 % في العالم الإسلامي أو الفقر الذي يعيشه أكثر من ثلثي المسلمين، تراه بكل وضوح في سلوكيات بعض الحجاج بل هي انعكاس لواقعهم الذي يعيشونه. فالمبيت فوق وحول حاويات القمامة، وقلة النظافة الشخصية وبالمكان المحيط، وعدم تعلم الأحكام الشرعية الصحيحة للمناسك، كما أنك تقف محتاراً من سلوك بعض الشعوب في أداء المناسك وكأنهم داخلون لساحة معركة لا يتورعون عن أذية من يقابلهم! ولعلاج هذه السلوكيات نحتاج علاج جذورها من الجهل والأمية، وانتشار الخرافة والبدعة والخزعبلات بينهم باسم الدين، وتوسيع مفهوم الدين والتدين لديهم ليشمل حسن التعامل مع الخالق والمخلوق، وإعانتهم لتجاوز حالة الفقر والعوز التي تجعل الإنسان يتهاون في شروط ومواصفات معيشته. كان الحج وسيبقى مصدر قوة ومعرفة للمسلمين، ويمكن من خلاله رصد وتقويم ما يحتاجونه من جهود لتحقيق مقصد الدين بتحقيق السعادة في الدنيا والفلاح بالآخرة، وبذلك تكتمل لهم "المنافع".