جوهر العبادة لله عز وجل يقوم على قاعدتين عظيمتين تتجليان في الحج بشكل واضح وكبير: 1- أن لا يعبد إلا الله عز وجل. 2- أنه لا يعبد سبحانه إلا بما شرع. فلذلك لا يجوز عبادة الأنبياء والأولياء والصالحين فضلاً عن الأشجار والحجار والقبور والحيوانات والجمادات وغيرهم، ولا تصح العبادة لله عز وجل إلا بما شرع لنا الله عزوجل بالوحي الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فلا تصح العبادة بشيء من الأهواء والأراء، بل لابد من دليل على مشروعية العبادة من القرآن الكريم أو السنة النبوية الصحيحة. وهاتان القاعدتان العظيمتان تتجليان في الحج من خلال ملايين الحجاج الذين تركوا ديارهم وأهليهم جاءوا لمكة وهي أرض لا زرع فيها ولا طقسها طقس لطيف إنما فعلوا ذلك إمتثالاً لأمر الله عز وجل! ومن ثم تجرد الرجال من ثيابهم الأنيقة والمتنوعة على اختلاف مراتبهم وأحوالهم ليكونوا في لباس أبيض بسيط ليس فيه خياطة بما يذكرهم بفقرهم وحاجتهم ومساواتهم جميعاً، إنما فعلوا ذلك طاعة لأمر الله سبحانه وتعالى. وبعد ذلك تركوا حتى مكة وذهبوا إلى الصحراء في منى وعرفات ومزدلفة، في تجمع كبير يذكرهم بيوم الحشر، ليس لهم من عمل سوى ذكر الله بالتلبية والتكبير والتهليل والتحميد، وسؤاله سبحانه المغفرة والقبول وتيسير الأمور. وبعدها يأتي رمي الجمار في اتباع لهدي أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام حين رفض إغواء الشيطان بعدم ذبح ابنه إسماعيل عليه السلام فتنقل بين مواضع الجمرات الثلاث، وهذا الرمي للجمار بسبع حصيات وليس بستة أو ثمانية هو نموذج التسليم المطلق لأمر الله عز وجل. ويأتي بعد ذلك حلق شعر الرأس بالتخلي عن الزينة الشخصية طلباً لمرضاة الله وخضوعاً لأمره سبحانه وتعالى. وعندها تراق دماء الأضاحى تقرباً لله عز وجل وشكراً له على فداء إسماعيل عليه السلام. وبعدها يذهب الحجاج للطواف حول الكعبة، في تسليم لأمر الله بالطواف حول بيت مبنى من الحجارة مع رفضنا لعبادة الحجارة!! إن الحج ملئ بصور التسليم لأمر الله عزوجل ومن تلك الصور أيضاً أن الحجاج في منى مع تفرغهم للعبادة فإنهم يقصرون الصلاة ولا يجمعونها، وهم في منى أكثر تفرغاً للصلاة منهم في بلادهم ومع ذلك أمروا هناك باتمام الصلاة وهنا أمروا بقصرها، فامتثلوا للأمرين !! ومن صور التسليم أيضاً مبيتهم في منى دون شغل أو عمل محدد سوى المبيت فعبادتهم هي عبادة الانتظار والبقاء، لتكون فرصة للتأمل والمراجعة والمحاسبة، وفرصة للتعرف على المسلمين من حوله من أهل بلده أو غيرهم. ومن مظاهر التسليم لأمر الله عزوجل في الحجيج ما تجده في اللباس الوطني التقليدي للمسلمين والمسلمات، من مراعاة الضوابط الشرعية التي تتحدد في السعة وعدم الضيق والشفافية، فحين تتأمل لباس الحجاج قبل إحرامهم أو بعده، تجد أن لباس المسلمين على تنوع بلدانهم وعرقياتهم وقومياتهم، هو لباس موحد في تنوع عملي بسبب بيئتهم، فلباس الرجال عند أهل الجزيرة والعراق ومصر والشام والسودان وما حولها من دول أفريقيا يكاد يكون لباس موحد مع تنوع بسيط في شكل القبة أو سعة الاكمام أو سعة الثوب نفسه فضلاً عن الألوان والأسماء بين ثوب ودشداشة وجلابية أو دِماية. أما بلاد أسيا الإسلامية فتكاد تتوحد في أنه مكون من قطعتين قميص طويل وسروال، لكن تتنوع طريقة خياطته أو ألوانه أو سماكته بحسب طقس بلدانهم. وكذلك هو الحال في لباس المسلمات، فتجد أن لباس نساء الجزيرة والعراق والشام ومصر يكاد يكون موحد مع اختلاف طفيف، وكذلك الحال هو عند المسلمات في دول قارة أفريقيا يكاد يكون متطابق سوى اختلاف الألوان والزخارف، وهو ما يتكرر عن مسلمات قارة آسيا اللاتى يتفق في طريقة اللباس ويتنوعن في الألوان. وهذا كله تسليم لأمر الله عز وجل بالستر في اللباس للرجال والنساء، فامتثل الجميع لأمر الله عز وجل بتكييف لباسهم مع ضوابط الشريعة الإلهية. وهذا ما يبرز التنوع في وحدة التسليم لأمر الله عز وجل، وهو ميزة الشريعة الإسلامية في صلاحيتها وشمولها وإصلاحها لكل احوال البشر والأزمان والأمكنة. إن من أهم العبر والعظات التي يخرج بها الحاج هي تعظيم أمر الله عزوجل والتسليم له دون نقاش، وهذا جوهر الإيمان وهو أن الله عزوجل هو الخالق والسيد والمعبود وله وحده حق الأمر والطاعة المطلقة، ولا يشترط أن نفهم الحكمة دائماً في أوامره مع يقيننا بأن كل أوامره فيها من الحكم الشيء الكثير، لكن من حكمة إخفاء الحكمة في بعض الأوامر إظهار كمال العبودية والطاعة لدى المقربين والأولياء. وهذا الدرس إذا وعاه الحاج في حجه، سهل عليه العمل بسائر الأحكام الشرعية، ولم يتأثر بشبه المغرضين وأصحاب الأهواء الذين يرمون شبهاتهم على المؤمنين.
الحج نموذج التسليم المطلق لله
2014/06/01
الرابط المختصر
Image