الحرب على الإسلام بين الثابت والمتجدد

"ما زالت أوربا منذ قرون تقابل الدولة العثمانية من أمامها، وعن يمينها وعن شمالها، وتناجزها الحروب، صليبية وسياسية وتجارية، وتهاجمها منفردة ومجتمعة، فكان للدولة في البداية الكرة على أوربا، وكان الأعداء يكافحونها كفاح الضعفاء، فكانوا يلجأون إلى إثارة الفتن في داخل بلاد عدوهم ليشغلوه عنهم، فكانوا يدسّون الدسائس تارة في البلقان، وطوراً في سورية، وأحياناً في بلاد العرب، ويمدون يد المصافحة إلى العجم.
وكانت الحروب داخلاً وخارجاً تتوالى إلى أن أفقرت دمها وأنهكت قوتها واستغرقت أموالها في الإعدادات الحربية، وحالت دون ترقيها في العلوم والصناعات، وأخذ السيفُ حصةَ القلم، فغلب على الأهالي الجهل وخبا نور العلم، فضعفت التربية العامة فنزلت الهمم وعم فساد الأخلاق.
وصار الضعف يجلب بعضه بعضا، وكلما آنست أوربا فينا ضعفا من جانب، حملت علينا حملة شعواء من خلال الضعف، واتخذت قاعدة سارت عليها ولا سيما أمة السلاف (شعوب روسيا) وهي عدم إمهالنا أن نلم شعثنا ونرأب صدعنا أبداً، لئلا نرتاش ونقوى وتصعب إزالتنا من الوجود، فيقال إن بطرس الأكبر عاهل الروسية، أوصى بحربنا كل مدة 20 سنة"، باختصار يسير ص 25.
هكذا شخّص العلاقةَ بين أمة الإسلام وخصومها أميرُ البيان الأمير شكيب أرسلان في كتابه "إلى العرب، بيان للأمة العربية عن حزب اللامركزية" والذي صدرت طبعته الأولى سنة 1913م، أي قبل ما يزيد عن 100 عام!
قد يجهل كثير من الناشئة شخصية الأمير شكيب أرسلان ودورها المركزي في قيادة العرب والمسلمين في النصف الأول من القرن العشرين، فقد كان أرسلان من أبرز المفكرين والمصلحين العرب والمسلمين في زمانه، وكان له دور بارز في الدفاع عن أمة الإسلام بالفكر والقلم في مقالاته وكتبه، وبالسيف والرصاص بمشاركته في الجهاد ضد المستعمرين وقيادته فريق المتطوعين في لبنان، ومساندته للمجاهدين في المغرب والجزائر، وكان من أوائل من نبهوا إلى خطر سياسة الاحتلال في فلسطين ودعم اليهود، وبعد ذلك خاض المعركة السياسية في عصبة الأمم مندوباً عن عدد من الدول العربية لمدة ربع قرن.
وفي نص الأمير شكيب أرسلان عدة حقائق لا تزال قائمة في موضوع الحرب على أمة الإسلام وهي:
1- الحرب والعدوان على أمة الإسلام من كل الجهات، ولا تزال الحروب والعدوان تشن على المسلمين في كثير من بقاع العالم.
2- شنت هذه الحرب ولا تزال تحت ذرائع ومبررات متعددة منها المبرر الديني كما يفعل اليهود في فلسطين، أو بمبرر سياسي كما تفعل روسيا اليوم في نصرة بشار الأسد، أو بمبرر تجاري  كما حصل في احتلال فرنسا للجزائر أو مبدأ كارتر بالتدخل لحماية منابع وطرق البترول. 
3- ولا تزال هذه الحروب تشن على أمة الإسلام بشكل فردي وجماعي من دول العالم.
4- وإثارة الفتن والدسائس نهج متواصل عبر الزمن من قبل الأعداء تجاه أمة الإسلام، فتن ودسائس سياسية وقومية وطائفية وغيرها.
5- تحالف أوربا والروس مع العجم ضد العرب والمسلمين نهج متكرر كلما اقتضت مصالحهم، فمن حلف البرتغال مع الصفويين ضد العثمانيين، إلى تعاون الروس وإيران ضد الثورة السورية، إلى تفاهم الغرب وإيران على حساب مصالح دول الخليج.
6- استنزاف القوة المالية للمسلمين في الحروب، وهو نهج متواصل تؤكده أرقام التسليح المتصاعدة للدول العربية والإسلامية، بسبب الحروب التي تشن على أمتنا وتجرّ إليها جراً.
7- انتشار الجهل والفقر بسبب الحروب، وبعدما كادت الأمية تنحسر في بعض الدول العربية، أصبح لدينا ملايين الأطفال بدون مدارس منذ عدة سنوات في سوريا والعراق وليبيا واليمن بسبب الحروب الطائفية، وملايين اللاجئين المشردين، وهذا سيزيد الفقر والجهل وقلة الأخلاق.
8- أن هناك توصية من زعيم روسيا، بطرس الأكبر، بشن حرب كل 20 سنة على المسلمين، وفعلاً لا تتأخر الحروب عن بلاد المسلمين كل عدة سنوات.
هذه هي طبيعة الحرب الظالمة التي تشن على المسلمين منذ قرون وعقود طويلة، وقد تم استحداث تجديدات عليها مع تطور الإمكانيات وثورة المواصلات والاتصالات وسرعة التواصل، ومن تلك التجديدات:
1- تناقص المدة بين الحروب على أمة الإسلام عن 20 سنة التي نصح بها بطرس، فمثلا: الحرب مع إسرائيل أعوام 48، 56، 67، 73، غزو الروس لأفغانستان 79، الحرب الإيرانية العراقية 80، اجتياح بيروت 82، الحرب الأهلية الثانية بالسودان 83، احتلال العراق للكويت 90، حرب البوسنة 92، احتلال أمريكا للعراق 2003، حروب الحوثيين في اليمن 2004 و2005 و2006 و2007 و2008 و2009 و2010، و2015، الحرب على غزة 2008 و2012 و2014، الحرب على الثورة السورية 2011.
2- استخدام وتوظيف أبناء المسلمين أنفسهم في حرب الإسلام فكريا بعد أن كانوا يوظفون في التجسس وتقديم خدمات مادية للأعداء فقط.
وقد تم هذا من خلال تبنى بعض أبناء المسلمين لأفكار وأيدولوجيات أعداء الإسلام، وهم غالباً ممن تأثر بالمحتلين والمستعمرين عبر الدراسة في مدارسهم والعمل معهم في ديار الإسلام أو ممن سافر لبلاد الأعداء للدراسة الجامعية وذاب في الرؤية العلمانية الليبرالية المتحللة أو الشيوعية الملحدة.
ومنذ 30 سنة ورموز ومنظري التيار اليساري يدعون لتقويض الإسلام من داخله عبر تحريف فهم القرآن الكريم ورفض السنة النبوية والاعتراض على كثير من أحكام الشريعة الإسلامية ومحاولة ترويج منهج التأويل الحداثي في فهم الوحي الإلهي، وذلك بعد فشل التيار الشيوعي واليساري في التمدد بين الجمهور، وتصاعد مد الصحوة الإسلامية.
وعقب أحداث 11/9 في أمريكا تبنت بعض المراكز الغربية تلك المحاولة الشيوعية الفاشلة، وأخذت تطالب بتطوير الإسلام وتطويعه ليتلاءم ويتواءم مع الفكر العلماني الحداثي، وأبرز تلك المطالبات جاءت في تقرير مؤسسة راند "نحو خطاب إسلامي حضاري مدني"، والتي أوصت بدعم (المجددين/الحداثيين) الإسلاميين.
3- استحداث آليات جديدة في الحرب الناعمة على الإسلام وعدم الاقتصار على الحرب الخشنة التي تشنها الجيوش.
هذه الحرب الناعمة تركز على حرب الأفكار والمفاهيم، فمثلاً تضخ سيلا من المقالات في الصحف ووسائط التواصل الاجتماعي تهاجم الإسلام والقرآن الكريم والسنة النبوية وأحكام الشريعة الإسلامية.
وتنتج مسلسلات وبرامج حوارية تشكك في المفاهيم والأصول الإسلامية والرموز والشخصيات الاعتبارية عبر الدراما والفن والحوار.
وتقدم في الإعلام شخصيات (مضروبة) لتتحدث باسم الإسلام لتشويه صورته أو تحريف أحكامه، وهذه الشخصيات على نوعين: إما شخصيات جاهلة وتحمل تصورا منحرفا في فهم الإسلام وتميل للعنف والتطرف، فتقدم نموذجا سلبيا عن الإسلام وأهله.
وإما تقدم شخصيات مزورة لا تحمل همّ الإسلام بل هي من تيارات معادية للدين فتقدم بوصفها عنوان فهم الإسلام السمح الوسطي! فتقوم بإضلال المشاهدين وتحريف أحكام الإسلام.
4- رعاية التطرف والغلو وتوظيفه في خدمة ضرب الأمة الإسلامية من داخلها وخارجها، حيث دمرت القاعدة وداعش مثلاً البنية التحتية لمدن السنة التي سيطروا عليها، ووصمت السنة بالإرهاب، وشوهت صورة النموذج الإسلامي، ومن جهة أخرى تبرر العدوان على الأمة المسلمة من كل الجهات، فالعدوان الطائفي الذي تشنه إيران وميلشياتها الدولية يتم باسم محاربة التطرف! والعدوان الروسي الوحشي على الأطفال والمدنيين وكل مقومات الحياة يتم باسم الحرب على الإرهاب!
وختاماً؛ فكما أن أمة الإسلام برغم كل هذه الحرب بقيت قائمة –ولو على ضعف- فإنها في هذه الحروب الدائرة ستبقى قائمة، بل إن هذه الحروب اليوم ستكون عامل قوة لها، وسنشهد بإذن الله تصاعداً في قوتها وهزيمة لأعدائها، والشرف اليوم أن يكون الواحد منا ممن يساهم في نصرة أمته بالعلم السديد والوعي الرشيد والعمل المتقن والتعاون المثمر والصبر الطويل، والله الموفق.