الحق والعدل ركنا حضارة التوحيد

الرابط المختصر
Image
الحق والعدل ركنا حضارة التوحيد

إن مما لفت أنظار كثير من الباحثين غير المسلمين في تاريخ الإسلام هو سبب دخول الشعوب والأمم بالإسلام وسبب شدة تمسكها به طيلة هذه القرون الطويلة، بعكس ما جرى لكثير من الأديان والمذاهب التي سرعان ما نبذتها الشعوب والأمم حين أتيح لها الفرصة لتركها، كما حدث مع زوال القبضة الباطشة للشيوعية بشعوب روسيا.
يلخص د.عمر عبيد حسنه القضية بقوله: "إن حضارات الطاغوت بمجملها حضارة إنجاز وإنتاج مادي، أو إن شئت فقل: حضارة أشياء، وتلك الحضارات إذا سقطت أشياؤها أو سقطت بفعل غزو أو حرب أو جائحة انتهى عمرها، أما حضارة النبوة فهي حضارة القيم والأفكار والمعايير والثقافة، حضارة فكرة وعقيدة، إلى جانب إنتاجها المادي، وهذه بطبيعتها قادرة على معاودة النهوض حتى لو سقطت أشياؤها وإنتاجها المادي، لأن تصاميم الفعل ومخطط البناء متوفرة، والأفكار والقيم القادرة على بناء الرؤية واسترداد الفاعلية جاهزة للإقلاع أكثر من مرة".
فالعقيدة والأفكار هما جوهر حضارة الصحابة الإسلامية، التي أقاموها بفضل التربية النبوية، وهنا لابد من إيضاح قضية في غاية الأهمية وهي أنه، وحسب الرؤية الإسلامية، فإن حضارة الأنبياء هي الأصل في الحضارة البشرية جمعاء.
فالقرآن يبين لنا أن الإنسان الأول، وهو آدم عليه السلام، كان نبياً يكلمه الله عز وجل ويأتيه الوحي كما في قوله تعالى: "فتلقي آدم من ربه كلمات فتاب عليه" (البقرة 37)، وأن آدم عليه السلام أنشأ المجتمع البشري الأول على هداية الوحي، ويخبرنا القرآن أيضاً أن البشرية تعاقبت فيها الأنبياء كما في قوله تعالى: "ولكل قوم هاد" (الرعد 7)، وأن وظيفة هؤلاء الأنبياء والرسل دوما هي الإصلاح، قال تعالى على لسان شعيب عليه السلام: "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت" (هود 88)، كما أكد القرآن أن كل من خالف الأنبياء عليهم السلام ورفض حضارتهم فهو من المفسدين "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها" (الأعراف 56).  
ولذلك فإن حضارة الصحابة رضوان الله عليهم هي تواصل مع مسيرة الإصلاح التي سار عليها الأنبياء من قبل، ولذلك كانت تلقى القبول من الأتباع الحقيقيين للأنبياء السابقين، لما يدركونه من وحدة المصدر والجوهر والتعاليم.
فعقيدة التوحيد التي هي جوهر حضارة الصحابة والأنبياء من قبلهم تقوم على ركني الحق والعدل، فالأنبياء والرسل إنما جاؤوا بالحق لإصلاح ما فسد، كما قال تعالى: "إنا أرسلناك بالحق" (البقرة 119) والآيات كثيرة في ذلك، والحق الذي جاء به الإسلام هو رفض الباطل في تأليه المخلوقات أو إعطاء صفات الإله كعلم الغيب والنفع والضر للكهنة والعرافين أو قبول الخرافات والأساطير ونبذ العلم والمعرفة، فبالحق تنصلح أفكار وعقائد الناس.
أما العدل فهو الركن الثاني لعقيدة التوحيد كما في قوله تعالى: "وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً" (الأنعام 115)، لأن بالعدل صلاح معاملات الناس وبالظلم تفسد حياتهم. 
وقد طبق الصحابة رضوان الله عليهم الحق والعدل على أنفسهم وعلى الشعوب والأمم الأخرى، ومن أمثلة ذلك:
وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه لجيشه أن لا يتعرض للمسالمين أو العباد والرهبان ولا يقطع الأشجار ويخرب الديار.
وهذا عمر الفاروق رضي الله عنه، حين جلد واليه على البصرة، أبو موسى الأشعري، أحد الرعية لأنه لم يقبل أن يأخذ بعض حقه من الغنيمة، يكتب الفاروق لأبي موسى: ".. فإن كنت فعلت ذلك في ملأ من الناس فعزمت عليك لما قعدت له في ملأ من الناس حتى يقتص منك، وإن كنت فعلت في خلاء من الناس فاقعد له في خلاء من الناس حتى يقتص منك" وقد حاول الناس مع المشتكي أن يعفو عن حقه، لكنه أبى وأصر على القصاص، فلما قعد أبو موسى للقصاص، رفع الرجل رأسه وعفا عنه، وحمد الله على العدل والمساوة التي جاء بها الإسلام.  
حين دخل المسلمون الشام فاتحين لم يتعرضوا لأموال الناس بحسب ما اعتاد عليه أهل الشام من الرومان وغيرهم، ولما قرر المسلمون الانسحاب من حمص، أعادوا لهم الجزية التي دفعوها لأن المسلمين لن يستطيعوا حماية حمص من الرومان فعلام يأخذون الجزية؟؟
وحين فرض عمر الفاروق راتباً لعجوز يهودي فقير.
وحين رفض الفاروق رضي الله عنه أن يقدم المصريون فتاة منهم قرباناً للنيل بحسب معتقداتهم الوثنية، فانتهى في مصر عهد تقديم القرابين البشرية.
وحين لم يفرض المسلمون على الشعوب والأمم دينهم بل تركوا لهم الخيرة في ذلك.
وحين أُبعد المسلمون عن الأمم والشعوب، ظلم حكامهم وملوكهم.
ومن هنا فحين أقام الصحابة حضارتهم على الحق ولم يقبلوا الباطل وأقامو العدل وحاربوا الظلم دخلت الأمم والشعوب في دين الإسلام ولم تخرج منه!!  
وفهم هذا يفسر لنا رفض المسلمين اليوم لكثير من الأفكار والمفاهيم والمخترعات العصرية رغم القوة المادية التي تروجها لأنها ترسب في ميزان الحق الذي يزن به المسلمون الأفكار والأشياء، فالمسلمون مثلاً يرفضون المخدرات ويشترك معهم العالم في ذلك، لكن المسلمين يرفضون معها الخمر لأن العلة واحدة، بعكس موقف غيرهم فالمسلمون، لتمسكهم بمبدأ الحق، أكثر عقلانية من غيرهم ولا يرضخون لشهوات ومصالح المتنفذين.   
كما أن المسلمين لا يتنازلون عن حقوقهم المسلوبة رغم المغريات العظيمة، ولا يقنطون من استردادها، لأنهم يؤمنون بالعدل سواء في الدنيا أو الآخرة.
فالمسلمون تحركهم عقيدة التوحيد، وهي التي تجمع شملهم، وبرغم اختلاف أعراقهم ولغاتهم وألوانهم وبلدانهم، إلا أن قيم الحق والعدل التى رسخها التوحيد في قلوبهم أعطتهم القوة للبقاء حتى لو فقدوا القوة المادية، فقوة الحق والعدل في قلوبهم أكبر من طغيان المادة في أيدى أعدائهم. ولقد صدق من قال: "إن المسلمين الأولين لم ينقلوا الإسلام إلى الأمم، ولكن نقلوا الأمم إلى الإسلام".