الحياة في منظور الوحي الرباني

الرابط المختصر
Image
الحياة في منظور الوحي الرباني

 بعد أن استعرضنا منظور الوحي الرباني لهذا الكون الواسع، وأنه مخلوق من قبل الله عز وجل لغاية وحكمة، ويجري على سنن ربانية كونية وشرعية، ننتقل اليوم للحديث عن منظور الوحي الرباني لمفهوم الحياة في هذا الكون وهو المنظور الصحيح الذي ثبت من جهة الوحي والمتسق مع العلم والمعرفة.
بينما تقوم الرؤية الإلحادية والعلمانية على أن الكون جاء من العدم! فإنهم يرون أن الصدفة هي مصدر الحياة، كما يقول ريتشارد دوكينز إن ظهور الحياة "كان حادثة عرضية نتيجة ضربة حظ"! في تناقض وتصادم غريب، فلماذا لم تظهر الحياة من العدم؟ ولماذا لم يظهر الكون صدفة؟ ولماذا لا يتكرر ظهور كون أو أكوان أو أشياء جديدة من العدم مجدداً؟ ولماذا لا تتكرر الصدفة لتظهر كائنات أو أشكال من الحياة تخالف السنن الربانية أو القواعد العلمية الثابتة منذ آلاف السنين؟؟
ومجمل المنظور الإسلامي للحياة يقوم على أن الحياة في الكون هي هبة ربانية بناء على أن الكون نفسه مخلوق من الله عز وجل، ويتبدى لنا هنا عقلانية واتساق الرؤية الشرعية للكون والحياة وأنهما من مصدر واحد، ولذلك يتكاملان، بخلاف تناقض ولا عقلانية الرؤية الإلحادية والعلمانية في نظرتها للكون والحياة.
القرآن الكريم يصرح بأن الحياة هي من مخلوقات الله عز وجل "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملاً" (المُلك: 2)، فالحياة والموت في منظور الوحي الرباني قضية وجودية، وقد جاء في الحديث المتفق عليه "يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي منادٍ: يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، وكلهم قد رآه. ويقال لأهل النار مثل ذلك، فيذبح. ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت".
وقد اعترف علماء الطبيعيات بالعجز عن تفسير ظهور الحياة قديماً، وأعلنوا فشل كل تجاربهم لتخليق الحياة، لأن الحياة تُخلق بأمر الله الحي القيوم فقط! ولأن العلم أثبت أن الحياة لا تأتي إلا من حياة سابقة، لا من جماد، وبطلت فرضية التوالد الذاتي على يد العالم الفرنسي باستور، ومن هنا تخلّوا عن المحاولات الفاشلة طيلة العقود الماضية لتخليق الحياة واتجهوا لهندسة الوراثة وتعديل الجينات والاستنساخ.
وفي منظور الوحي الرباني فإن الموت يسبق الحياة، والإنسان يمر بموتتين وحياتين لقوله سبحانه وتعالى: "كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه تُرجعون" (البقرة: 28)، وقوله سبحانه: "قالوا ربنا أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين" (سورة غافر: 11)، وهذا يجعل مفهوم الحياة في الإسلام يمتد ويتوسع ليشمل الدنيا والآخرة معًا، ولا ينحصر بهذه السنوات المعدودة في الدنيا، بل يمتد ليصبح خلودًا دائمًا، لذلك قابل القرآن الكريم محدودية فهْم الكفار لمدة الحياة "وقالوا إنْ هي إلاّ حياتُنا الدنيا وما نحن بمبعوثين" (الأنعام: 29) بسعة وامتداد حياة الآخرة "وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدارُ الآخرة خيرٌ للذين يتقون أفلا تعقلون" (الأنعام: 32)، وهذه الرؤية الواسعة للحياة هي التي تمنح المؤمنين الأمل والصبر والقدرة على تجاوز مصاعب الحياة وتحدّياتها والرضى والسعادة برغم شظف العيش ومشقته.
والحياة في منظور الوحي الرباني لها حكمة عالية وغاية عظيمة "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملاً" (المُلك: 2)، فالاختبار والابتلاء بالعبادة والطاعة لله عز وجل هي وظيفة الحياة الدنيا "وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون" (الذاريات: 56)، ولذلك تتميز حياة المؤمن بالاستقامة تجاه الرب والإله فلا يشرك بعبادته أحد من خلقه، ولا يخالف أمره في كل شؤونه، والاستقامة تجاه الناس جميعاً، فلا يَظلم أحدا ولا يعتدي على أحد ويحب الخير للجميع وينصر كل مظلوم، وقد تجسد ذلك في تاريخ أمة الإسلام إذ تميزت بترابطها الأسري وتكافلها الاجتماعي، ورعايتها لكافة المواطنين على اختلاف أديانهم، وتحريرها للأمم المستضعفة، ورعاية مصالحها دون أن تنهب خيراتهم وثرواتهم كما فعل الاستعمار الخشن في القرون الماضية ويفعل الاستعمار الناعم لليوم!
وتتميز أمة الإسلام بالاستقامة حتى مع عالم الحيوان والبيئة، إذ حث الإسلام على حسن التعامل مع الحيوان في حياته ومماته، ومنه توجيه النبي صلى الله عليه وسلم: "في كل كبد رطبة أجر" متفق عليه، وأمر بالحفاظ على البيئة حتى أوصى الخليفة الأول الصديق رضي الله عنه جيشه فقال: "لا تعقروا نخلاً، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة"، فحتى في الحرب يلزم الإسلام أفراده بمراعاة البيئة والحفاظ عليها.
وفي منظور الوحي الرباني لا يوجد تناقض وازدواجية بين سبيل الدنيا والآخرة  كما وقع لدى الحضارات والأمم الأخرى، بل هو سبيل واحد يجمع بين خيري الحياة الدنيا والآخرة "وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا وأحسِن كما أحسن الله إليك ولا تبْغِ الفساد في الأرض" (القصص: 77)، فلا رهبانية في الإسلام تُناقض فطرة الإنسان بالميل للزواج والتي حين تُمنع تقع جريمة الاغتصاب والشذوذ كما نقلت وكالات الأخبار ذلك مؤخراً، والإسلام يرفض الزهد في الدنيا لدرجة الفقر والقذارة كما يفعل بعض الجهلة، والإسلام أيضا يرفض الارتهان لموجة الاستهلاك الفوضوية التي تجلب الأمراض والفقر والعوز وتراكم الديون على الفرد والمجتمع، وتكون سببا للعدوان ونهب الخيرات بين الأقوياء والضعفاء.
والوحي الرباني يوجّه الإنسان للاستفادة من خيرات الدنيا باعتدال حتى تستقيم الحياة "زُيِّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب" (آل عمران: 14)، بل إن الوحي الرباني يقرر أن زينة الدنيا هي للمؤمنين أصلاً وشاركهم غيرهم بالتبع "قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة" (الأعراف: 32)، فالإسلام لا ينبذ التمتع بزينة الحياة بصورة سليمة.
هذه أهم الخطوط في منظور الوحي الرباني للحياة، والتي بها تنعم البشرية بالراحة والاطمئنان وتنعتق من حالة الشقاء والصراع والحروب واللهاث خلف الشهوات المسعورة والمتع المهلكة.