تتواصل مأساة المسلمين الدامية في بورما في عصرنا الحاضر منذ مطلع القرن الماضي، وإن كانت جذورها تمتد لقرون عديدة، ولما كانت هذه المأساة مجهولة لدى الكثيرين وغير مفهومة المعالم جاءت مبادرة المنظمة الدولية الخليجية لحقوق الإنسان بإصدار دراسة بعنوان “الروهنجيا في ميانمار.. الأقلية الأكثر اضطهادا في العالم” في عام 2015، وهي من إعداد الأستاذ طارق شديد، مدير قسم الدراسات العربية بالمنظمة، وهذا التقرير -على صغر حجمه والبالغ 70 صفحة من القطع الكبير، والمرفق بالصور الملونة لبيان حجم المأساة- تميز بالشمول والوضوح والبساطة في عرض أبعاد مأساة المسلمين “الروهنجيا” بولاية أراكان (راخين) في دولة ميانمار (بورما سابقا)، كما عززت معلومات التقرير بشهادات متعددة لعدد من الإعلاميين ونشطاء حقوق الإنسان لتتضح حقيقة حجم المأساة وضخامتها.
تسعى الدراسة إلى الإجابة عن عدة تساؤلات: ما حقيقة ما يحدث للأقلية الروهنجية في ميانمار، وما الخلفيات التاريخية لهذه الجرائم؟ مَن المجرم الذي يريق دماء الأبرياء؟ لماذا سكتت دول العالم الحر حيال ما يجري هناك من انتهاكات صارخة؟ كيف يمكننا أن ننقذ من تبقى من هذا الشعب؟ وغيرها من الأسئلة.
سأحاول عرض أبرز الخطوط في هذا التقرير، وسأتجاوز ترتيب التقرير أحيانا لتتكامل الفكرة الموزعة بين جنباته.
تعريف بدولة بورما:
بورما كانت جزءا من الهند تحت حكم الإنجليز، ثم فصلوها عن الهند في سنة 1937 وتم منحها الاستقلال في 1947، وألحق بها مستعمرة أركان على أن تمنح تقرير مصيرها بعد 10 سنوات، تضم بورما 135 عرقية وقومية أهمها البوذيون البورمان، وهم من أصول صينية، وهم العرقية الحاكمة، ويليها الروهينجا المسلمون، ويسكنها 60 مليون شخص، 15% منهم مسلمون وهو ما تنكره الحكومة البوذية الشيوعية حيث تزعم أنهم 4 % فقط، والمسلمون يتكون من عدة عرقيات منها الروهينجا.
ونصف المسلمين في بورما يقطنون إقليم أراكان، ويشكلون حوالي 70 % من سكانه، ويشاركهم فيه أقلية البوذيين الماغ، وهي من أصول هندية.
قصة الإسلام في أراكان:
نبدأ من قصة المسلمين في أركان حيث وصل الإسلام هذه المنطقة (إقليم راخين) مبكرا على يد التجار المسلمين في عهد هارون الرشيد، فتقبله بعض السكان وانتشر بينهم، وكذلك في المناطق المجاورة، وأصبح هناك تجمعات إسلامية في المنطقة، وبدأ توافد العرب المسلمين عليها، ومن الأخطاء الشائعة التي وقع فيها معدّ التقرير القول بأن الإسلام وصلها على يد الصحابي الجليل وقاص بن مالك رضي الله عنه! ولا يوجد صحابي بهذا الاسم أصلا، وهي معلومة مغلوطة حيث يشيع بين مسلمي الصين أن الصحابي سعد بن أبي وقاص جاء للصين ونشر فيها الإسلام وتوفي هناك! وهذا خطأ، والصواب وفود داعية مسلم يدعى أبا وقاص لاحقا للصين ونشره للدعوة هناك، ثم حدث الخلط بين الرجلين.
وظل نفوذ المسلمين يتعاظم في المنطقة بدخول الشعوب والقبائل فيه حتى أعلن سليمان شاه سنة 1430 م قيام دولة إسلامية في أركان استمرت لمدة 350 عاما تعاقب على حكمها 48 حاكما مسلماً، وكانت لهم عملات عليها شعارات إسلامية، وكانوا من القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية أن كان المسلمون يملكون ما يزيد عن 60% من عاصمة بورما يوم ذاك، وتخوف البوذيون من زحف الإسلام بين الشعوب وتقبلها لها فحرّضوا ملكهم بوداباي الذي غزا مملكة أراكان في سنة 1784 وقضى عليها وألحقها ببورما والتي يُعتقد أنها أحد أسماء بوذا! وخلال مدة حكمه التي استمرت 42 عاما، عمّ الظلم أركان وقد أباحها لجنوده هدما وحرقا وقتلا وحربا للإسلام بقتل العلماء وهدم المساجد وبناء معابد البوذية وإجبار المسلمين على اعتناق البوذية، مما أجبر الآلاف على الهجرة للجنوب.
وانتهى حكم البوذيين سنة 1824 مع مجيء الاحتلال البريطاني الذي ضمّ بورما لحكومته في الهند، وفي 1937 اعتبرت أراكان مستعمرة مستقلة عن حكومتها في الهند، ومع تصاعد المقاومة المسلمة للاحتلال البريطاني، عمدت بريطانيا لدعم الأقلية البوذية وتمكينها من السلطة في أراكان، حيث سلمتهم المناصب وسجنت قادة المسلمين وسلمتهم أموال وأملاك المسلمين الذين طردتهم أو حرضت البوذيين على قتلهم حيث قتلوا 30 ألفا من المسلمين سنة 1938.
وبعد خسارة بريطانيا أمام اليابان في الحرب العالمية الثانية على أرض أراكان سنة 1942 استولى البوذيون على السلاح وقتلوا به المسلمين، وفي عام 1947 استثني المسلمين من حضور جلسات ترتيبات تقرير المصير، وفي العام التالي منحت بريطانيا بورما الاستقلال على أن تَمنح أراكان التي ضمتها إليها تقرير مصيرها بعد 10 سنوات، وهو الأمر الذي لم يحدث للآن! وتم استحداث قانون مليء بالثغرات يمنح الروهينجا الجنسية البورمية.
فظهرت دولة الملكية البوذية والتي أعلن زعيمها آنذاك أن بورما للبوذيين وأن على الروهينجا المسلمين -من أجل البقاء فيها- ترك الإسلام وخلع الحجاب وأكل الخنزير وأن ينخرطوا بالبوذيين، وعندما لم يَقبل المسلمون بذلك اتهموا بتقويض الوحدة البورمية وطُرد كثير منهم خارج البلاد، وبدأت رحلة الشتات للروهنجيين.
فحقيقة مشكلة الروهينجا أنهم سلبت منهم دولتهم الخاصة من قبل البوذيين في البداية ثم الإنجليز، وبعد أن فصلتهم بريطانيا عن حكومتهم الاستعمارية في الهند عادوا حين خروجهم من بورما لإلحاق أراكان/ أرخين ببورما، والحكومة البوذية الجديدة لم تعترف بهم، لا كأقلية ولا كبورميين، ولذلك أصبحوا أكبر أقلية في العالم فاقدة للجنسية وتتعرض دوريا للاضطهاد والتنكيل!
مسلسل اضطهاد المسلمين:
في عام 1962 قام الجيش بانقلاب وأُعلنت بورما دولة شيوعية وعدوها الأول الإسلام! وتم مصادرة 90% من أراضي المسلمين وممتلكاتهم، واستمرت المضايقات السابقة تجاه الإسلام.
وفي عام 1967 سحبت الجنسية من آلاف الروهينجا المسلمين وتم طرد 28 ألفا منهم لبنغلاديش.
وفي عام 1974 سحبت الجنسية من 300 ألف روهينجى وتم طردتهم إلى حدود بنغلاديش.
وتكرر ذلك في 1978 مع 500 ألف روهينجى مسلم، مات منهم 40 ألفا بسبب ذلك، وقتل 10 آلاف.
وطرح في 1981 تعديلات على قانون الجنسية للتضييق أكثر على المسلمين، وفي 1982 أصدرت الحكومة الشيوعية قانونا يَحرِم المسلمين من الأقلية الروهينجية من الجنسية البورمية وحقوق المواطنة واعتبارهم مهاجرين بنغال غير مرغوب بهم!
وفي 1988 تم إبعاد 150 ألف مسلم من أراكان عن منازلهم لتسكين بوذيين محلهم وللتلاعب بالتركيبة السكانية هناك.
وفي 1991 قام المسلمون بالتصويت للمعارضة في الانتخابات النيابية والتي ألغيت، ولذلك عاقبهم الجيش الماركسي بطرد نصف مليون خارج البلاد وسحب جنسيات الألوف منهم.
وفي 1997 تعرض المسلمون لحملات إرهابية من المجموعات البوذية.
وفي 2001 تكررت هذه الهجمات الإرهابية بدعوى مسؤولية المسلمين عن أحداث 11 سبتمبر في أمريكا، فحرقت مساجدهم وقتل البعض منهم واغتصب الكثير من ممتلكاتهم بدعم من الجيش.
وفي 2010 أقيمت انتخابات فازت فيها زعيمة المعارضة أونغ سان سو كي، والحائزة على جائزة نوبل للسلام، مما جعل الكثير يتفاءل بذلك ويعتقد انتهاء هذه المأساة، لكن تبيّن أن ذلك كان لتجميل وجه الجيش والتغطية على مأساة الروهينجا حيث تزايدت وتيرة تلك الحرب الطائفية ضدهم.
حركة 969 البوذية وجرائمها بحق المسلمين:
في عام 1999 قام بعض الرهبان البوذيين بتأسيس منظمة مختصة بالدفاع عن البوذية ومحاربة الإسلام والمسلمين الروهينجا، وكان زعيمهم الراهب كياو لوين، وأخذ الاضطهاد للمسلمين مع ظهور هذه المنظمة البوذية أبعاد أكثر وحشية وتحريضا علنيا رسميا وتجييشا للعامة من البوذيين.
وبخصوص اسمهم 969 فهو يشير لأصول البوذية، فـ 9 الأولى ترمز لسمات بوذا التسعة، و6 تشير لتعاليم بوذا الستة المعروفة بالدارما، و9 الثانية ترمز للسمات التسعة للرهبان (السانغا)، فهي حركة تقوم على بوذا والدارما والسانغا جوهر البوذية!
وفي 2001 انضم للحركة راهب يدعى آشين ويراثو من أقلية الماغ البوذية، وقد فاق كل أقرانه في الإجرام والإرهاب والطائفية حتى وصف نفسه بأنه ابن لادن البورمي، وفعلا قاد الكثير من حملات القتل والحرق والاعتداء على المسلمين، وبسبب همجيته لم تتحمله حتى السلطات البورمية فسجن في 2003 بتهمة التحريض على الكراهية الدينية، وتم الإفراج عنه في 2012 وتعيينه زعيما لمنظمة 969 المتطرفة، وسرعان ما نجح في قيادة موجات العداء للروهنجيين في 2012 و2013 بعد جولاته في أنحاء بورما وإلقاء محاضرات عن خطر الإسلام على البوذية والتي تشهد انتشارا واسعا عبر الأشرطة في مختلف أرجاء البلاد، حيث يزعم ويراثو أن المسلمين لديهم خطة للاستيلاء على بورما، ولذلك فيجب عدم الشراء من متاجر المسلمين وعدم السماح لهم بالزواج من البوذيات!
وتقوم فكرة تبرير هذه الجرائم على عقيدة اللاعنف البوذية! حيث تتضمن هذه العقيدة إباحة العنف إذا كان بِنية طيبة كالدفاع عن البوذية! فالرهبان ينشرون خطاب كراهية عن خطر المسلمين على البوذية وأنهم بذاتهم خطر يجلب غضب الإله مما يتسبب بالأعاصير والفيضانات والجفاف، وعليه تصبح إبادتهم مبررة ومقبولة دينيا في البوذية!
ويَعتقد الكثير من المراقبين أن تأسيس هذه المنظمة تم بموافقة الجيش والحكومة البورمية بهدف إزاحة مسؤولية اضطهاد المسلمين عنهما مع تصاعد الإدانة الدولية لذلك، حيث تقوم منظمة 969 بالهجوم والتخريب والقتل والاغتصاب والتخويف ثم تأتي قوات الأمن لتصادر الممتلكات ولتعتقل وتسجن وترحّل من بقي!
ومنذ 2012 تقوم 969 بقيادة الهجمات الإرهابية على المسلمين وهم وراء كل ما يتعرض له المسلمون هناك، وقد بلغ بهم الإجرام لمنع وصول المنظمات الدولية لإغاثة الروهينجا وإيقاف المجازر بحقهم برغم توقيع بورما على المواثيق والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان!
وتُواصل الحكومة البورمية كل أشكال الاضطهاد للمسلمين من منع التنقل والسفر والمجازر والإبادة والاعتقال الظالم والتعذيب ومصادرة الممتلكات وإقامة مستوطنات بوذية على الأراضي المصادرة، وانتهاك حقوق النساء، وهدم المساجد وحرق المصاحف والمدارس الدينية ومنعهم من الحج وذبح الأضاحي.
بعد هذا الاستعراض التاريخي لمأساة المسلمين الروهينجا يقدم التقرير 6 شهادات لإعلاميين وحقوقيين تكشف حقيقة الجرائم الأخيرة بعد عام 2012 وفيها روايات للعديد من الروهونجيين وما جرى لهم.
ثم يتناول التقرير موقف المجتمع الدولي من هذه الجرائم وأنه لم يتحرك بالشكل المطلوب منه، مما شجع الحكومة البورمية على استمرار هذه الانتهاكات، ورغم تناول الموضوع في مجلس حقوق الإنسان في 2/2013 إلا أنه لم تكن هناك مواقف حقيقية ترفع المظالم.
وفي 2014 أصدرت منظمة هيومن رايتس ووتش تقريرا مطولا عن المأساة من خلال زيارة ميدانية لأركان خلصت منه لمسؤولية وتورط مسؤولين في الحكومة البورمية وقيادات مجتمعية ورهبان بوذيين عن كل هذه الجرائم.
ومن أوجه تورط الحكومة في اضطهاد المسلمين تقليل نسبتهم ورفضها القيام بإحصاء سكاني حقيقي يكشف الحقيقة، وعندما قامت الحكومة في 2014 بإحصاء سكاني وعدت الأمم المتحدة بإشراك الروهينجا به والسماح لهم بذكر قوميتهم في خانة (أخرى) قامت احتجاجات بوذية ضد مندوبي الأمم المتحدة الذين فروا ولم يتم قبول تعداد شخص يطلب اعتباره روهنجيا!
إن مواثيق حقوق الإنسان وحقوق الشعوب الأصلية يتم انتهاكها بحق المسلمين الروهنجيا منذ عقود، والواجب على المجتمع الدولي مساندة هذا الشعب لنيل حقوقه وحرياته السليبة، ومعاقبة المجرمين المعتدين عليه.
الروهنجيا في ميانمار.. الأقلية الأكثر اضطهادا في العالم
2017/09/01
الرابط المختصر
Image