لا تنقطع السجالات والحوارات بين الناس حول كيفية استعادة الأمة الإسلامية قوتها ومجدها ومواصلة دورها الحضاري والعمراني، ومن الأفكار الخاطئة التي تطرح في بعض الحوارات والمساجلات أن الدعوة إلى السلفية واتباع الصحابة وسلف الأمة والتمسك بالوحي الرباني (القرآن الكريم والسنة النبوية) هي عودة للوراء وبقاء في سجن الماضي!
وهذا التصور يعبّر عن عدم فهم لمفهوم السلفية في الحالة الإسلامية، والمغاير لمفهوم السلفية في الحالة الغربية خصوصاً، وبسبب تصور خاطئ لمفهوم التاريخ وعلاقته بالتقدم.
ولنبدأ بمفهوم التاريخ حيث تسببت الهيمنة الغربية الثقافية بتعميم تقسيم لحال التاريخ الأوربي على تاريخ العالم وذلك حين قام أساتذة جامعة كامبردج بتقسيم التاريخ إلى قديم ومتوسط وحديث، ومن ثم جعل ذلك يشمل العالم، ثم جعلوا العصر القديم والمتوسط عصورا سيئة بينما كانت هذه العصور نفسها عصور تنوير وتقدم لحضارات أخرى في مصر والصين والهند، وحتى الحضارة الإسلامية ازدهرت في عصور الظلام بحسب التقسيم الأوربي! فإذاً التحكم بوصف العصور بحسب التاريخ الأوروبي فقط هو تحكم جائر وغير موضوعي.
من ناحية أخرى فإن ربط التقدم بالإطار الزمني فكرة غبية وغير حقيقية ويناقضها الواقع، فمثلا بريطانيا كانت إمبراطورية عظيمة فهل هي كذلك اليوم مع تقدم الزمن؟ وطبعا سيكون الجواب أكثر وضوحاً في حالة البرتغال وهولندا اللتين كانتا دولتين استعماريتين كبريين!
وحتى على الصعيد الأخلاقي والقانوني والعلمي فإن الواقع يؤكد خرافة ارتباط الزمن بالتقدم في هذه المجالات، فهل ما يتقدم حاليا هو حالة الحرية والديمقراطية والعدالة والسلام؟ أم الذي يتقدم في الحقيقة هي حالة العنصرية والأنانية وظلم مجلس الأمن وساطور حق الفيتو والإباحية والمخدرات والقلق والانتحار والفشل السياسي والأزمات الطاحنة في أرجاء العالم؟
ثم أليس الحديث اليوم هو قديم المستقبل؟ وبذلك فليس هناك حديث في الحقيقة! وهنا يجدر الالتفات إلى تبدل مفهوم التاريخ بحسب د. حسين مؤنس في كتابه "الحضارة"، حيث كان التاريخ عند كثيرين وخاصة في أوربا هو علم الماضي وأخباره دون ضبط وتدقيق، بينما قد تطور مفهومه فأصبح موضوعه دراسة التجربة الإنسانية في الماضي والحاضر والمستقبل! والماضي لا يزول بل يبقى حياً وفاعلاً في حياة الأفراد والشعوب والأمم كجزء من كيانها وشخصيتها وهويتها.
إن وزن التقدم بالزمن منهج خاطئ يناقض العقل والواقع، والصواب وزن التقدم بالقيم والمبادئ في أي زمن كانت، وإلا لأصبحت القيم الحق والمبادئ السليمة هي بذاتها محل للزوال والتبدل، وعندها ينهار نظام العالم، وكما يقول الأديب الكبير مصطفى الرافعي: "فما رأيت من هذه الفرقة إلا الادعاء الفارغ والنزوع إلى الثورة على ما يسمونه القديم، وهم ينسون أن هناك مبادئ ثابتة وبدهيات ليس فيها قديم وجديد، وأن الاثنين والاثنين أربعة من مائة ألف سنة، فلا نقدر أن نعمل على ذلك ثورة"، وتخيل لو أبطلنا العلوم والحقائق والأخلاق والمبادئ بسبب قدمها، كيف سيكون حال الفوضى في العالم؟!
هذا بخصوص خلل فهم التاريخ وعلاقته بالتقدم، أما بخصوص خلل فهم السلفية والخلط بين مفهومها الغربي والمفهوم الإسلامي فيوضحه د. مصطفى حلمي في كتابه "المنهج السلفي لا الحداثة طريق النهضة"، فالسلفية في المخيال الغربي هي: ارتداد من محاكاة الشخصيات المبدعة المعاصرة إلى محاكاة أسلاف القبيلة، أي عودة من ديناميكية الحضارة لحالة الكمون البدائية! مما ينتج عنها توقف لحركة التغيير تتسبب في رذائل اجتماعية وحالة تثبيت لمجتمع ينهار ويتحلل! عبر تمسك بمصطلحات وهياكل فارغة ومتكلفة ولغة خشبية!
وذلك أن ماضي الغرب هو تسلط كنسي يحارب العلم والمعرفة، وتسلط إقطاعي يستعبد الناس ويسترقّهم، فهو حالة سوداء مظلمة لا مكان للعقل والمعرفة والحرية والكرامة فيها.
بينما السلفية في المنهج الإسلامي هي منهج علمي وعملي له أسسه وقواعده المنهجية الواضحة لفهم الدين وعمارة الدنيا من خلال الاقتداء بتجربة إنسانية رائدة تتمثل في صفوة البشر محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، والسلفية بهذا المفهوم تنسجم مع مفهوم التاريخ المتطور الذي يعنى بدراسة التجارب الإنسانية حيث أن من طبع البشرية وفطرتها محاكاة الصفوة من القادة والعظماء والزعماء وتقليدها.
وتتميز أمة الإسلام بتدوين تفاصيل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتجربته، والقرآن الكريم يأمر بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وبقية الأنبياء من قبله، لما في اتّباع صفوة البشر من حكمة وعقل ومنطق يتفق عليه العقلاء من كل الملل.
السلفية في الإسلام لا تعني تقليد جيل أو أشخاص في ظروف بيئتهم، بل اتّباع منهجيتهم في فهم الدين وعمارة الدنيا، فالنبي صلى الله عليه وسلم بنفسه تفاعل مع تغيير الزمن وظروفه التي عاش فيها، فقبِل إستراتيجية حفر الخندق الفارسية، واتخذ خاتما لختم رسائله للملوك على عادة العلاقات الدولية في زمانه.
ومن بعده اتخذ الفاروق الديوان، وكان معروفا عند الفرس، وعثمان وحّد المصاحف مع اتساع رقعة بلاد الإسلام، ومعاوية هو من أدخل السفن ضمن وسائل الجهاد، وبهذا المنهج السلفي تطورت الحضارة الإسلامية وعمرت الأرض مع حفاظها على مبادئها الإسلامية.
فالسلفية في الإسلام هي منهج لفهم الدين كما فهمه القدوة (النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه) ومنهج عمل لعمارة الأرض كما تحقق في دنيا الناس بقيام حضارة سامية باسقة، وهو منهج يقوم على الثورة على تحريف دين الأنبياء السابقين جميعاً بترسيخ التوحيد ومحاربة الشرك والوثنية، وثورة على تكبيل العقل بالجهل والخرافة التي تعظم المخلوقات وتعبدها، وهو ثورة على الظلم والطغيان، وهو ثورة على المنكرات والفواحش.
فالسلفية منهج ودعوة لنشر الإيمان والعلم والمعرفة ومكارم الأخلاق، وعمل حقيقي لعمارة الأرض والأخذ بالأسباب والمخترعات العصرية ونشر العدل والحق من خلال شحذ الهمم اقتداء بمنهج وسيرة قمة القدوات البشرية (الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن ثم الصحابة الكرام)، وليست عودة للوراء كما يفتري الخصوم.
السلفية ليست عودة للوراء!
2018/02/01
الرابط المختصر
Image