حسم الله عز وجل الجدال والخلاف حول معيار فهم الإسلام في رسالته الأخيرة، رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، هذا الجدال الذي يعلم الله عز وجل أنه سيثور في المستقبل، فقال تعالى: "قولوا آمنّا بالله وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون* فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم" (البقرة: 136-137).
فجعل الله عز وجل إيمان الصحابة، رضوان الله عليهم، الذي تلقوه من الرسول صلى الله عليه وسلم هو المعيار للهداية، وأن مخالفة الإيمان الذي تعلمه الصحابة الكرام يُدخل أصحابه في الخلاف والشقاق والنزاع، وهذا واضح في تباينات الأديان عن عقيدة التوحيد التي حملها الصحابة للعالَم، ويظهر في تناقضات وتصادمات الفرق الإسلامية التي تنكبت منهاج الصحابة الكرام.
إن الصحابة لم يكونوا أناسا عاديين قط، فقد شهد لهم الله عز وجل بالإيمان والطاعة، فقال جلّ من قائل: "والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آوَوْا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا" (الأنفال: 74)، وشهد لهم المولى تبارك وتعالى بالرشد فقال: "ولكن الله حبّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون" (الحجرات: 7)، بل لقد اختار الله عز وجل الصحابة الكرام من بين البشرية جمعاء لحمل الرسالة المحمدية، قال تعالى: "قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى" (النمل: 59) وقد روي عن سفيان أن المصطفين في هذه الآية هم الصحابة.
لقد فهم الصحابة الكرام دين الإسلام بالشكل الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وبلغوه للعالمين بكل أمانة ودقة، ولذلك لما حاول مندوب كفار قريش أن يؤلب النجاشي ملك الحبشة على المهاجرين المسلمين لبلده هربا من اضطهاد قريش بالكذب والافتراء بأن المسلمين يبغضون عيسى عليه السلام –كما هو الحال اليوم من قيام إخوان كفار قريش بالكذب والافتراء على الإسلام أنه دين كراهية وإرهاب- بين له جعفر الطيار، رضي الله عنه عقيدة الإسلام تجاه نبي الله عيسى عليه السلام وحقيقة دين الإسلام الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام بكل ثقة ووضوح وعقلانية وقرأ عليه آيات من سورة مريم، لم يجد النجاشي معها إلا أن يقول: "إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة".
وفي الجابية حين جاء الفاروق رضي الله عنه ليتسلم مفاتيح بيت المقدس حاوره رئيس النصارى الجاثليق في قضية القضاء والقدر، والتي تعد من المسائل الدقيقة فقام الفاروق ببيان عقيدة الإسلام في القضاء والقدر وأن الله عز وجل يعلم الأشياء كلها وخلق الأشياء كلها وأنه مكّن الناس من اختيار وعمل الخير أو الشر وأنه سيحاسب الناس على أعمالهم وليس على علمه بهم، حتى قال الراوي للقصة: "فتفرق الناس ولا يختلفون في القدر"، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم مدركين ومستوعبين لحقيقة الإسلام، ولذلك جعلهم الله عز وجل معيار فهم الإسلام عند الاختلاف والتنازع الذي حدث لاحقاً.
وهذا ربعي بن عامر يقابل رستم، قائد الفرس، فيحاوره ويفحمه بحقيقة الإسلام وقوة منطقه وأنه البلسم للبشرية المعذبة.
وأما على صعيد إدارة الدولة وقيام الحضارة فقد قدم الصحابة أروع الأمثلة على ذلك، فبداية قاد الخليفة الأول الصديق، رضي الله عنه، عملية مؤسسية كبرى على أعلى مستوى علمي لا تزال مضرب المثل لليوم لحماية وحفظ النص الإلهي (القرآن الكريم) والذي هو أساس النور والفلاح للبشرية، وهذه العملية التي عرفت بعملية جمع القرآن الكريم، في مصحف جامع مما كتب متفرقاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي العملية التي جنبت الأمة المسلمة مصير غيرها من الأمم التي تشققت وتنازعت إذ دونت كتابها بعد عدة قرون وبطريقة غير علمية جعلت من المستحيل معرفة النص الأصلي.
وقد حفظت هذه العملية كيان الدولة المسلمة ونهضتها ودستورها، ومهدت لعملية جمع السنة لاحقاً على أسس علمية موضوعية تتفوق فيها على كل الأمم بمعرفة رجالها ومعرفة درجة إتقانهم وحفظهم ومعرفة مَن عاصر مَن، ولذلك يمكن للمسلمين تمييز رواياتهم من ناحية السند والرواة، ومن ناحية المتن والمضمون والذي وضعت له معايير دقيقة لفحصه والتأكد منه.
ولأن الصحابة فهموا أن الإسلام رسالة للبشرية ولا بد له من دولة تقوم به كان أول عمل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم هو اختيار خليفة وقائد جديد للمسلمين، فكان الصديق بعد تشاور المهاجرين والأنصار، وبعد ذلك بدأت رحلة بناء مؤسسات الدولة ولوازمها، فتم وضع تأريخ للمسلمين يضبط حركتهم ومناسباتهم ومراسلاتهم وأحداثهم.
ومع توسع الدولة وعمارة الصحابة للأرض ظهرت إبداعات الصحابة في إدارة الحياة والناس بما يحقق قيم العدالة والرحمة والإنسانية، حيث أقاموا مدناً جديدة كالبصرة والكوفة في العراق والفسطاط بمصر، وإعادة بناء جبلة بالشام وفق مخططات هندسية تحدد الشوارع الكبيرة والمتوسطة والأزقة وعدد البيوت في الشارع وارتفاع البناء وعدد الغرف.
وعلى صعيد التعليمات والأنظمة نجد الفاروق عمر يعفي الابن الوحيد لوالديه من التجنيد الإلزامي، ونجده يتبنى سياسة الباب المفتوح بين المسؤول والناس.
وعلى صعيد الإدارة المالية يصدر الفاروق أمرا بحصر ممتلكات الولاة قبل الولاية حتى تقارن مع نهاية مدته، ونجده يمنع الولاة من العمل بالتجارة حتى لا يحصلوا على امتيازات إضافية، بل منع الفاروق أن يصل الولاة للمدينة النبوية بالليل، وذلك حتى يدخلوا المدينة بالنهار ويرى كل الناس ما أحضروا معهم من أموال ولا يتسرب شيء منه.
ومن اجتهادات الفاروق العامة المبدعة منعه تقسيم الأرض المفتوحة في العراق والشام ومصر، وتركها بأيدي أهلها على أن يدفعوا خراجها لبيت المال وبذلك يستفيد كل المسلمين الفاتحين ومن يأتي عقبهم من خراجها في رؤية استشرافية استراتيجية. وللمزيد من معرفة ذلك أنصح بمطالعة كتاب (النظام الإداري في عهد عمر بن الخطاب) للدكتور فاروق مجدلاوي.
وأقيم الديوان، والذي يسجل فيه أسماء المواطنين مسلمين وغير مسلمين، ليحفظ لهم حقوقهم، وقصة الفاروق عمر رضي الله عنه في صرف إعانة لمسنّ يهودي مثال على ذلك، فرغم أنها دولة الخلافة الراشدة ورغم أنه بيت مال المسلمين، إلا أن رحمة الإسلام وعدله جعلاها لا تظلم مواطناً، ولو كان على غير ملة الإسلام.
وفي قصة الديوان بُعد آخر وهو عدم تعنت المسلمين في الاستفادة من معطيات الحضارة غير الإسلامية فيما ينفع ولا يتعارض مع عقيدة التوحيد، وقد تعلّم الصحابة ذلك من الرسول صلى الله عليه وسلم حين قبل فكرة حفر الخندق بمشورة سلمان الفارسي، واتخذ خاتما لختم الرسائل للملوك، ولكنه صلى الله عليه وسلم رفض ممارسات الآخرين التي تتعارض مع عقيدة التوحيد ومثال ذلك رفضه صلى الله عليه وسلم اتخاذ شجرة توضع عليها الأسلحة للبركة كما يفعل كفار قريش، وهو السلوك الذي ينتشر اليوم بين جهلة المسلمين باتخاذ بعض الأشجار والقبول بأماكن لجلب البركة وهو ما اعتبره النبي صلى الله عليه وسلم شركاً ومنكراً بقوله: "سبحان الله، هذا كما قال قوم موسى: {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة}. والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم". رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني.
وعلى صعيد العادات فقد تقبل النبي صلى الله عليه وسلم العادات الحميدة القديمة كالسقاية والرفادة للحجيج، والكرم والشجاعة وصيانة الأنساب، لكنه رفض العادات السيئة كالطعن في الأنساب أو التفاخر الباطل بالأنساب على حساب الإيمان والتقوى، وقبل النبي صلى الله وسلم الحزن عند موت الأحباب لكنه رفض النواح والعويل وشق الثياب، هكذا كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم رفض القيم الجاهلية وقبول القيم والعادات الصحيحة والتي هي من بقايا الرسالات السابقة.
فتعلم الصحابة رضوان الله عليهم تقبل الأدوات والآليات القديمة والجديدة التي لا تتعارض مع الإسلام، والاعتصام بالقرآن والسنة في العقائد والمفاهيم والتصورات والعبادات والأخلاق، وهذا هو جوهر الصراع بين الإسلام الذي فهمه الصحابة الكرام والحداثة، فالإسلام لا يرفض المدنية وهي الوسائل والأدوات ولكنه يرفض الثقافة والأيديولوجيا التي يراد تمريرها مع الأدوات! فالإسلام لا يمانع من الأكل بالملعقة والشوكة والسكين، لكنه يرفض أن يكون ذلك باليد اليسرى، ويأمر أن يكون الأكل بأي وسيلة باليد اليمني، هذا الصراع، قد يقول قائل: هذه شكليات وقشور، فنقول له: جميلٌ، تنازلوا عنها يا دعاة الحداثة إذًا وانتقلوا للمهم واللباب، لكنهم يرفضون ويتعنتون لأن المطلوب هو كما قال طه حسين: "علينا أن نسير سيرة الأوربيين، ونسلك طريقهم، لنكون لهم أنداداً، فنأخذ الحضارة خيرها وشرّها، وحُلوها ومُرّها، وما يُحَبُّ منها وما يُكرَه، وما يُحمَد منها، وما يُعاب"، قبل أن يتراجع طه حسين عن ذلك كما أثبت ذلك د. محمد عمارة في كتابه (طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام).
وفي النهاية؛ إن الصحابة الكرام نجحوا بجدارة في فهم الرسالة المحمدية وتطبيقها ونقلها للعالمين وإدارة الحياة بها وتحقيق نموذج الحضارة المنشودة، ولذلك خلّد الله عز وجل ذكرهم في القرآن الكريم وجعلهم معيار فهم الدين والقدوة التي يجب على البشرية الاقتداء بهم، فهم بشر مثلنا ليسوا برسل ولا أنبياء، ولكنهم فهموا حقيقة التوحيد وعملوا بمقتضى التوحيد فأسعدوا الدنيا، واليوم ونحن أحفاد الصحابة علينا السير على دربهم في فهم الدين وعمارة الأرض وإسعاد البشرية، وهذه هي رسالتنا ومهمتنا الحقيقية في الحياة، والفائز هو من سار في هذا السبيل بعلم وحكمة.
الصحابة الكرام معيار فهم الإسلام "فإن آمَنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا"
2016/12/01
الرابط المختصر
Image