إن كل المنجزات العظيمة التي قام بها الصحابة الكرام والتي ذكرنا طرف منها في مقالات سابقة لم تأت عفوية أو من غير قصد، أو أن ذلك كان صدفة لا يمكن تكررها، كلا إن ما قام به الصحابة الكرام هو نتاج منهج محدد وواضح ودقيق جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وقام بتعليمه وتربية أصحابه الكرام عليه.
وهذا التعليم والتربية والتدريب هو الهدف الأساسي من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، بل ومن بعثة كل الأنبياء، فالأنبياء صلوات الله عليهم جميعاً جاؤا من أجل تعليم الناس سبيل الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى مخاطباً أدم أبو البشر بقوله: " فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون" (البقرة 38)، وبين الله تعالى غاية بعثة الرسل فقال: " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز" ( الحديد 25)، فإقامة العدل هو في صلب مقاصد بعثة الرسل والأنبياء، ولقيام العدل لابد من قوة وسلطة فأنزل الله الحديد به يحمى العدل وتستعاد الحقوق وتعمر البلاد.
أما بخصوص مهمة النبي الخاتم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص فقد فصلت العديد من الآيات القرآنية مهمته ودوره، منها قوله تعالى: " لقد مَنَّ الله على المُؤمنينَ إذ بَعَثَ فيهم رسُولاً من أنفُسِهِم يَتلُوا عليهم آياتِهِ ويُزَكِّيهِم ويُعَلِّمُهُمُ الكتابَ والحِكمَةَ وإن كانوا مِن قَبلُ لفي ضَلالٍ مُبينٍ " (آل عمران 164)، فالآية تبين أن مهمة النبي هي: الإبلاغ (يتلوا)، والتزكية وهي صقل النفوس، وتعليمهم القرآن والسنة (الحكمة). وفي آية أخرى قال تعالى: " ياأيُّها النَّبيُّ إنَّا أرسلناك شاهداً ومُبشِّراً ونذيراً * وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً مُنيراً " (الأحزاب 45-46)، وهي تضيف مهام الشهادة والتبشير والإنذار والدعوة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المهام خير قيام، وقد شهد الله له بذلك في قوله تعالى: " اليوم اكملت لكم دينكم ورضيت لكم الإسلام ديناً" (المائدة 5)، ولا يمكن أن يكمل الدين إذا قصر النبي في أداء مهمته.
وشهد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه أدى الأمانة وبلغ الرسالة، ففي خطبة عرفة بحجة الوداع سأل النبي أصحابه في آخرها، فقال: " وأنتم تسألون عنى فما أنتم قائلون ؟ " قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.
فقال بأصبعه السبابة يرفعها الى السماء وينكتها إلى الناس: " اللهم إشهد" ثلاث مرات، (رواه مسلم).
وما قام به الصحابة الكرام من أكبر البراهين على نجاح النبي صلى الله عليه وسلم في مهمته، ومن أكبر البراهين على أن سعادة البشرية منوطة باتباع الوحي الإلهي، وكان هذا هو جوهر منهج الصحابة رضوان الله عليهم.
قام منهج الصحابة الذي تشربوه من النبي صلى الله عليه وسلم على الإنطلاق من هدايات الوحي الرباني في القرآن والسنة، لأن القرآن يهدى لأفضل الطرق والسبل في الدنيا والآخرة، كما يهدى لأفضل الأخلاق والفكار والعقائد " إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَم ُ" (الإسراء 9)، ولذلك فإن الصحابة حين التزموا بالقرآن هدوا لأفضل الطرق والسبل في الحياة فتحققت لهم السعادة والراحة والهناء ولمن سار على هديهم من التابعين ومن الذميين الذي دخلوا تحت حكمهم.
وكذلك قام منهج الصحابة على التمسك بالقرآن والسنة لأن الله عز وجل قال عن القرآن: " قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ" (فصلت 44)، وهذا ما لمسه الصحابة والبشر في زمانهم، فرغم كل المصاعب والتحديات التي كانت تعيشها البشرية أنذاك من ظلم واستعباد وفقر وضنك وضيق، إلا أنهم حين تمسكوا بالقرآن والسنة حصل الشفاء العجيب لقلوبهم وأرواحهم وأجسامهم ودوابهم ولمن حولهم ممن دخل تحت ذمة المسلمين، فرفع الظلم والإستكبار وعم العدل والرحمة، وزال الخوف والفقر وعم الخصب والأمن، فصلحت أحوالهم وتنعمت أبدانهم بالخصب والخير، وانتشر العلم والأدب وكثرت الصدقات والأوقاف، وقارن هذا بحالنا اليوم حين أظلمت الدنيا بسبب جريمة الربا فتهاوت عروش كثير من البنوك والدول ولم يجدوا حلاً سوى دواء القرآن بتحريم الربا، وقد نادى بهذا بعض القساوسة ورؤساء البنوك المركزية في أوروبا، ففتحت كثير من البنوك الربوية الغربية نوافذ إسلامية !!
واليوم والعالم يعانى من أمراض فتاكة رهيبة كالإيدز وأشقائه، أو التفكك الأسري، أو الإدمان على الخمر والمخدرات، فإن بلاد المسلمين تعد من أقل المناطق تأثر بهذه الأمراض بسبب التمسك بأوامر الله عز وجل من قبل الغالبية من المسلمين، وليس بسبب رعاية طبية مميزة، أو أنهم يملكون أدوية سرية لعلاج الإيدز، كما أن سلامتهم من الأمراض الإجتماعية ليست بسبب برامج توعية نموذجية في العلاقات الأسرية تشرف عليها مؤسسات مجتمع مدنى، أو بسبب قوانين وتعليمات عصرية، بل هذا كله بسبب كون القرآن الكريم شفاء وهداية للمسلمين أفراداً ومجتمعات.
وتمسك الصحابة بالقرآن منهجاً لهم لأن القرآن فيه كل ما يحتاجه البشر، قال تعالى: " وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً" (النحل 89)، وهذا التبيان إما أن يكون مباشراً منصوصاً عليه، أو تتضمنه الآيات والأحاديث فيتوصل له بالقياس والإجتهاد، ومن تأمل أحوال الصحابة والمراحل التي مروا بها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، من مرحلة تأسيس دولتهم في المدينة، ثم مرحلة الدفاع عن هذه الدولة أمام حركة المرتدين العرب، ثم استكمال مسيرة الفتوحات في الجزيرة العربية ثم في الشام والعراق، والصراع مع القوى الدولية انذاك فارس والروم، وما رافق ذلك كله من اتساع دائرة المسؤوليات السياسية والإدارية والتعليمية والدعوية، فتم تجاوز كل هذه الصعاب على هدي الوحي القرآن والسنة، وقدموا نموذجاً تفوق على كل ما سبقه ولحقه من نماذج سياسية وإدارية واقتصادية ودعوية، في برهان ساطع على احتواء الوحي الربانى أصول الإصلاح الصحيحة التي تسعد وترقى بها البشرية على مر العصور.
ولذلك حين كانت تعترضهم المشكلات كانوا يبحثون عن حلها في ضوء آيات القرآن والسنة،
كما حدث مع عمر ابن الخطاب حين فتحت فارس فقبل الجزية من المجوس بعد أن " شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر" ( رواه البخاري)، وحين وقع الطاعون بالشام فقد شاور الفاروق أصحابه ماذا يصنعون، فلما أخبره عبد الرحمن بن عوف بقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه" (متفق عليه)، وهو ما أصبح اليوم من بدهيات الوقاية الصحية في حالات الوباء.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل كان الصحابة يحوزون على ملكات الإجتهاد في فهم الآيات والأحاديث وسعة ما تتضمنه من المعانى والأحكام، كما في القصة الصحيحة المشهورة في موطأ الإمام مالك حين استنبط علي رضي الله عنه أن أقل مدة الحمل هي ستة شهور من قوله تعالى: " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " (الأحقاف 15)، ومن أراد التوسع في معرفة دقة فقه الصحابة وسعة اجتهادهم فعليه بكتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين" للإمام ابن قيم الجوزية.
الصحابة تعلموا المنهج في مدرسة النبوة
2014/06/01
الرابط المختصر
Image