العبادة قوام الحياة: الصيام مثالاً

الرابط المختصر
Image
العبادة قوام الحياة: الصيام مثالاً

إدراك أبعاد العلاقة بين العبادة والحياة هو مفتاح السعادة الدنيوية والأخروية في العقيدة الإسلامية، فالقرآن الكريم يعلن وبكل وضوح حقيقتين هامتين هما:
أن جميع الكون مسخر للإنسان، قال تعالى: " أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ" (لقمان 20). فجميع ما في السماوات والأرض هيئه الله عزوجل لخدمة الإنسان، ولعل هذه الحقيقة لم تظهر بوضوح كبير في زمن قبل زماننا هذا، فالإكتشافات المتتالية عبر العصور لسنن الله في الكون وعجائب خلقه، وما تلاها من الإختراعات المتسارعة بالإعتماد على سنن الله عز وجل والمحاكاة لعظيم خلق الله في الكائنات مكنت البشرية من تطوير أدواتها وأساليبها في عبور المرحلة الأرضية من حياتها، كما أن ساعدتنا تسهيل شؤون معيشتنا في سيرنا إلى اليوم الآخر. ورغم أن الإنسان ليس هو المخلوق الأقوى أو الأكبر أو الأسرع أو الأكثر إلا أنه هو وحده من تمكن من تسيير بقية الكائنات وفق رغباته، وإن كانت بعض هذه الرغبات أنتجت الكثير من الكوارث كما في حالة ثقب طبقة الأوزون!!
أن الإنسان الذي سخرت له الأشياء كلها في السماوات والأرض خلق لغاية وحيدة هي عبادة الله عز وجل، قال تعالى: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " الذاريات 56. ومهما بحثت البشرية عن غاية وهدف لوجودها سوى العبادة لله عزوجل فلن تحصل إلا على الشقاء والعناء، ومن تأمل في مسيرة البشرية وتاريخ الفلسفة فلن يجد إلا أسماء شامخة كأفلاطون وسقراط أو بوذا من القدماء، أو هيجل وماركس ودوركايم من بعدهم ولكنهم جميعاً متناقضون متعارضون متصارعون لا يتفقون على هدف أو غاية، ولا تزال الفلاسفة تبحث عن الطريق لسعادة البشرية ولكن على جثث الضعفاء وجماجم الأبرياء بأموال البسطاء وسرقة جهود الأنقياء !!
و مفهوم العبادة في الإسلام والقرآن لا يقتصر على الشعائر والطقوس فحسب، بل هو يتسع ليشمل الحياة كلها، قال تعالى: "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" الإنعام 162. وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: أن " في بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر. فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر." رواه مسلم، فجعل متعة العلاقة الزوجية باب من أبواب الأجر والثواب، ولذلك عرف شيخ الإسلام ابن تيمية العبادة بقوله: " هي إسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة".
 
والعبادة لما كانت تشمل سائر جوانب الحياة كانت تحتوى أيضاً كافة حاجيات الإنسان الروحية والبدنية، وهذا باب واسع تكلم فيه كثير من أهل العلم بما لايتسع المقال لبسطه هنا، لكن سنركز الحديث على عبادة الصيام وقد أصبحنا على مشارف شهر رمضان المبارك.
يقسم العلماء العبادات من حيث إلى عبادات قلبية كاليقين والتوكل، وعبادات لفظية كالتشهد والذكر وقراءة القرآن، وعبادات بدنية كالصلاة والصوم، وعبادات مالية كالزكاة والصدقة، وعبادات بدنية مالية كالحج.
والصلاة والصيام من حيث هما عبادات بدنية فإن فيهما منافع روحية للمسلم من جهة ومن جهة أخرى فإن فيهما منافح ومصالح بدنية وصحية للمسلم، وهذا من عظمة وإعجاز التشريع الإلهي.
فإن البشرية لم تعرض فوائد الصوم الصحية لجسد الإنسان إلا من سنوات معدودة رغم أنها أمرت به ومارسته من من أزمان سحيقة، قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تتقون" البقرة 183 ويقول تعالي: " وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون" البقرة 184 .
وقد ثبت اليوم عند العلماء حاجة الإنسان لفترة صيام وتخفيف من الطعام والشراب وأن هذا يعمل على وقاية الجسم من كثير من العلل ويساعد على الشفاء من كثير من الأسقام، وهذا يحصل عليه المسلم بعبادته لله عزوجل، فبالإضافة للتقوي التي يمتلء بها قلب الصائم يحصل أيضاً على وقاية صحية لجسده تعينه على شؤون حياته ودوام طاعته.
ويمكن تلخيص فوائد الصوم الطبية والصحية في النقاط التالية:
الصيام للجسم كالنوم، فكما أن الجسم لا بد أن يحصل على قسط من النوم والراحة، فكذلك يجب أن يحصل على قسط من الراحة بعدم الأكل مما يساعده على التخلص من بعض الشوائب والزوائد عبر عملية الهدم، ويجدد حيويته.
يحمى من داء السكرى عبر خفض السكر في الدم، ومنح البنكرياس فرصة للراحة لمواصلة نشاطه بقية العام، وبعض الأطباء يعالج السكرى بالصوم!!
يساعد في علاج أمراض الجلد، من خلال خفض نسبة الماء في الجلد مما يزيد مناعة الجلد ومقاومة الميكروبات والأمراض المعدية الجرثومية.
الشخص الذي لا يشكو من حصيات كلوية فإن الصوم يعطي الكليتين استراحة مؤقتة للتخلص من الفضلات، قدر الامكان. ونقص السوائل يؤدي بدوره لنقص خفيف بضغط الدم يحتمله الشخص العادي ويستفيد منه من يشكو ارتفاع الضغط الدموي .
أثبتت دراسات عديدة انخفاض مستوى الكولسترول في الدم أثناء الصيام وانخفاض نسبة ترسبه على جدران الشرايين الدموية، وهذا بدوره يقلل من الجلطات القلبية والدماغية ويجنب ارتفاع الضغط الدموي. ونقص شحوم الدم يساعد بدوره على التقليل من حصيات المرارة والطرق الصفراوية .
ومن أجل منافع وفوائد الصوم الكبيرة والكثيرة بدأ بعض الأطباء باعتماد ما يسمى بالصوم الطبي، وهو الإقتصار على شرب الماء لفترات متنوعة لكن تحت إشراف طبي، لكن الصوم الشرعي الذي يتم فيه الامتناع عن الطعام والشراب من الفجر إلى الغروب، لا يحتاج إلى إشراف طبي لأنه من عند الله عز وجل الذي خلق الإنسان وهو ادرى بمصلحته الدينية والدنيوية  " أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " الملك 14.
والصوم لا يمارسه الإنسان فحسب، لقد ثبت عند العلماء أن بعض الحيوانات تصوم أيضاً كالفقمة والسلاحف والسنجاب وغيرها.
وبهذا يتبين لنا أن العبادة في الإسلام ليست بهدف تحقيق الإشباع الروحي فحسب، بل تحقق العبادة في الإسلام كافة مصالح الإنسان كما في مثال الصوم:
فهي تحقق الإشباع الروحي بالتقوى، والسلامة البدنية بوقاية الجسم من مايؤذيه، والقوة الإجتماعية من خلال التكافل والتعاطف مع الضعفاء والفقراء.
وهكذا سائر العبادات تحتوى من الحكم والمصالح ما يحقق السعادة المطلقة للبشرية في كافة مجالاتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية و الصحية والبيئية وغيرها، وإن لم يدرك الإنسان أبعاد هذه الفوائد أحيانا، وبهذا تتجلى عظمة الرب وأنه أرحم الراحمين بعباده حين أرسل لهم الرسل وأنزل عليهم الكتب.
إن تحقيق العبادة لله عز وجل بشمولها هي الضمان الوحيد للحصول على النجاح والفلاح في الدنيا، لأنها بشعائرها توفر حاجات الروح الفردية، و تحفظ للفرد صحته وسلامته النفسية والبدنية بما تتضمنه الشعائر والطاعات من منافع متعددة، وتحقق العدالة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية من خلال العبادات المالية والأحكام الشرعية المتعلقة بهذه الأبواب.
هاتين الحقيقتين اللتين أعلن عنهما القرآن الكريم من تمسك بهما نجا وسعد في الدنيا والأخرة - ولو عانى من بعض المصاعب والمشاق –  ومن أعرض عنهما قد يصيب من متع الدنيا قليل أو كثير ولكن لابد من يكتشف عظم ضرر هذه المتع المحرمة كما في عاقبة متعة الزنا والشذوذ من مرض الإيدز، أو الإفلاس والمحق بسبب متعة قروض الربا، أو الهزيمة والذل بسبب الظلم والإعراض عن أمر الله عز وجل.