العلمانية في خدمة الخوارج وداعش

الرابط المختصر
Image
العلمانية في خدمة الخوارج وداعش

عبر التاريخ من أهم أسباب غلو وتطرف وتكفير الخوارج وداعش للمسلمين ومن ثم قتلهم وقتل الكثيرين ظلماً وعدواناً هو الجهل بالإسلام من جهة، والجرأة على استصدار الأحكام الشرعية دون بصيرة، والطعن والتمرد على العلماء الثقات الراسخين قديماً وحديثاً، ولذلك فإن أي معالجة للغلو والتطرف المعاصر لا تراعي خاصية الجهل بالشرع والواقع عند هؤلاء الشباب وهذه الجماعات، واندفاعهم بالفتوى بدون علم أو مع عدم الإحاطة بكافة جوانب الموضوع، وتمردهم وطعنهم وعداءهم لأهل العلم الشرعي، هي معالجة فاشلة لن يكتب لها النجاح في مقاومة هذه الظاهرة السيئة والمتكررة عبر الزمن. وجهل الخوارج ظهر منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم، حين اتهم ذو الخويصرة حرقوص التميمي النبي صلى الله عليه وسلم بعدم العدل في قسمة الغنائم، وهذا يدل على مقدار جهله بعدل النبي صلى الله عليه وسلم وتقواه لربه وحسن خلقه الذي يمنعه عن الظلم، ويدل على قلة احترامهم للعلماء ووقاحتهم في التعامل معهم، ولذلك تجرأ هذا الأعرابي الجاهل على سيد العلماء والأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، ثم تجرأ أتباعه على قتل الخليفة الراشد الثالث عثمان ذي النورين والخليفة الراشد الرابع أبي تراب علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. ومن نماذج جهل الخوارج ما سطرته الكتب من مناظرة حبر الإسلام عبد الله بن عباس للخوارج، قال ابن عباس رضِي الله عنه: "لَمَّا خرجت الحَرُوريَّة، اعتزلوا في دارٍ على حدتهم، وكانوا ستَّة آلاف، فقلت لعلي: يا أمير المؤمنين، أبرِد بالصلاة (أي أخر إقامتها)، لعلِّي أكلِّم هؤلاء القوم. قال: إني أخافهم عليك. قلت: كلاَّ إن شاء الله، فلَبِستُ أحسنَ ما يكون من حُلَل اليمن، وترجَّلتُ، ودخلت عليهم في دارٍ نصف النهار وهم يأكُلون (هكذا في مُعظَم الروايات، وفيه رواية: وهم قائلون) في نحر الظهيرة. فقالوا: مرحبًا بك يا ابن عباس، فما هذه الحُلَّة؟ قلت: ما تَعِيبون عليَّ؟ لقد رأيت على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أحسنَ ما يكون من الحُلَل، ونزلت: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾ [الأعراف: 32]. قالوا: فما جاء بك؟ قلت لهم: أتيتُكم من عند أصحاب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم المهاجرين والأنصار، ومن عند ابن عمِّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وصهره، وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأوِيله منكم، وليس فيكم منهم أحدٌ؛ لأبلغكم ما يقولون، وأبلغهم ما تقولون. فقال بعضهم: لا تُخاصِموا قريشًا؛ فإن الله يقول: ﴿ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ﴾ [الزخرف: 58]. قال ابن عباس: وما أتيت قومًا قطُّ أشد اجتهادًا منهم، مُسهِمة وجوههم من السهر، كأن أيديهم وركبهم تثنى عليهم، فمضى مَن حضر. فقال بعضهم: لنُكَلِّمنَّه ولننظرنَّ ما يقول. قلت: هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وابن عمِّه. قالوا: ثلاث. قلت: ما هنّ؟ قال: أمَّا إحداهن، فإنه حكَّم الرجال في أمر الله، وقال الله: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ ﴾ [الأنعام: 57]، ما شأن الرجال والحكم؟ قلت: هذه واحدة. قالوا: وأمَّا الثانية، فإنه قاتَل ولم يَسْبِ ولم يغنم، إن كانوا كفَّارًا لقد حلَّ سبيهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حلَّ سبيهم ولا قتالهم. قلت: هذه ثِنتان، فما الثالثة؟ قالوا: ومَحَا نفسَه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أميرَ المؤمنين فهو أمير الكافرين! قلت: هل عندكم شيء غير هذا؟ قالوا: حسبنا هذا. قلت لهم: أرأيتكم إن قرأت عليكم من كتاب الله جلَّ ثناؤه وسنَّة نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم ما يردُّ قولكم، أترجعون؟ قالوا: نعم. قلت: أمَّا قولكم: حكَّم الرجال في أمر الله، فإني أقرأ عليكم في كتاب الله أن قد صيَّر حكمه إلى الرجال في ثمن ربع درهم؛ فأمر الله تبارك وتعالى أن يحكموا فيه، أرأيت قول الله تبارك وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾ [المائدة: 95]. وكان من حُكْمِ الله أنَّه صيَّره إلى الرجال يَحكُمون فيه، ولو شاء حكَم فيه، فجاز من حكم الرجال، أنشدكم بالله: أحكم الرجال في صَلاح ذات البين وحقن دمائهم أفضل، أو في أرنب؟ قالوا: بلى؛ بل هذا أفضل. وقال في المرأة وزوجها: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 35]، فنشدتكم بالله حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بضع امرأة؟ قالوا: اللهم بل في حقن دمائهم وإصلاح ذات بينهم. خرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم. قلت: وأمَّا قولكم: قاتَل ولم يَسْبِ ولم يَغْنَم، أفتَسْبُون أمَّكم عائشة؟! تستحِلُّون منها ما تستَحِلُّون من غيرها وهي أمُّكم؟ فإن قلتم: إنَّا نستَحِلُّ منها ما نستَحِلُّ من غيرها فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمِّنا فقد كفرتم؛ ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ [الأحزاب: 6]. فأنتم بين ضلالتين فأتوا منها بمخرج؟ فنظر بعضهم إلى بعض. أفخرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم. وأمَّا قولكم: محا نفسَه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بما ترضون، قد سمعتم أن نبي الله صلَّى الله عليه وسلَّم يوم الحديبية صالَح المشركين، فقال لعلي: (اكتب يا علي: هذا ما صالَح عليه محمد رسول الله)، قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتَلناك، فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (امحُ يا علي، اللهمَّ إنك تعلم أني رسول الله، امحُ يا علي، واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله)، فوالله لَرَسُولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم خيرٌ من علي، وما أخرَجَه من النبوَّة حين محا نفسه، أخرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم. فرجع منهم ألفان، وخرج سائِرُهم فقُتِلُوا على ضلالتهم، قتَلَهم المهاجرون والأنصار". (أخرجه النسائي في "الكبرى"، والبيهقي في "الكبرى"، وعبدالرزاق في "مصنفه"، والطبراني في "الكبير"، والحاكم في "المستدرك" وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرّجاه، ووافَقَه الذهبي، وصحَّحه الهيثمي في "مجمع الزوائد"). في هذا الحوار بيان واضح لجهل الخوارج بالفهم الصحيح للقرآن الكريم والسنة النبوية برغم أنهم عرب فصحاء! وهم قريبون من عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ليس بينهم وبينه إلا حوالي 30 سنة، لكنهم ضلوا في فهم الدين أولاً ثم كفّروا المسلمين ثانياً، ثم قاتلوا وقتلوا المسلمين عدواناً وبغياً!! وذلك كله لعدم فهمهم الصحيح للدين ولخلوهم من العلماء. ولم يتخلص وينجُ منهم ألفا شخص إلا ببيان وتوضيح ابن عباس رضي الله عنه، حبر القرآن وعالم من كبار علماء المسلمين للخوارج ما التبس عليهم وما جهلوه من أحكام القرآن والسنة. واليوم بسبب الجهل بالإسلام يقوم الشباب المتحمس في داعش وأخواتها (النصرة والقاعدة وغيرها) بتكرار أخطاء الخوارج السابقين الذين كشف عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن مكمن الخطأ في فكرهم سابقاً ولاحقاً، فيما حفظه لنا تلميذه نافع لما سئل: كيف رأي ابن عمر في الحرورية؟ قال: يراهم شرار خلق الله، إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين. وهذا عين ما يفعله منظرو الغلو والتطرف اليوم، يطبقون الآيات التي نزلت بخصوص الكفار على المسلمين، حيث يتبنون أولوية قتال المسلمين على الكفار باعتبارهم مرتدّين، ويستدلون لذلك بقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة" (التوبة: 123)، ولذلك خاض هؤلاء الغلاة معارك وحشية وتفجيرات دموية ضد المسلمين في عدد من البلاد الإسلامية دون سبب سوى أنهم يعتبرونهم مرتدين! فهذا هو جهل الخوارج وهذه نتائجه قديماً وحديثاً، ولا حلّ للغلاة والمتطرفين إلا بنشر العلم الشرعي الصحيح، وتفعيل دور العلماء في نشر العلم وكشف الشبهات، وبذلك نحصّن شبابنا منهم ونحاصر من استفحل شره وخطره. وفي هذه الظروف الحرجة تخرج علينا أصوات علمانية هنا وهناك، منها إسلام البحيري على الفضائيات المصرية يحارب العلماء ويطعن في رموز الأمة كالإمام البخاري وصحيحه، ولن يستفيد من ذلك إلا فكر الغلو والتطرف حيث سيكون المناخ -مع خلو الساحة من العلماء والعلم الشرعي- مناسباً لانتشار فكر التكفير والتفجير رداً على أمثال هذه الترّهات. ومن تلك الأصوات العلمانية مقال صديقي القديم المشاكس نارت قاقون الأسبوع الماضي في جريدة الغد، والذي زعم فيه عدم الحاجة للعلم الشرعي، وأن الجميع يمكنه فهم الدين مباشرة من القرآن والسنة! وأن الناس يمكنهم فهم الدين بدون حاجة للعلماء، وأن العلماء اتخذوا العلم سبباً لنيل الدنيا والمال والجاه. وتعالوا لنتأمل نتيجة هذه الوصفة: الحطّ من شأن العلم الشرعي وازدراء العلماء، وهو عين ما يفعله الدواعش في كتبهم وخطبهم اليوم، ثم كيف سنحمي شبابنا من الانحراف في فهم الدين كما حدث للخوارج الأولين وهم أفصح منا لغة وأقرب لعهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ أليس هذا هو حث للشباب على انتهاج العنف من خلال هدم الثقة بالعلماء الصادقين، وترك المجال للأصوات العالية من دعاة الغلو والتطرف والتي تقدم خطاباً مدغدغاً للعواطف في هذه المرحلة المليئة بالمحبطات! وماذا نصنع اليوم مع شبابنا الذين تورطوا بقبول الأفكار المتطرفة؟ هل نعالجه بتدريس الرقص والفلسفة كما ينادي البعض من العلمانيين! إذا كان الحل كذلك، فماذا عن عشرات الألوف من الدواعش القادمين من أوروبا وهم يتقنون الرقص وتعلموا الفلسفة في مدارس الغرب وجامعاته، لماذا لم ينتفعوا بذلك؟ إن نتائج هذه الوصفات العلمانية لا أجد لها مثالاً إلا بكونها كالسماد المركز من النوع الممتاز لتحسين بيئة ومناخ تمدد داعش وأخواتها من جماعات الغلو والتطرف، عبر هدم شرعية العلم الشرعي وهيبة ودور العلماء المصلحين، الذين هم خط الدفاع الأول والأقوى عن سلامة الأمة في وجه موجة التطرف، كما فعل ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما، وأن العلاج السليم للتطرف والغلو هو باتباع العلماء الصادقين ونشر العلم السليم بين الناس، وكف أيدى السفهاء من دعاة الغلو والتمييع عن الفتوى بغير علم في الدين. فهل يَعقل هؤلاء العلمانيون خطأ مسارهم وخطورة وصفاتهم القاتلة على سلامة الأمة، والتي يصدق عليها المثل القديم: أراد أن يطبب زكاماً فأحدث جذاماً!!