مع اختلاط المفاهيم وتعدد الرؤى الوضعية وتحرف الوحي الرباني في الرسالات السابقة غابت عن غالبية البشر، بل وكثير من المسلمين، الحقيقة المطلقة والمفاهيم السليمة تحت وطأة قصف العقول بالزيف الإعلامي المتنوع.
ومن المفاهيم المركزية في الإسلام -والذي هو دين البشرية جمعاء في الأصل "إن الدين عند الله الإسلام"- مفهوم غاية الحياة، وينبثق منه مفهوم العيد، فغاية الحياة في الإسلام "وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون" (الذاريات: ٥٦) ومن تحقيق غاية العبادة لله عز وجل ينبثق مفهوم العيد والفرح بعبادة الله جل وعلا وطاعته "قل بِفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون" (يونس: ٥٨)، فالفرح الحقيقي هو بفضل الله ورحمته وهو القرآن الكريم والإسلام والإيمان، فهي خيرٌ مما يجمعه الإنسان من مال أو جاه.
ولذلك شُرع للمسلمين عيدا الفطر والأضحى والمرتبطان بركنين عظيمين من أركان الإسلام هما الصوم والحج، ولذلك كان أداءُ هذين الركنين العظيمين السنويين عيدًا وفرحة كبرى للمؤمن والمؤمنة، وبسبب أداء هاتين الشعيرتين العظيمتين فإن الله عز وجل يتفضل على عباده المتقين بعتقهم من النار في شهر رمضان ويوم عرفة، وهذا العتق من النار لوحده يكفي أن يكون سببا لربط العيد بهاتين الشعيرتين، ويلحق بهذا أن عيدنا الأسبوعي هو يوم الجمعة والذي شرعت فيه صلاة عظيمة هي صلاة الجمعة.
هذا هو المفهوم الحقيقي للحياة والعيد والفرح، وهو البقاء في دائرة العبادة وطاعة الله عز وجل، ولذلك في العيد يوم الفرح والمرح لا تتوقف العبادة أبدا، بل نستقبل العيد بالتكبير والتهليل، ونبدأ العيد بصلاة العيد، ونقدم زكاة الفطر قبلها والأضحية بعدها للفقراء والمساكين، ونواصل التكبير والتهليل في أيام العيد.
لكن للأسف أن هذا المفهوم الشرعي والصحيح للعيد تعرض للتشويه ببعض البدع والخرافات كتخصيص يوم العيد بزيارة القبور، رغم أنه يوم فرح في الأصل الشرعي! أو تنطع البعض بالدعوة لإحياء ليلة العيد بالقيام والصلاة، وهذا مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
كما تعرض مفهوم العيد للتحريف والتشويه بنزع سببه الشرعي وهو الفرح بالطاعة والعبادة وتحويله لمناسبة مادية صرفة، فلا يسيطر على ذهن كثير من الناس إلا التزاحم في الأسواق لتوفير الملابس والطعام والشراب! فضلا عمّا يقع في العيد من منكرات كالتبرج والاختلاط وتضييع الصلوات والتكبيرات وقضاء الأوقات في اللهو والباطل.
وما أجمل كلام الأديب الراحل مصطفى صادق الرافعي في كتابه وحي القلم: "كان العيد في الإسلام هو عيد الفكرة العابدة، فأصبح عيد الفكرة العابثة، وكانت عبادة الفكرة جمعها الأمة في إرادة واحدة على حقيقة عملية، فأصبح عبث الفكرة جمعها الأمة على تقليد بغير حقيقة، له مظهر المنفعة وليس له معناها. كان العيد إثبات الأمة وجودها الروحاني في أجمل معانيه، فأصبح إثبات الأمة وجودها الحيواني في أكثر معانيه، وكان يوم استرواح من جدِّها، فعاد يوم استراحة الضعف من ذُلِّه، وكان يوم المبدأ، فرجع يوم المادة"!
هذه حقيقة العيد في الإسلام وأنه فرح بتحقيق غاية الحياة بطاعة الله عز وجل، وقد رأينا اليوم في زمن الكورونا كيف أن طاعة الله عز وجل في الأكل والشرب والطهارة والتكافل هي الوقاية للناس، كما أن اتباع أمره سبحانه وتعالى بالبعد عن الربا والزنا والشذوذ هو الكفيل بالنجاة من الكوارث والأمراض والأوبئة وأن التزام عقيدة التوحيد هي النجاة من أمراض العصر كالقلق والاكتئاب والانتحار.
ومن لم يلتزم بالمفاهيم الحقيقية التي أوجدها الله عز وجل في كونه وبيّنها في كتابه وسنة نبيّه فإن التخبط والقلق والغربة ستكون رفيقا دائما له "ومَن أعرض عن ذِكري فإن له معيشة ضنكا" (طه: ١٢٤).