الغلو والتطرف يعالَجان بالعلم أولاً والحزم ثانياً!

الرابط المختصر
Image
الغلو والتطرف يعالَجان بالعلم أولاً والحزم ثانياً!

الغلو والتطرف مشكلة عالمية تعاني منها سائر الأمم والثقافات، وفي عصرنا الحاضر عَرفت أمة الإسلام ظاهرة العنف والتطرف من قبل تيارين متباينين، تيار غير الملتزمين دينياً كالجماعات الثورية الماركسية والجماعات السياسية والوطنية التي ملأت المشهد السياسي قبل عقود قريبة، ومارست كل الجرائم الإرهابية في دول عربية كثيرة من الاغتيالات والتفجيرات والانقلابات وخطف الطائرات وغيرها من الجرائم الإرهابية، ولذلك فإن كثيراً من الوعظ البارد من هذه الجماعات ورموزها بخصوص محاربة الإرهاب والتطرف لا قيمة له.
ثم تسلّم الراية منها التيار الديني، فظهر تيار التطرف والإرهاب الشيعي الذي تصاعد غلوّه وإرهابه مع نجاح نظام الخميني في الهيمنة على الحكم في إيران نهاية سبعينيات القرن الماضي، فقام بالتفجير والاغتيالات والفوضى والانقلابات وخطف الطائرات في عدد من البلاد العربية، ثم حدثت حالة كمون لهذا التيار الشيعي المتطرف، لكنه عاد للنشاط بفعالية كبيرة في السنوات الأخيرة، لكن مع مزيد من الخبث، فقد تجنب ممارسة الإرهاب بشكل مباشر ضد المصالح الغربية والدولية وركز جرائمه الإرهابية ضد الشعوب المسلمة، والسنية تحديداً، ولذلك لم تجد استنكارا ورفضا عالميين، بل كلما أمعن في الغلو والتطرف والإرهاب تحسنت وضعيته في اللعبة السياسية الدولية، ولعل مفاوضات جنيف السورية والكويت اليمنية شاهد ودليل على ذلك!
وجاء بعده تيار الغلو والتطرف والإرهاب السني، الذي حظي برعاية ودعم من نظام الخميني الشيعي منذ اغتيال الرئيس السادات سنة 1981، ولا يزال نظام خامنئي في طهران يدعم ويستغل تيار التطرف والإرهاب السني لتحقيق مصالحه، وقد أصبح اليوم معروفا عمقُ العلاقات الإيرانية مع غالب الجماعات المتطرفة السنية وأنها دُعمت بالمال والسلاح من قبل طهران، وأن كثيرا من هذه الجماعات قدمت لإيران خدمات جليلة، لا تقتصر على مهاجمة خصوم طهران وتحطيمهم، وتفريغ الساحة لقدوم النفوذ الإيراني عليها.
وإذا كانت بداية فكر التطرف والغلو والإرهاب في الوسط السني بظهور جماعة المسلمين (الهجرة والتكفير، شكري مصطفى) بسبب التعذيب والوحشية والكفر الصريح في سجون الناصرية بمصر، فقد ساعد على ذلك الجهل الشرعي عند معتنقيه، فقد أظهر هذا الغلو تحت التعذيب الشديد الشيخ الأزهري علي إسماعيل، لكنه سرعان ما تراجع عنه في السجن، بينما أصرّ على فكر التطرف والغلو شكري مصطفى، طالب كلية الزراعة وغير المؤهل شرعياً، وصغير السن أيضاً، فحين اعتقل سنة 1965م وتبنى هذا الفكر المتطرف كان لا يزال في سنته الثالثة في الجامعة!   
وساعد على رسوخ التطرف والغلو في جماعة شكري تساهل الدولة المصرية المتعمد مع هذه الجماعة لحسابات سياسية بحسب موسوعة العنف في الحركات الإسلامية المسلحة للمحامي مختار نوح، وأيضاً يشير نوح إلى أن القذافي تواصل مع شكري مصطفى عبر عبد المنعم عبد السلام الأردني وعرض عليهم دعمهم بالمال والسلاح للقيام بعمل ضد نظام السادات!
فهذه العناصر الأربعة: الظلم والتعذيب والكفر الصريح من السلطات، والجهل الشرعي عند المنتمين، وتلاعب الأجهزة الأمنية المحلية، وتلاعب الدول الأخرى، هي التي ولّدت ظاهرة العنف والتطرف والغلو المعاصر، ولا تزال هذه العناصر الأربعة تتفاعل مع هذه الظاهرة بصورة أكثر تركيزاً وتركيباً بصورة أو أخرى. 
وبقيت جماعات التطرف والعنف السنية تعمل في إطار محلى حتى بداية التسعينيات من القرن الماضي، حيث انتقل نشاطها من طابع محلى إلى طابع عالمي وتوج ذلك بإعلان ظهور تنظيم القاعدة عام 1998م من أفغانستان.
بعد هذا الاستعراض لجذور التطرف والغلو المعاصر في أمة الإسلام نأتي لقضية العلاج والتعامل السليم مع هذه المشكلة، والتي لم تُجْد معها الحلول الأمنية ولا الحلول العلمانية، لأنها مشكلة ذات جذر ديني شرعي، فإن لم يعالج هذا الجذر فسيظل يلتهب كل فترة.
للتعامل الصحيح مع مشكلة الغلو والتطرف بين الشباب يجب تذكّر أن الجهل بالإسلام وأحكامه الشرعية في التعامل مع الواقع المر هو أساس المشكلة، حيث بسبب هذا الفقر العلمي والضعف الثقافي لا يجد الشباب من طريقة للتعامل مع ضغط الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي من القوى العلمانية معارضةً وسلطةً في الداخل، والقوى الدولية من الخارج، إلا على طريقة أفلام الأكشن التي تمطرنا بها القنوات الفضائية صباح مساء!
إن معالجة مشكلة التطرف والغلو تكون بتجفيف منابعه عبر محاصرة الجهل الشرعي والثقافة الدينية المزورة، بضخ العلم الشرعي السليم والثقافة الإسلامية الصحيحة عبر قنوات التعليم والإعلام والمساجد والفضاء العام، نعم هذا هو الحل الأمثل.
من لا يدرك أن البشرية جمعاء تعود للدين – أيا كان- بعد عقود من المادية والعلمنة والإلحاد فهذا أعمى أو يتعامى، وَمن لا ينتبه للصحوة الدينية التي تعمّ العالم بسبب الشقاء والبأس الذي يعيشه الناس بسبب الفراغ الروحي وانعدام طمأنينة الإيمان فهذا ساذج.
لماذا يُقبِل آلاف الغربيين على الديانات الشرقية؟ ولماذا يسلِم عشرات الآلاف سنويا في الغرب عقب كل حملة كراهية وتشويه للإسلام هناك؟ لماذا تتزايد المظاهر الدينية لكل الأديان في العالم؟ الجواب لأن هناك رجوعا للدين في عصر العولمة والمادية المفرطة.
لذلك فكل برامج واستراتيجيات مكافحة التطرف التي تهمل تعميق الثقافة الإسلامية الصحيحة والسليمة بمعايير الإسلام ذاته وليس بمعايير مراكز الأبحاث الغربية كراند وكارنيجي وواشنطن، فهي برامج فاشلة ستنتج المزيد من الغلو والتطرف.
إن غالب تمدد التطرف في بلادنا يعتمد على العلاقات الشخصية مع متطرفين وغلاة، ولذلك من الملاحظ أن التطرف والغلو يتشكلان في علاقات قرابة أو صداقة أو جيرة، ومن هنا تأتي خطورة الفراغ الثقافي الإسلامي الصحيح عند المحيط بمن يتورط في مسار التطرف، فيصبح مؤثر ويستقطب محيطه، كحال كثير من العصابات الإجرامية التي تعتمد على الثقة الشخصية والصلة الوثيقة.
ومن هنا فإن مهاجمة مناهجنا المدرسية الدينية والمطالبة بحذفها أو جعلها (خالية من الدسم) من قبل غلاة العلمانية والتطرف هو صب للبنزين على النار، لأنه يساعد على سرعة تأثير المتطرف في محيطه! فهل سار الشباب في نهج الغلو والتطرف إلا لأنه يجهل الإسلام الصحيح؟ وهل تاب من تاب من الغلو والتطرف إلا عندما تعلم أن الغلو ليس من الإسلام؟
مشكلة الشباب المسلم اليوم أنه يخرج للدنيا بعد 12 سنة مدرسية غالبا لا يحسن قراءة القرآن الكريم، ولا يعرف كيف يتعرف على موقف القرآن الكريم من أي قضية سواء بواسطة الفهارس أو التفاسير الموضوعية، فمثلاً قضية الكفر والتعامل مع الكفار، لما يطرح الغلاة والمتطرفون على هذا الشاب المسكين بعض الآيات القرآنية التي تتعلق بحالة الحرب والقتال على أنها منهج ثابت للتعامل مع الكفار، فإن هذا الشاب المسكين يصدّق ذلك ويتقبله، ويصبح بذلك متطرفاً، وقد ينقلب إرهابيا، لأنه لا يعرف خطأ ذلك، ولا يملك أدوات للبحث والتفكير السليم في القضايا الشرعية!  
ويؤكد الدارسون لجماعات العنف أن الجهل الشرعي والفهم المنحرف للإسلام من قبل شباب غير مؤهل بالعلم الشرعي سبب رئيسي في تكون جماعات العنف والتطرف، ويلاحظ د. هاني نسيرة في رسالته الدكتوراه "متاهة الحاكمية أخطاء الجهاديين في فهم ابن تيمية" أن الجهاديين بسبب فهم كلام ابن تيمية عل غير وجهه الصحيح سلكوا مسار العنف، ولما فهموا كلام ابن تيمية على وجهه الصحيح تحولوا للاعتدال ونبذ العنف وتبنوا المراجعات، وأيضا داعش لم تستطع أن تبرر جريمتها بحرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة إلا بنص مبتور ومحرف لابن تيمية تقبله انصار التنظيم بسبب الجهل، بينما قام العلماء من كل التيارات ببيان تحريف داعش لكلام ابن تيمية.  
فعبر تاريخ الإسلام لم ينجح علاج مع الغلاة إلا بنشر العلم، ولنا في مناظرات ومحاورات الصحابة الكرام رضوان الله عليهم مع الخوارج عبرة وعظة كمحاورات الخليفة الرابع علي بن أبي طالب وحبر القرآن عبد الله بن عباس، ومن بعدهم محاورة الخليفة الأموي الراشد عمر بن عبد العزيز، فقد استنقذت آلاف الخوارج من التطرف والإرهاب.
فمزيداً من دعم العلم الشرعي الصحيح وبثه بين الناس، خاصة في هذا الزمن الذي تصدّر فيه البرامج الدينية بالفضائيات العلمانية والرسمية كثير من الأدعياء والمأجورين من الجهلة ومُعادي الإسلام ممن لا علاقة لهم بالعلم الشرعي، بل كثير منهم ينتمي لفرق وطوائف ومذاهب تعادي الإسلام، مما يشكل حجة قوية بيد المتطرفين لنشر باطلهم بحجة محاربة العلمانية وتسييس الدين لخدمة السلاطين!
ومن العلم والثقافة المطلوب نشرهما التاريخ الأسود لمسار العنف والتطرف في بلاد الإسلام قديماً وحديثاً، وبيان أنه منهج ثبت فشله وضرره على المسلمين في كل وقت ومكان، وأنه يعطل المجاهدين الحقيقيين ويزيد معاناة المستضعفين ويقوي أعداء الأمة في الحق والحقيقة، بأدلة صحيحة موثقة -وما أكثرها-، مما يبطل زيف دعاية جماعات التطرف وبهرجها بتحكيم الشريعة ونصرة المستضعفين وإعلاء كلمة الله في الأرض، وهي الشعارات التي تدغدغ عواطف الشباب، وتدمر مقومات الأمة في الحقيقة!
إن من الأهمية البالغة ترسيخ الوعي في المجتمع بأن الإرهاب والعدوان المتعمد على أمتنا من قبل اليهود في فلسطين والميلشيات والأنظمة الطائفية في إيران والعراق وسوريا ولبنان، يقصد به (تدعيش) جمهور الأمة رغماً عنه لتفقد حقها بالكلية وتدمر حاضرها ومستقبلها وتبرر مزيد من العدوان عليها مستعينا بالقوى الدولية، وأن هذا فخ منصوب لنا لابد من الحذر منه، بالوعي به، والصبر على البلاء والتحكم بردة الفعل، والمقاومة للعدوان والإرهاب بأساليب ناجعة ومفيدة من خلال التكاتف والاجتماع وتفتيت الخصوم وسلب المبررات للعدوان والمزيد منه، وفضح حقيقة الإرهاب الذي تقع الأمة ضحية له.
خطوة نشر العلم الشرعي الصحيح والوعي السليم تعمل على تجفيف بيئة ومستنقع الجهل الذي ينمو فيه التطرف والغلو، ويحاصر تمدد المشكلة واستفحالها، وهنا يأتي دور خطوة الحزم بالتعامل مع الغلاة والمتطرفين، هذا الحزم المقرون بالعدل حتى لا ننتج متطرفين جددا ينتصرون لإخوة أو أبناء أو أصدقاء تورطوا بالتطرف والعنف، فالظلم لا يَنتج عنه استقرار أبداً.
ومن الحزم كفّ يد العبث والتلاعب بهؤلاء الشباب الجهلة والمتلاعَب بهم غالباً، سواء كان هذا التلاعب من جهات داخلية أو خارجية، فليس من المعقول أن يُطارد بعض الأغرار من الشباب أو الشرفاء والمخلصون من الدعاة ويُترك المنظرون يسرحون ويمرحون على صفحات الفيسبوك وتويتر يكفّرون ويحرّضون -سواء كانوا في بلادنا أو في المهاجر (الديمقراطية الكافرة) التي تنفِق عليهم من الضمان الاجتماعي!!- على رافضي العنف والتطرف من العلماء والفصائل المقاومة.
هذه هي وصفة معالجة التطرف والغلو السليمة عند شبابنا، وما سوى ذلك من برامج تعتمد نشر طبعات غربية من إسلامات ليبرالية أو صوفية مهجنة أو علمانية، أو تقليل مساحة الدين وتكثير مساحة العلمانية في مجتمعاتنا، أو توجيه الشباب لمزيد من الجهل بالإسلام عبر دعم أنشطة الرقص واللهو، فهي برامج تَحكم على نفسها بالفشل.
فهل يا ترى ننهج الطريق السويّ لننتشل شباب أمتنا من فم التطرف والغلو، أم نصرّ على سلوك طريق الفشل والخراب؟