القوة الذكية في السياسة الخارجية الإيرانية حالة لبنان

الرابط المختصر
Image
القوة الذكية في السياسة الخارجية الإيرانية حالة لبنان

هذا الكتاب في الأصل رسالة جامعية لنيل درجة الماجستير من جامعة القاهرة تقدمت بها الأستاذة سماح عبد الصبور عبد الحي، وهي مثال للدراسات الجادة والمطلوبة التي تمزج بين المعرفة النظرية المتجددة مع الوقائع والأحداث المعاصرة والتي تشكل تحديا معاصراً وملحاً، وقد صدر الكتاب عام 2014، عن دار البشير بالقاهرة في 280 صفحة من القطع الكبير، ويتكون من أربعة فصول. الفصل الأول استعرض الإطار النظري لمفهوم القوة في السياسة الخارجية ومفهوم القوة الذكية، حيث أن العلاقات الدولية الراهنة تدور حول القوة وامتلاكها وكيفية التعاطي معها، بينما المنظور الحضاري الإسلامي للعلاقات الدولية يقوم على مفهوم الدعوة كمحرك للتفاعلات الدولية. وقد اختلف الدارسون في العلوم السياسية في تحديد مفهوم القوة، هل هي القدرة على الإجبار والتحكم، أم القدرة على إنتاج التأثير والتحكم في الآخرين، وهل القوة هي امتلاك للمصادر أم القدرة على التحكم في المخرجات النهائية، ولذلك ما لم يحدد هدف القوة (قوة لتفعل ماذا) فلا اعتبار لها، فقد تملك دولة ما مصادر للقوة لكنها تعجز عن تحويلها إلى قوة فعلية.  ومع تعقد وتطور أحوال العالم لم تعد القوة محصورة في الجانب العسكري أو الاقتصادي، وظهرت أشكال جديدة للقوة كقوة المعلومات والمعرفة مثلاً، وهذا ساهم في ظهور مصطلح القوة الناعمة في مقابل القوة الصلبة على يد جوزيف ناي عام 1990. فالقوة الصلبة التي تشمل الجيوش والمعدات والمعارك والحروب تراجع تأثيرها في العلاقات الدولية بين الدول الكبرى والمتساوية نوعا ما، وأفسحت المجال للقوة الناعمة للمنافسة، وهي تقوم على الثقافة والإعلام للحصول على الإقناع والتأثير، وبالتالي التحالف أو التبعية. يعرّف جوزيف ناي القوة الناعمة بأنها القدرة على الحصول على المخرجات المطلوبة لأن الآخرين يريدون ما تريده، وذلك من خلال الجذب وليس الإكراه، أو إقناع الآخرين ليتبعوك ويتفقوا مع قِيَمك ومؤسساتك. ومن وسائل القوة الناعمة نشر ثقافتك ولغتك في أوساط الآخرين بالأسابيع الثقافية والمؤتمرات والمنح الجامعية وما شابه ذلك، والاستهداف الإعلامي، والمساعدات التنموية. ولنجاح القوة الناعمة تحتاج إلى توفر القدرة على الجذب مما يساعد على الإقناع، ووجود مصادر للقوة الصلبة بجانب مصادر القوة الناعمة. مع ارتفاع كلفة استخدام القوة الصلبة، وعدم كفاية القوة الناعمة لوحدها، برز مفهوم "القوة الذكية" التي تمزج بين القوّتين، ومرة أخرى جوزيف ناي هو مَن يطلق هذا المفهوم عام 2003. ويتبدى تطبيق مفهوم القوة الذكية في السياسة الأمريكية في الجمع بين القوة العسكرية والنموذج الثقافي الأمريكي، وفي السياسة الإيرانية في الجمع بين الحرس الثوري وأذرعه المختلفة وبين التبشير الإيراني بالثورة الإيرانية والعقيدة الشيعية.  تناول الفصل الثاني التعريف بالسياسة الخارجية الإيرانية وإمكانات ومقومات القوة الصلبة لإيران والقوة الناعمة. نبهت الباحثة على تفرد السياسة الإيرانية بعدد من الثنائيات التي تطوعها إيران لمصلحتها، رغم أن البعض قد يظن أنها متعارضة، وهي سبب لاضطراب كثير من المحللين في فهم السياسة الإيرانية، وهذه الثنائيات هي: سياسة إيران أيديولوجية أو براغماتية، إيران فارسية أو إسلامية، دستورية أو ثورية، محافظة أو إصلاحية، وقد أجادت إيران التلاعب والتنقل بين هذه الثنائيات بحسب المرحلة وبحسب الخصم أو الطرف المستهدف لتحقيق مصالحها. ولخصت الباحثة أهداف السياسة الخارجية الإيرانية في الأهداف التالية: 1- دعم المشروع الإيراني الإقليمي على حساب المشروع الأمريكي والغربي. 2- تصدير النموذج الثوري الإيراني إلى الخارج. 3- بناء القدرات الإيرانية وخاصة النووية. 4- تقوية الدور المركزي في العالم الإسلامي ودعم المقاومة في المنطقة. أما إمكانات وموارد القوة الصلبة لإيران فتتمثل في الجغرافيا السياسية لإيران (الموقع، الجوار، الحجم وعدد السكان)، والثروات الطبيعية وعلى رأسها البترول والغاز، الإنتاج العلمي والثروة البشرية، القدرات العسكرية المختلفة ومنها البرنامج النووي، القدرات العسكرية خارج الجيش وأهمها الحرس الثوري وأذرعه. أما عناصر القوة الناعمة لإيران فهي: السياسة الثقافية الإيرانية تجاه الخارج لنشر اللغة الفارسية والفكر الشيعي، والتي هي تصدير للثورة في شكلها الثقافي عبر عدة أدوات منها الصحف والمجلات والمعارض والندوات، وينفذ هذه السياسة الثقافية الملحقيات والمستشاريات الثقافية للسفارات الإيرانية وعدد من المؤسسات الرسمية والشعبية الإيرانية كالمجمع العالمي لأهل البيت، ومنظمة التبليغ الإسلامية. والدبلوماسية الشعبية في التواصل مع الجمهور في البلدان المستهدفة وعدم الاقتصار على العلاقات مع الحكومات. والتواجد والمشاركة الفعالة في المؤسسات والمجتمعات الدولية لتحسين صورتها وتحييد أو كسب ما تستطيع من دول. والإعلام والسينما والفن الذي يحظى بدعم إيراني رسمي كبير لما يقوم به من نقل وتقربب لوجهة نظر إيران للعالم. والدور المركزي بتقديم نموذج المقاومة، وهو الدور الذي يدغدغ مشاعر وعواطف الكثيرين في المنطقة. والقوة الصلبة لإيران يتم توظيفها لتقوية القوة الناعمة من خلال المبالغة في إظهار قوة إيران ونفوذها. أما الفصل الثالث فجاء لتطبيق هذه المفاهيم النظرية للقوتين الصلبة والناعمة لإيران على سياستها تجاه لبنان في فترة حكم الرئيس السابق أحمدي نجاد ... وهو لب الدراسة ومحورها، إذ تنطلق السياسة الإيرانية في المنطقة من أن مساهمتها في القضايا الإقليمية تؤدي إلى تثبيت الدور السياسي الأمني لإيران في المنطقة بل ويزيد من أهميتها الاستراتيجية في النظام العالمي، ومن هنا كانت التحركات الإيرانية تتعمق في لبنان وغيره من المناطق. وتشكل الساحة اللبنانية ساحة مهمة لإيران بسبب الموقع الجغرافي على البحر المتوسط ووجود طائفة شيعية ونفوذ الحليف السوري، وبعد رحيل السوريين عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري سنة 2005م، ملأت إيران الفراغ مباشرة. تمثلت القوة الإيرانية الناعمة في لبنان بالنشاط الثقافي الذي تمثل في أنشطة المركز الثقافي الإيراني فيه والتي لم تقتصر على الجمهور الشيعي ولا المسلم بل استهدفت جميع المكونات اللبنانية. ووفّر المركز عددا من المكتبات العامة بعدة لغات، ويصدر عنه عدة مجلات أدبية، وأقام دورات لتعليم اللغة الفارسية، وتم افتتاح قسم للغة الفارسية في الجامعة اللبنانية عام 2012، وتُشارك إيران في المناسبات اللبنانية الشيعية. ومن مداخل القوة الإيرانية الناعمة المجال التعليمي، حيث أقامت إيران في لبنان فرعا لجامعة أزاد الإسلامية، ومعهد الرسول الأكرم والسيدة الزهراء، والمدرسة الإيرانية، كما أن بعض المؤسسات الإيرانية لها مدارس في لبنان، فضلا عن تقديم المنح للدراسة في الجامعات الإيرانية وهناك جمعية لخريجي الجامعات الإيرانية، وكذلك بعض المراكز الثقافية والبحثية التي يشرف عليها حزب الله، كما تم في عام 2012 توقيع مذكرة تفاهم بين وزارتي التربية في لبنان وإيران. أما في المجال الإعلامي حيث لإيران عدد كبير من المؤسسات الإعلامية مقرها في لبنان أو لها مكتب هناك، منها قناة العالم وقناة آي فيلم وقناة الكوثر، فضلا عن قنوات حزب الله وحركة أمل كالمنار وإن بي إن.     وكذلك عدد كبير من الصحف والمجلات مثل صحيفة بيت الله، والانتقاد، وصدى الولاية، وهي تخاطب الداخل الشيعي في لبنان، وبقية لبنان والعالم العربي. كما أن المدخل السياسي كان له حضوره، فقد دعمت إيران مشاركة حزب الله في الساحة السياسية اللبنانية، عبر إضفاء الطابع المؤسسي على حزب الله، حتى تمكن من الحصول على 10% من مقاعد مجلس النواب عام 2005. ثم تواصل هذا الدعم السياسي خلال حرب عام 2006، حيث دعمت إيران حزب الله بالكامل، واعترضت على موافقة رئيس الحكومة اللبنانية بشروط وقف إطلاق النار، ثم قامت إيران بإنشاء هيئة إعمار لبنان. وشمل التدخل السياسي الإيراني دعم حلفاء حزب الله في قوى 8 آذار والتي تشمل ميشيل عون وحركة أمل وغيرهما، والذي تجلى في أحداث 2008 واستيلاء الحزب على بيروت ومحاصرة الحكومة، وفي انتخابات 2009 أعلنت إيران عن دعمها لحزب الله وحلفائه بـ 600 مليون دولار. وقد استخدمت إيران هذه القوة الناعمة مع كافة الأطياف اللبنانية وإن تباينت المستويات، كما أنها لم تستثن المؤسسات الرسمية اللبنانية من ذلك. وبجوار هذا التوظيف للقوة الإيرانية الناعمة كان هناك تفعيل للقوة الصلبة أيضاً على الساحة اللبنانية، ففي 2005 أبرمت مذكرة تفاهم بين وزارتي الدفاع في لبنان وإيران، وفي 2008 طلب الرئيس اللبناني من إيران تزويد الجيش اللبناني بالسلاح، وكررت إيران العرض في عام 2011. وإذا كان الجيش اللبناني حالت العقوبات الدولية على إيران من استلامه للسلاح الإيراني، فإن حزب الله بقي يكدس السلاح الإيراني عبر الحدود السورية، فضلاً عن الكوادر العسكرية الإيرانية في صفوف الحزب. أما توظيف القوة الاقتصادية فقد تبدى في معالجة آثار حرب 2006، حيث قامت إيران بإعمار عدد من الجسور والطرق والمراكز الصحية، وإعادة بناء الضاحية الجنوبية، وإصلاح شبكة الكهرباء. فضلا عن توسيع التبادل التجاري بين البلدين. وقد أفردت الباحثة مبحثا خاص لتوظيف إيران لحزب الله في لبنان، باعتباره وكيلها في لبنان، إذ يعمل الحزب على تحسين صورة إيران في داخل لبنان وخارجه، كما أنه يقوم بخدمة السياسة الإيرانية وهذا ما تبدى في مشاركة الحزب في حرب الثورة السورية تنفيذا للأجندة الإيرانية، وتورطه من قبل في عمليات إرهابية في دول الخليج لصالح إيران. وبعد هذه الفصول الثلاثة نصل لخلاصة الدراسة في الفصل الرابع عن تقويم مخرجات القوة الذكية الإيرانية في لبنان، والتي هي بكل بساطة نجاح منقطع النظير. فبرغم أن إيران كانت تعمل في مناخ سياسي دولي ضاغط عليها وفي ظل عالم أحادي القطبية في الخارج، وفي صراع سياسي داخلي بين الإصلاحيين والمحافظين وأزمات اقتصادية، إلا أنها تمكنت من التملص من حصارها وتحقيق أهدافها بشكل كبير. فبرغم غضب الشارع اللبناني من اغتيال الحريري وإجباره الجيش السوري على الرحيل، إلا أن إيران تمكنت من ملء الفراغ وتثبيت وتقوية حزب الله في لبنان، برغم تخطي الحزب للدولة وإشعال حرب 2006، ومن ثم احتلال بيروت في 2008، ثم مشاركة النظام السوري في حربه ضد الثورة السورية في 2011. نجحت إيران في تسويق نفسها لدى قطاع كبير من الشارع اللبناني بوصفها مدافعة عن حقوق اللبنانيين ضد إسرائيل. وتمكنت إيران من كسب لبنان كحليف لها عبر ربطه بشبكة مصالح إيرانية سياسية واقتصادية وثقافية وتعليمية. أضحت إيران لاعباً أساسياً في الساحة اللبنانية وعلى صلة بكافة الفرقاء السياسيين. تمكنت إيران عبر لبنان من التلاعب بالعقوبات الدولية المفروضة عليها، باستغلال شركات لبنانية كواجهة للتضليل.   وفي مبحث أخير عرجت الباحثة على أن إيران اعتمدت على القوة الذكية في خارج دائرة المشترك الشيعي، مثل الدول العربية الخليجية، ودول الثورات العربية، والدائرة الأفريقية، والدائرة الآسيوية، ودائرة أمريكيا اللاتينية، وتركيا. ومن أهم الخلاصات التي توصلت لها الباحثة حول سبب نجاح القوة الذكية لإيران قولها: "قدرة إيران على توظيف الأبعاد المختلفة للقوة هو الجانب المؤسسي على المستويين الرسمي وغير الرسمي، فتعمل المؤسسات الرسمية في إيران في ضوء الخطط الحكومية على تحقيق أهداف السياسة الخارجية لإيران، وبجانب ذلك تتبع مؤسسة المرشد الأعلى الإيرانية عدد من المؤسسات غير الرسمية ولكنها تتفق والأهداف العامة للدولة". وقارن هذا بحالة الصراع والتصادم بين المؤسسة الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني في عالمنا العربي، ففي الوقت الذي تتصدر المؤسسات الشيعية الدينية نشاط القوة الناعمة لإيران، يتم تجريم أغلب المؤسسات الإسلامية الخيرية والثقافية السنية!! ويبقى بعد هذا كله السؤال معلقا: متى سيكون للدول السنية سياسة ذكية تجمع بين القوة الناعمة والقوة الصلبة للحفاظ على مصالحها؟