الكون في منظور الوحي الرباني (1-2)

الرابط المختصر
Image
الكون في منظور الوحي الرباني (1-2)

في المقالات السابقة استعرضنا مركزية الوحي الرباني في مصادر المعرفة، وبيّنا أن الوحي الرباني هو المصدر المعرفي الوحيد لعالم الغيب والتشريع العام للبشرية، وأنه يشمل القرآن الكريم والسنة النبوية، وأن العقل السليم لا يتعارض مع الوحي، بل يتكامل مع معارف الوحي الرباني فيما يدخل في نطاق مقدرة العقل، وأن الوحي الرباني الخاتم برسالة نبيّنا محمد، عليه الصلاة والسلام، وصلنا تاماً واكتمل به الدين، وقد بلّغه النبي، صلى الله عليه وسلم، بلاغاً كاشفاً مبيناً، وعلّمه لأصحابه تعليماً واضحاً لا لبس فيه، وقد تعهد الله عز وجل بحفظ كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
واليوم نبدأ في مقالات تستعرض المضمون المعرفي للوحي الرباني في مباحث الوجود وهي: الكون، والحياة، والإنسان.  
حيث يقوم مجمل الرؤية الإسلامية المستندة للوحي الرباني في المعرفة على عقيدة التوحيد، وهي تعني توحيد الخالق والإله وهو الله عز وجل وتوحيد جميع الكائنات والموجودات بكونها مخلوقة من قبل الله عز وجل، لقوله تعالى: "الله خالق كل شيء" (الزمر: 62)، وعقيدة التوحيد تشمل توحيد الخالق والإله ورفض كل صور الشرك والوثنية وتعدد الألهة القديمة والحديثة وكل صور الإلحاد ونفي الخالق أو نفي الحكمة والغاية عن وجود الكون، وتشمل توحيد مصدر المعرفة بالوحي الرباني.
وعقيدة التوحيد تشمل توحيد الكائنات بكونها مخلوقة جميعها، ومن قبل خالق واحد، ولغاية واحدة، ولذلك هي تنسجم وتتكامل ولا تتناقض وتتصادم، وأيضا تتكامل المعرفة الناتجة عن الوحي الرباني مع المعارف التي تنتج عن المصادر المخلوقة كالعقل والحس لأنها من مخلوقات الله عز وجل، وبذلك تنسجم العلوم والمعارف ولا تتصارع وتتناقض كما حدث في تاريخ أوربا من صراع الكنيسة والعلماء، بسبب تحريف وتبديل الكتب السماوية السابقة.
ولتفصيلٍ أكثر في مضمون رؤية الوحي الرباني للكون يمكن أن نعدد النقاط التالية:
1- خلْق الله عز وجل للكون أعظم من خلقه للإنسان، قال تعالى: "لَخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون" (غافر: 57)، ولذلك يكرر الوحي الرباني في القرآن الكريم الربط بين خلق الكون وخلق الإنسان "وفي الأرض آيات للموقنين* وفي أنفسكم أفلا تُبصرون" (الذاريات: 20-21)، ولذلك كان التأمل في تفاصيل خلق الكون البديع من أكبر الأدلة على إثبات وجود الله الخالق، وهو أسلوب مستخدم بكثرة في الوحي في إثبات الصانع والخالق "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلِقت* وإلى السماء كيف رُفِعت" (الغاشية: 17-18).
وقد فهم الأعرابي بسهوله هذا المنهج العلمي حين قال: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، ليل داجٍ، ونهار ساجٍ، وسماء ذات أبراج، أفلا تدل على الصانع الخبير؟!
2- بيّن لنا الله عز وجل في القرآن الكريم خلق الكون، وأن بداية الخلق بكلمة وأمر (كُن)، "بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كُن فيكون" (البقرة: 117).
ويتفق العلماء على أن أول المخلوقات هو الماء وعرش الرحمن والقلم، على اختلافٍ في ترتيبها، لقوله صلى الله عليه وسلم: "كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض" رواه البخاري.
ثم كان خلق السماوات والأرض، والتي فصل خلقها في الوحي الرباني في عدة آيات منها قوله تعالى: "إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام" (الأعراف: 54)، وبيّن ربنا تفاصيل هذه الأيام الستة فقال تعالى: "قل أئنّكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادًا ذلك رب العالمين* وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين* ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين* فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزيّنا السماء الدنيا بمصابيح وحفظًا ذلك تقدير العزيز العليم" (فصلت: 9-12)، فخلْق الأرض كان في يومين، وخلق الجبال/الرواسي وتقدير الأقوات كان أيضا في يومين فصار مجموعها أربعة أيام، وخلق السموات كان في يومين، وبذلك يكون المجموع ستة أيام.
هذه هي الحقيقة الربانية لخلق الكون بسماواته وأرضه "الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن" (الطلاق: 12)، وكل ما سِوى ذلك من خرافات الأقدمين بتعدد الأرباب أو أن هذا الكون مِن خلق نفسه أو بعض الكائنات أو غيرها من الخرافات، هو من الباطل الذي يدحضه الوحي الرباني ولا يقبله عقل سليم، وكل ما يخالف هذه الرؤية المعرفية الإسلامية هو من أوهام المعاصرين فالزعم بالخلق الذاتي والصدفة والانفجار العظيم هو باطل لا يصح إلا بمقدار ما وافق رؤية الوحي الرباني.
والعلم الحديث اليوم يوافق رؤية الوحي الرباني السابقة والثابتة عبر أجيال البشرية حيث سقطت الخرافات والأوهام بتحسن حالة العلوم ومعرفتها بالدقة والنظام والتكامل والتناسق بين أجزاء الكون الواسع بما يستحيل معه تعدد الصانعين أو كونه جاء نتيجة صدفة عمياء أو من خلق كائنات ضعيفة لا تتصف بالعلم الشامل المحيط والقدرة التامة على كل شيء.  
3- هذا الكون له بدايةٌ بالخلق، وله نهاية بقيام الساعة واليوم الآخر "يوم نطوي السماء كطيّ السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نُعيده وعدًا علينا، إنا كنا فاعلين" (الأنبياء: 104)، وهو بينهم في حالة تمدد واتساع وجريان "والسماء بنيناها بأيدٍ وإنّا لموسعون" (الذاريات: 47)، وينقسم لعالم مشهود معروف وعالم غيب مخفي يظهر بعضه في الدنيا بتقدم العلوم والمعارف كالكهرباء، وبعضه يبقى في حالة غيب في الدنيا ويظهر في الآخرة كالجنة والنار.