الكون في منظور الوحي الرباني (2-2)

الرابط المختصر
Image
الكون في منظور الوحي الرباني (2-2)

لا زلنا نستعرض تفاصيل رؤية الوحي الرباني للكون، وفي المقال الماضي بيّنا أن الكون مخلوق لله عز وجل، وأن خلقه أعظم من خلق الإنسان، وأن خلق الكون بذاته يعد دليلاً على إثبات الخالق والصانع وهو الله عز وجل، وبّينا ترتيب بدء المخلوقات وتفصيل خلق السماء والأرض، وأن هذا الكون له بداية ونهاية وأنه يتوسع ويتمدد بينهما، وأنه ينقسم لعالم الشهادة وعالم الغيب، ونواصل اليوم بقية تفاصيل رؤية الوحي الرباني للكون في النقاط التالية:
4- هذا الكون -على عظمته وسعته- خاضع مطيع لأمر الله عز وجل، قال جلّ في علاه: "ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائْتِيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين" (فصلت: 11)، وقوله تعالى: "تسبح له السماوات السبع والأرض ومَن فيهن وإن من شيء إلاّ يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا" (الإسراء: 44).
وهذا الكون يجري على سنن الله عز وجل التي خلقه عليها، ولذلك تحدى إبراهيم، عليه السلام، النمرود بتغيير سنن الله عز وجل في الكون، لكنه عجز وفشل: "قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأْتِ بها من المغرب فبُهِت الذي كفر" (البقرة: 258).
5- هذا الكون -على عظمته- سخّره الله عز وجل لخدمة الإنسان، قال تعالى: "ألم ترَ أن الله سخّر لكم ما في الأرض والفلكَ تجري في البحر بأمره ويُمسك السماءَ أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم" (الحج: 65)، "الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها ومنها تأكلون* ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تُحملون* ويريكم آياته فأيّ آياتِ الله تُنكرون" (غافر: 79-81)، فعلاقة الإنسان بالكون علاقة تعرف وتفاهم لا علاقة تخويف وعداء.
ومن هنا كانت دعوة القرآن الكريم المتكررة للتفاعل والتدبر والتفكر بالكون والاستفادة من تسخير الكون لصالح الإنسان بعمارة الأرض، وهو ما قامت به الحضارة الإسلامية بشكل رائع ومميز، بخلاف النظرات العلمانية التي تقوم على فكرة الصراع والقهر والتحدي للطبيعة، والتي نتج عنها كثير من المشاكل والآثار السلبية بسبب تخريب التوازن البيئي تحت دافع الجشع والبحث السريع عن الثروات.
6- هذا الكون خُلق بالحق "وما خلقْنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق" (الحجر: 85)، ولذلك المؤمن لا يحتقر الكون وخيراته وثرواته كما فعلت بعض الأديان والمذاهب التي نظرت نظرة سلبية للكون واعتبرته نجسا يجب التنزه عنه للتهيؤ للجنة في الآخرة! بينما منهج الوحي الرباني والأنبياء الاستفادة من هذه الخيرات والقيام بحق الله عز وجل فيها "قُل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق" (الأعراف: 32)، بل نجد نبياً من الأنبياء، هو سليمان عليه السلام، يطلب من الله عز وجل "ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي" (ص: 35). 
7-يرسّخ الوحي الرباني أن الكون يرتبط ببعضه البعض بفكرة السببية، فالمطر ينهمر من السحاب فينبت به الزرع والثمر وهكذا "ونزّلنا من السماء ماءً مباركا فأنبتنا به جناتٍ وحَبّ الحصيد" (ق: 9)، ولذلك حارب الإسلام الخرافات والأساطير بوجود قوى خارقة للطبيعة وأنها تتصرف من ذاتها أو أنها تستحق العبادة كما حدث مع بعض الأمم الجاهلة قديماً وحديثاً تحت اسم عبادة الطوطم وغيرها.
ولكن هذه الأسباب هي من خلق الله عز وجل أيضا وتعمل بإرادة الله عز وجل، ولذلك قد يعطلها الله إذا شاء، فالنار لم تُحرق إبراهيم، والسكين لم تجرح إسماعيل.
8- وهناك أيضاً ارتباط وتناغم بين سنن الله عز وجل في الكون وبين شريعته، فمِن سنن الله في الكون قيامه على الزوجية في كل مكوناته "ومِن كلّ شيء خلقنا زوجين لعلّكم تذكّرون" (الذاريات: 49)، فلما خالفت بعض الأمم السابقة هذا النظام الرباني في الكون وفي الشريعة بارتكاب جريمة الشذوذ الجنسي جاءهم العذاب المُهلك  "فأخذتْهم الصيحة مشرقين* فجعلنا عاليَها سافلَها وأمطرنا عليهم حجارةً من سجّيل" (الحجر: 73-74)، وفي عالمنا اليوم، وبعد انتشار الفواحش وأنواع الشذوذ انتشرت الأمراض القاتلة والمهلِكة، وأعظمها الإيدز.
وكذلك تحريم الله عز وجل لتناول الخبائث والمحرمات لأنها تتعارض مع طبيعة جسم الإنسان، وقد توصل العلم الحديث لآثار مضار تناول المحرمات كالدم والخمر والمخدرات والخنزير والميتة، وأن تناولها ينتج عنه الأمراض والسقم، وبذلك تتكامل الأوامر الشرعية والسنن الكونية لأنها من مصدر واحد، وهو الله عز وجل، وهذا من معاني توحيد الله عز وجل، والذي يسميه العلماء المحققون توحيد الشرع والقدر. 
فمِن سنن الله عز وجل في الكون أن الذنوب سبب للعذاب والهلاك في الدنيا "فأهلكناهُم بذنوبهم" (الأنعام: 6)، وأن الإيمان والطاعة سبب للبركة وزيادة الخير والنعمة في الدنيا "ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتّقوا لفَتحنا عليهم بركات من السماء والأرض" (الأعراف: 96)، وذلك لأن الله عز وجل خلق هذا الكون بالحق وللحق، فمن تعداه للباطل قصَمه الله، إما في الدنيا والآخرة، وإما في الآخرة، هذه هي أهم الملامح في رؤية الوحي الرباني للكون.