المناهج التعليمية ضحية الجفاة والغلاة والمحتلين قديماً وحديثاً

الرابط المختصر
Image
المناهج التعليمية ضحية الجفاة والغلاة والمحتلين قديماً وحديثاً

"اقرأ" كانت الكلمة الأولى في الوحي الرباني الأخير للبشرية ومفتتح الرسالة المحمدية، وتوالت الآيات القرآنية الكريمة التي تحثّ على العلم والتعلم وترسخ مكانته الرفيعة وتحث المؤمنين على التنافس فيه والازدياد منه، وذلك في علم الدين والدنيا، ومن هذه الآيات الكريمة قوله تعالى: "اقرأ وربك الأكرم" (العلق: 3)، "يرفع الله الَّذين آمنوا منكم والَّذين أوتوا العِلمَ درجاتٍ" (المجادلة: 11)، "وقل ربِّ زدني علماً" (طه: 114)، "قل هل يستوي الَّذين يعلمونَ والَّذين لا يعلمونَ" (الزمر: 9)، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنَّة» (رواه مسلم).
وسرعان ما انعكست هذه الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لواقع عملي في حياة المسلمين، فتحول العرب -وهم مادة الإسلام الأولى- من أمة أميّة لا تقرأ ولا تكتب إلى أمة متفوقة في المطالعة والعلم والمعرفة والحضارة، وبخلاف الأديان الأخرى التي تصادمت مع العلم والمعرفة إما بسبب تبنيها مواقف وآراء مناقضة للعلم والواقع أو حربها للعلم والعلماء الذين كان وجودهم يشكل عامل تهديد للقيادات الدينية، كان الإسلام داعماً ومحفزاً للعلم والعلماء من جهة، ومن وجهة أخرى كان الإسلام بذاته يرشد ويشير لمعلومات ومعارف علمية لم تكتشف إلا مؤخراً.
وسبب ذلك أن الإسلام يعتمد على الوحي الصحيح والثابت بالأدلة والبراهين العلمية والعقلية القطعية بخلاف الأديان السماوية الأخرى، وأن الإسلام رباني المصدر بخلاف الأديان الوضعية الأخرى التي اخترعها بشر يلحقهم الجهل والخطأ.
فليس علمياً ولا موضوعياً مساواة موقف الإسلام الإيجابي من العلم مع أديان أخرى طاردت العلماء وقتلتهم بكل همجية ووحشية ورفضت مقررات العلم، ولم تتمكن تلك الشعوب من التقدم علمياً إلا بعد احتكاكها بالعلوم عند المسلمين ومن ثم الانقلاب على أديانهم أولاً ومن ثم الثورة على فلسفاتهم الوضعية لتتطور الحالة العلمية عندهم، بينما في أمة الإسلام لم نحتج لذلك أبداً.
جناية الجفاة:
بقيت أمة الإسلام تتطور وتترقى علمياً وهي تتلقى العلم في المساجد والمدارس والجامعات الملحقة بها حتى ظهر وَساد التصوف الفاسد الذي حارب العلم والتعلم والقراءة واستبدل ذلك بمنهج معرفي فاسد يقوم على خرافة المعرفة الباطنية والتي سميت بالعرفان والكشف بدلاً من المنهج العلمي الإسلامي الذي يزاوج بين قبول مقررات الوحي الصحيح الثابت وبين حقائق العلم والتجربة والحواس التي أمر الإسلام والقرآن باعتمادها وقبولها، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم "أنتم أعلم بأمور دنياكم" رواه مسلم، صريحاً في اعتماد المعرفة التجريبية في مجالات الدنيا من الطب والزراعة والحرب وغيرها، وقد رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يطلب الأطباء إذا احتاج لذلك ويقبل مشورة سلمان الفارسي بتطبيق استراتيجية عسكرية مستوردة من بلاد فارس.
كان للتصوف الفاسد آثار كارثية على أمة الإسلام، يهمنا منها هنا نشره للجهل والخرافة بين المسلمين بذم القراءة والتعلم والتفاخر بالجهل واعتبار ذلك من كرامات الأولياء! واعتبار اقتناء الكتب وحملها عورة يجب الخجل منها!
وأمر آخر سلبي تسبب به التصوف الفاسد وهو إشاعة العجز والتواكل ونبذ الأخذ بالأسباب الشرعية والدنيوية كما أمر الله عز وجل في القرآن الكريم، ولذلك نبذ التصوف الفاسد العمل الجاد بمقاومة الأعداء بحجة التوكل على الله عز وجل والاكتفاء بالاستغاثة بالأموات في مواجهة جحافل جيوش الأعداء! 
وبسبب التصوف الفاسد أصبحت نظرة المجتمع للعلم والعمل نظرة سلبية فتراجعت الصناعات عامة وخاصة الحربية ومن هنا حصلت القفزة الأوروبية بالتفوق على الدولة العثمانية بالصناعات الحربية الجديدة بعد أن كان المسلمون رواد صناعة المدافع والصواريخ، ومن يزور متحف العلوم الإسلامية في حديقة جولهانة بإسطنبول خلف آيا صوفيا، سيندهش من مدى تطور الصناعات الحربية الإسلامية من عدة قرون.
وأيضاً أفسد التصوف الفاسد عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر وهي أحد أركان الإيمان الستة، فحولها من اعتقاد إيجابي يدفع المسلم والمسلمة للعمل والاجتهاد في أمور الدين والدنيا وعدم الاستسلام للمصائب، فالإنسان إذا مرض يوجب عليه الإسلام العلاج، فقام التصوف الفاسد بتحريف عقيدة القضاء والقدر لتصبح استسلاماً تاماً للمصائب والنكبات وخضوع وخنوع مطلق للأعداء بحجة أن هذا قضاء الله ويجب الرضا به! ولو طبقنا هذا على عالمنا اليوم فيعني أنه يجب على الشعب الفلسطيني الخضوع للعدوان اليهودي وعدم الاعتراض على اقتحام الإرهابيين اليهود للمسجد الأقصى أو هدمه وبناء الهيكل محله! كما أن على الشعب السوري الرضا والفرح بالقصف الروسي والسرور بجرائم الميلشيات الشيعية والداعشية تجاه إخوانهم وأخواتهم! 
هذا الدور السلبي للتصوف الفاسد سجله المستشرق الألماني باول شمتز في كتابه (الإسلام قوة الغد العالمية، ص 78) فقال: "طبيعة المسلم التسليم لإرادة الله والرضا بقضائه وقدره والخضوع بكل ما يملك للواحد القهار. وكان لهذه الطاعة أثران مختلفان: ففي العصر الإسلامي الأول لعبت دورًا كبيرًا في الحروب؛ إذ حققت نصرًا متواصلاً لأنها دفعت في الجندي روح الفداء. وفي العصور الأخيرة كانت سببًا في الجمود الذي خيَّم على العالم الإسلامي، فقذف به إلى الانحدار وعزله، وطواه عن تيارات الأحداث العالمية"، ولعل رواية (قنديل أم هاشم) للأديب المصري يحيى حقي تجسد تخلف التصوف الفاسد برفض الأخذ بالأسباب الصحيحة بالعلاج على يد الطبيب في مخالفة مباشرة للقرآن الكريم، وكيف أنها بزخمها الشعبي تحول الطبيب لتقبل الخرافة والجهل!
جناية الاحتلال القديم:
وجناية الجفاة من التصوف الفاسد على العلم والمناهج التعليمية مهّد لجناية المحتل والمستعمر على مناهجنا، ولعل من أفضل ما يوضح تلك الجناية ما كتبه الأستاذ ساطع الحصري وهو المتخصص في قضايا التعليم ومسؤول التعليم في جامعة الدول العربية وأحد منظري القومية العربية في مجلة الرسالة في 17/2/1936، فقال تحت عنوان (التعليم والاستعمار) باختصار وتصرف: والمهم أن ندقق في النظم التي يرسمها المستعمر لتعليم أولاد الأهلين في المستعمرات وأن نستعرض السياسات المختلفة التي ابتدعت في ذلك. إن أقدم هذه السياسات كانت السياسة السلبية في التعليم، وهي تتلخص في عدم تعليم أحد من أبناء الأهلين وقتل المتعلمين منهم، ففي الولايات المتحدة الأمريكية يمنع تعليم الزنوج القراءة والكتابة؛ وكان كل أبيض يعلم زنجياً يعاقب بالحبس والجلد.
غير أن سياسة الاستعمار لم تستطع الاستمرار على هذه الخطة السلبية فأسس معاهد تخرج طائفة من أهالي المستعمرات يخدمون المستعمر بحيث يندمجوا فيهم اندماجاً، أولاً بنشر لغة المستعمر، وثانياً بتعليم أهالي المستعمرات تعليماً ينشئ في نفوسهم حب المستعمر فيستسلمون له عن طواعية، ويمكننا أن نسميه: (التعليم لتسهيل عمل الاستعمار).
على أن التجارب أسفرت عن نتائج سيئة إذ لا يلبث أكثر هؤلاء بعد تخرجهم أن يقلبوا للمستعمر ظهر المجن، إذا ما قرأ تاريخ الأمة المستعمرة ووقف على مطالب الشعب، فوجدوا ضالتهم بطريقة مبتكرة في سياسة التعليم وهي: (التعليم بغير تثقيف). بجعل التعليم وسيلة ميكانيكية بحتاً إذ يكون لغايات محدودة معينة بدون أن يدخل على هذا التعليم أي عنصر من عناصر الثقافة العامة، ليكونوا مسامير في صفحة خشبية، أوعجلات في آلة ميكانيكية.
ولمنع الطلبة من السفر للدراسة في أماكن أخرى لا سيطرة للاستعمار عليها اقترح بعضهم تأسيس مدرسة عالية يحدد تعليمها وتجعل النشء مرتبطين بها فلا يضطرون إلى السفر إلى الخارج فيطلب العلم ويعودون إلى بلادهم وقد تسممت أفكارهم، وعمدوا إلى تدابير يقدرون من ورائها فصل الأقطار عن بعضها بجعلها مختلفة اللغة، فقد أخذ الفرنسيون في المغرب يفرقون بين البربر والعرب وغيرهم بحرمان البربر من تعلم اللغة العربية حتى يجعلوهم بعيدين عن التأثر بالمدارس التي تدرس العربية أو ما يكتب بهذه اللغة في الأقطار الأخرى، والسعي لنشر اللغة العامية، كوسيلة تباعد بين الأقطار العربية، واستخدام السينما الناطقة والراديو في نشر العامية. أ.هـ
وهذا تقريباً ما قام به مسؤول التعليم البريطاني دانلوب في مصر تجاه التعليم، ويكفي أن نعرف أن دانلوب قام بوضع لائحة لمرتبات المعلمين على النحو التالي: مدرس الموسيقى 4 جنيهات، معلم الألعاب 4 جنهيات، مدرس اللغة العربية والدين 1 جنيه وعشرين قرشا!
وأيضاً هناك حكاية الابتعاث للدارسة في الدول المستعمرة وكيف تم توظيف ذلك لتجنيد الكثير لخدمة المصالح الاستعمارية باسم التنوير والتحضر، وقد وصف اللورد كرومر المشرف على دنلوب نتيجة هذه البعثات فقال: "إن الشبان الذين يتلقون علومهم في إنجلترا وأوروبا يفقدون صلتهم الثقافية والروحية بوطنهم، ولا يستطيعون الانتماء في نفس الوقت إلى البلد الذي منحهم ثقافته فيتأرجحون في الوسط ممزقين"!
جناية الغلاة:
وفي العصر الحاضر نجد مفارقة غريبة وهي أن المناهج التعليمية والتي تلقى هجوما علمانيا من الداخل والخارج بزعم أنها متطرفة وينتج عنها عنف وإرهاب! بينما دعاة التطرف والعنف ينبذون هذه المناهج والمدارس منذ عقود! وقد كان من السابقين لذلك أبو محمد المقدسي الذي كان من أوائل كتبه "إعداد القادة الفوارس في هجر المدارس"، وقد كتبه بعد أن درس في جامعة الموصل مدة سنة تقريباً! وهو قد كتبه ضد المدارس السعودية والكويتية بالدرجة الأولى وقبل 30 سنة تقريباً، ثم يزعم العلمانيون أن المناهج تخرج متطرفين!
والعجيب أن تونس والجزائر اللتين تعدان من أكثر الدول عدائية وإقصاء للإسلام من مناهجها من أكثر الدول تصديراً للشباب المتطرف المهاجر لمناطق داعش في العراق وسوريا!
ومن العجيب أيضاً أن غالب قادة العنف والتطرف هم من خريجي الكليات العلمية كالطب والهندسة أو من العسكريين وليسوا من طلبة الكليات الشرعية! فهل مناهج الطب والهندسة والكليات العسكرية هي السبب في تطرفهم وغلوهم؟
وهل المناهج في الدول العربية والإسلامية مسؤولة فقط عن إنتاج العنف الإرهابي المرتبط بالدين، وليست مسؤولة عن العنف الإجرامي في نفس المجتمعات لدى عصابات المخدرات والسطو؟
وهل المناهج التعليمية في الدول غير الإسلامية مسؤولة أيضاً عن ظهور مليشيات العنف والإرهاب والعنصرية واليمينية بين شبابها، أم أن هذا خاص فقط بالمناهج الإسلامية؟
وأخيراً أليس غالب المنتمين لفكر التطرف والغلو هم من المتسربين من المدارس أصلاً، ولعدة عقود؟
جناية الاحتلال الجديد:
لقام العديد من الشخصيات والأحزاب اليسارية في بعض الدول الإسلامية بإقصاء التعليم الإسلامي بمبادرة ذاتية ومنذ عقود طويلة في تطبيق حرفي لتبعيتهم لقبلة موسكو! وهو ما يتجدد اليوم في عدد من جمهوريات روسيا الإسلامية (المستقلة)!
أما الهجوم على المناهج التعليمية من قبل الدولة اليهودية فليس بجديد بل هي تهاجم المناهج وتطالب بتغييرها منذ اتفاقية كامب ديفيد بينما تواصل هي لليوم زيادة ترسيخ العدوان والإرهاب في مناهجها التعليمية ضدنا! وتواصل قيادة الهجوم على مناهجنا التعليمية بشكل مباشر وغير مباشر عبر إعلاميين ومراكز دراسات في الغرب والشرق.
وفي نفس المرحلة في عام 1979 تم تأسيس "منظمة الإسلام والغرب" وتتبع لليونسكو بالأمم المتحدة، وهدفها الأول تغيير مناهج التعليم وصبغه بصبغة علمانية حيث نص على: "إن واضعي الكتب المدرسية لا ينبغي لهم أن يصدروا أحكامًا على القيم، سواء صراحة أو ضمنًا، كما لا يصح أن يقدموا الدين على أنه معيار أو هدف"!
وفي تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية يكشف عن إنفاق 29 مليون دولار في برنامج "جهود تغيير نظم التعليم سنة 2002 في بعض دول الشرق الأوسط، وفي عام 2003 تصاعد المبلغ فوصل 90 مليون دولار، أما في عام 2004 صرفت أمريكا 145 مليون دولار لتبديل التعليم في المدارس الإسلامية إلى تعليم علماني.
وكان كولن باول وزير الخارجية الأمريكية الأسبق قد طرح في عام 2002 مبادرة الشراكة والديمقراطية التي دعت لتغيير المناهج التعليمية!
وقد التقط الفكرة عدة جهات محلية وخارجية فبدأت المناداة لتطوير المنهج والمقصود هو إقصاء الإسلام ذاته والعمل على تطويعه للمفاهيم العلمانية في توظيف وتسييس للدين وهم يرفعون شعار إبعاد الدين عن السياسة! ولعل خير من يكشف عن ذلك بوضوح ورقة محمد فاعور التي صدرت عن مركز كارنيغي بعنوان (التعليم الديني والتعددية في مصر وتونس) في عام 2012، حيث لخص فاعور القضية في جملة مكثفة فقال: "يتعين على مصر وتونس الحفاظ على التعليم الديني كجزء من مناهجهما الدراسية، لكن التركيز يجب أن يكون على المحتوى الإسلامي الليبرالي"!
واليوم فإن التغيير في المناهج التعليمية قائم على قدم وساق في عدد من الدول الإسلامية تلبية لطلب المحتل الجديد الذي يسلط على هذه الدول صندوق النقد الدولي وغيره من الأدوات الدولية لإجبار هذه الدول على الانصياع وعدم المشاكسة بربط القروض بالإشراف العلني والخفي على تغيير المناهج! وهذا التغيير الذي لا يلبي حاجة الطلبة الفعلية للتطوير والتحسين وإنما يلبي معايير خارجية مفروضة قصراً على المجتمعات كالعلمانية والجندرية والتطبيع، هي سبب رئيس لتقبل قطاعات من الشباب لمزاعم الغلاة والمتطرفين كداعش بأنها هي من تدافع عن الإسلام! ونبقى ندور في حلقة مغلقة بين الطغاة والغلاة! 
وأخيراً؛ هل واقعنا اليوم في الجناية على المناهج التعليمية يختلف عما نشرته جريدة المؤيد، (في 25 يوليو 1899م) حين حذف دانلوب بعض الكتب الإسلامية من المناهج التعليمية فقالت: "إنّ هذه الكتب غير موافقة لهدفه من الوجهتين الدينية والسياسية وذلك بإيرادها قواعد الإسلام وأركانه مصحوبة بالحكم والآيات والأحاديث التي تحث على حب الوطن والتعاون وإصلاح ذات البين، وفي سبيل شجب هذه الكتب أعلن دانلوب أنّ مثل هذه الكتب غير موافية لحاجات التعليم وأوعز إلى بعض المدرسين الموالين له بأن يضعوا كتبًا بديلة لها تضم بعض خرافات لافونتين وفي عبارة سقيمة وأسلوب نازل". ولما أعترض بعض الناس أعلن "دانلوب" أنّ كتب المطالعة يجب أن تكون مجردة خالية من كل ما له مساس بالدين!!