برغم ما تمرّ به الأمة الإسلامية اليوم من منغصات ومصائب وفتن وكوارث إلا أن البشائر في طيات تلك الأحداث كثيرة جداً، خاصة ونحن على أبواب شهر رمضان المبارك الذي يرفع معنويات قليلي الدين فكيف بالمجاهدين والثوار والمصلحين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر!!
نعم، نحن نرى القدس يدنسها قطعان الإرهابيين بحماية الحكومة ودعمها، ونرى الاعتداءات المستمرة على المسجد الأقصى والحفريات تحته، ونرى عدوانهم على المصلين، ولكن هل هذا سيسرق الأقصى منا؟
نعم، نحن نعيش تكالب الأمم وخيانة بعض الأشقاء وتخاذلهم في سوريا، ورأينا إجرام حزب الله في القصير وميلشيات شيعة العراق وجنود إيران هناك، ورأينا دماء الأطفال وآثار الأسلحة الكيماوية على أجساد الشهداء والجرحى، ولكن هل فتّ هذا في عضد الثوار؟ أو هل خفتت هجمات المجاهدين؟
وفي مصر نرى الانقلاب على التجربة الإسلامية الوليدة بدون سند قانوني أو أخلاقي، ونرى دعاة المدنية يمتطون الدبابات للوصول للحكم، ونرى دعاة الحريات الإعلامية يصفقون لإغلاق القنوات الإسلامية، ونرى دماء المصلين تُراق، ونرى ونسمع البيانات والإعلانات الدستورية الديكتاتورية باسم الشعب تتلى عبر الشاشات، ولكن هل هذا سيضيع الحق أو يطمس معالمه؟
وفي بورما يذبح المسلمون والعالم يتفرج، وحين تصل طلائع النجدة الإسلامية سيستيقظ العالم لإدانة النجدة وليس لوقف المجازر!
والقائمة تطول من هذه المشاهد المؤلمة والتي يعتصر القلب لها وتدمع العين، ولكن "الله إذا أحب عبدا ابتلاه" ليكشف عن معدنه ويتقرب إلى ربه ويلجأ إليه فيعينه في دنياه ويرفعه في آخرته.
ولكن المهم هنا أن نرى البشائر الإيجابية خلف هذه الأحداث كلها، فما نعيشه اليوم من آثار الصحوة الإسلامية إنما جاءت عقب أحداث كهذه، فبعد أن سرق العلمانيون واليساريون كراسي الحكم بمدافع الدبابات وزجوا بالإسلاميين في السجون أو شردوهم في المنافي، خرج جيل جديد رفع راية الإسلام وشعلة الإيمان من الأرض الطيبة بجهود بعض الدعاة والعلماء.
وذلك بعد أن ظهرت ثمار الفساد الديني والأخلاقي والسياسي والاقتصادي للطغم الحاكمة وخاصة بعد هزيمة 67، فشهدت المجتمعات العربية عودة للدين والإسلام بحثاً عن الحق والكرامة المفقودة، ولعل نجيب محفوظ صور جانباً من هذا الواقع المر كالعلقم في روايته "ثرثرة فوق النيل" فكشف فيها عن فساد النخب الثقافية والسياسية والإعلامية والفنية، وهو الفساد الذي تجذر في كثير من هذه القطاعات وكشفت ثورات الربيع العربي عن استمراره، فرأينا اصطفاف الفاسدين خلف الطغاة وكيف سحّت دموعهم خوفاً على رحيله، ورأيناهم اليوم يضحكون فرحين بقرب عودته بعد الانقلاب على مرسي.
واليوم يكاد المناخ يتتطابق مع ذلك المناخ الذي أفرز الصحوة الإسلامية في موجتها الأولى، فإقصاء الإسلاميين غاية معلنة لخصومهم في دول الربيع العربي وحلفائهم من خارج دول الربيع، وبعضهم يتطرف ليطالب باستئصالهم عن بكرة أبيهم.
وظهور فساد هذه الطغم الحاكمة والنخب المستفيدة أضحى مكشوفاً لكل ذي عينين، أما جهود الدعاة والعلماء فهي قد تضاعفت أضعافاً كثيرة، وأصبحت اليوم عابرة للحدود والمراقبات بعكس الماضي.
وهذا كله يبشر بفجر صحوة إسلامية جديدة تعيد للأمة شبابها وحيويتها، وتتقدم بها خطوات للأمام، فقد أثبتت هذه الأمة أنها تشتد وتقوى بالمنع والتضييق وتمتد وتتوسع بالحرية والانفتاح، مما جعل أعداءها في حيرة من أمرهم معها.
فالإسلام غالب وقاهر لكل من ناوأه وحاربه طال الزمن أو قصر، وهذه حقيقة يعرفها الأولياء والصالحون، انظر لقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "ما يصنع أعدائي بي؟ سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة"، فهو متفاؤل وواثق من عدل الله وحسن قضائه وأن عاقبة ظلمه ستكون على من ظلمه وليس عليه.
وقريباً من هذا قول علامة الجزائر ابن باديس حين هددوه بإيقافه عن التدريس في المسجد فقال: "إذا ركبت الحافلة سأعلّم وإذا كنت في المسجد سأعلّم وإذا كنت في البيت سأعلّم، سأعلّم أبناء هذا الوطن في كل مكان وافعلو ما شئتم ولا تشاءون إلا أن يشاء الله".
من كان يتوقع أن كثيرا من الشباب اللاهي في سوريا يصبح لديه قضية؟ من كان يظن أن الشباب المصري يدخل دورة وعي مكثفة بهذا الشكل؟ من كان يظن أن تتوحد القلوب على نصرة الإسلام والحق بين مختلف البلاد؟ من كان يظن أن تصبح الشهادة والجهاد حلم كثير من الشباب الذي كانوا يعدونه للمسابقات الغنائية؟
من كان يعتقد أن الأمور ستتصاعد لتكشف الأقنعة عن زيف كثير من الشعارات والمبادئ البراقة في الميدان، وأن بريق كثير من الشخصيات سيذوب عند المحطات التاريخية، وبالمقابل سنشهد قريباً قوافل من الأسماء البارزة تنضم للصحوة الإسلامية الثانية تشابه موجة تحولات الثمانينات من اليسار والقومية إلى التيار الإسلامي كطارق البشري ومحمد عمارة ومنير شفيق وغيرهم، وذلك بسبب انكشاف الحقائق وأن تبديل هوية الأمة واستلاب مقدراتها هو الغاية الحقيقية من وراء الصدام مع المشروع الإسلامي.
نعم، إن الدعوة الإسلامية زاحفة وقادمة شاء من شاء وأبى من أبي، وهي زاحفة وليس معها قوة دولية ولا قنبلة نووية ولا قوة اقتصادية ولا إعلام محترف، معها فقط رعاية الله سبحانه وتعالى وتأييده وكفى بها من قوة.
وأظن أن الموجة الثانية من الصحوة لن تنحصر في إطار الجماعات الإسلامية والدعوية، بل سيكون للأفراد المتميزين فيها دور كبير، وسيكون التحدي الكبير أمامها هو التحول من الفردية الجذابة لمؤسسات دعوية وإعلامية وسياسية برامجية وليست شخصية، تنتهي بوفاة مؤسسها على غرار مجلة المنار التي أسسها العلامة محمد رشيد رضا وسدت فراغاً هائلاً في العالم الإسلامي قريبا من 30 سنة ثم ماتت بموته رحمه الله، ثم جاء الأستاذ حسن البنا الذي التقط خيط أهمية التنظيم فأسس جماعة الإخوان التي تتواجد بقوة مذهلة على الساحة اليوم، لكنها أصبحت ثقيلة الحركة.
وإنني أعتقد أن الموجة القادمة للصحوة سترتكز على المؤسسات البرامجية، وستتنوع اهتماماتها وتدخل مجالات جديدة مثل البيئة وحقوق الإنسان ورعاية الموهوبين وذلك لسد الثغرات التي واجهت مشاركة الإسلاميين في الحكم.
وسيكون فيها تعاون وثيق بين العلماء الشرعيين والكفاءات العلمية التخصصية للوصول لحلول وعلاجات للواقع القائم.
الموجة الثانية قادمة للصحوة الإسلامية
2014/08/01
الرابط المختصر
Image