نشهد في هذه المرحلة تزايد المحاولات الهادفة لمهاجمة السنة النبوية بأشكال وبمستويات مختلفة ومتعددة، فمرة يهاجمون شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، ومرة يهاجمون دوره في إبلاغ الرسالة واقتصاره على نقل القرآن فقط كما يفعل القرآنيين – زعموا -، ومرة نجد أنهم يصوبون سهامهم للطعن في الصحابة رضوان الله عليهم والغاية قطع الوسيلة والجسر بين المسلمين وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومرة يتوجهون للطعن في الأحاديث النبوية ومناهج المحدثين، وتارة يتحولون للطعن في مضمون الأحاديث والسنة النبوية.
وهذا ملاحظ من تزايد الكتب والمقالات والبرامج الإعلامية التي تسعى للطعن بالسنة النبوية مؤخراً، ومن اللافت للنظر انخراط بعض الشخصيات المحسوبة على الإسلاميين نسباً أو وظيفة في هذه المحاولات ولعل من أبرزها جمال البنا شقيق الأستاذ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين ومحمد حوى نجل الشيخ سعيد حوى القيادي الإخواني المعروف.
وهذه الهجمة المتزايدة على السنة النبوية دلالة على الدور الكبير للسنة النبوية في حياة الأمة اليوم، فبعد أن مرت على الأمة قرون متطاولة انتشرت فيها الأحاديث الموضوعة والضعيفة بفضل الجهل الذي كان ينشره المقلدة والجامدين والدراويش والأولياء المزعومين وشيوخ الطرق الصوفية المنحرفة، نفضت الأمة عنها هذا الجهل والوهن وأصبحت تبحث عن السنة النبوية الصحيحة وتتمسك بها، ولم يعد هذا مقصوراً على أهل الحديث أو السلفيين بل أصبح ذلك أمراً عاما مسلماً به بين جميع علماء المذاهب والدعاة والخطباء، فقد ترسخ للجميع خطورة التساهل مع الأحاديث الموضوعة والضعيفة ودورها في تشويه الإسلام ونشر الأفكار الباطلة والمنحرفة، ونشر السلوكيات الخاطئة في المجتمع.
ولذلك انتشرت أقسام الحديث في غالبية كليات الشريعة وأصبح تحقيق الأحاديث لازم لكل باحث ومؤلف وخطيب وداعية، ولم يعد مقبولاً أي خطاب إسلامي لا يلتزم بالأحاديث الصحيحة، حتى غدا هذا الأمر من أكبر المؤاخذات على ظاهرة الدعاة الجدد مثل عمرو خالد وعلى الجفري وأمثالهم.
تفطن أعداء الأمة لخطورة انتشار السنة النبوية على مشروعهم وتصادم السنة النبوية مع الرؤية الغربية الإستعمارية والرؤية البدعية المنحرفة لبعض الطوائف، لما قام علماء الأمة المصلحون بنشر السنة النبوية والدعوة للتمسك بها، وظهرت آثارها الإيجابية في حياة الناس، إذ السنة النبوية تشرح القرآن الكريم للناس وتكشف عن مقاصده وغاياته وتكمل تفاصيل الحقائق القرآنية، وترسخ في الأمة الدافعية الإيجابية وتشرع الكثير من الأحكام والأداب بصورة مستقلة، كما أن التمسك بالسنة النبوية كشف الغطاء والمستور عن انحراف وضلال كثير من الطوائف والفرق والمذاهب الفكرية العلمانية.
من هنا بدأت مهاجمة السنة النبوية في عصرنا الحاضر، في امتداد لمنهج الزنادقة والفرق المنحرفة القديم في الطعن بالسنة النبوية والتي تصدى لها كثير من أئمة الإسلام كان أولهم الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة" والذي أصل لحجية السنة النبوية وأصول الإستدلال بها.
يقول الدكتور مصطفى السباعي: ".. والذي حملهم – المستشرقين - على رُكوب الشطط في دعواهم هذه، ما رأوه في الحديث النبوي الذي اعتمده علماؤنا من ثروة فكرية وتشريعية مُدهشة" (كتابه: الإستشراق والمستشرقون، ص 22).
وإذا كان الطاعنون في السنة النبوية قديماً هم: المعتزلة والخوارج و الرافضة و الزنادقة، فإن القائمة اليوم تشمل: المستشرقين، مدعوا العقلانية من الإسلاميين والعلمانيين، والحداثيين.
ويلاحظ على هذه المحاولات الحديثة والفاشلة للمستشرقين والعقلانيين من الإسلاميين أنها في الغالب تكرار سمج لكثير من المقولات التي فندها علمائنا السابقين في مصنفات مستقلة ككتاب "مشكل الأثار" للإمام الطحاوي، أو كتاب "تأويل مختلف الحدبث" لابن قتيبة، أو كتاب "مشكل الحديث" لابن فورك، أو في مصنفات موسوعية كبيرة مثل ردود الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" والإمام ابن حجر في "فتح الباري".
وهي الملاحظة التي رصدها د. محمد زين العابدين رستم أيضاً في سلوك العلمانيين والحداثيين " إذ ينقل آخرهم عن أولهم، ولاحقهم عن سابقهم، فمقارنة قريبة بين كتابين هما: (نقد الإمام البخاري) لخليل محمد عقده وبين كتاب (جناية البخاري) لزكريا أوزون، تكشف أن منهج التناول لقضية البحث واحد، إذ يقوم هذا المنهج على عرض أحاديث البخاري حسب موضوعها والتعليق الخفيف عليها دفعا في الصدر، مع الغمز واللمز والسخرية والطنز، والأمثلةُ المأخوذة من البخاري واحدة والقضايا المثارة واحدة، قضية المرأة، قضايا أحاديث الغيب، قضايا تهم النبي صلى الله عليه وسلم إلخ...".
والملاحظة الثانية أنهم يختبأون في هذه المطاعن خلف دعوى العقلانية، ولكن كما يقول د.السباعي: " الذين ينادون بتحكيم العقل في صحة الحديث أو كذبه، لا نراهم يفرقون بين المستحيل وبين المستغرب، فيبادرون إلى تكذيب كل ما يبدو غريبا في عقولهم، وهذا تهور طائش ناتج من اغترارهم بعقولهم من جهة، ومن اغترارهم بسلطان العقل، ومدى صحة حكمه فيما لايقع تحت سلطانه من جهة أخرى"، (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص36). وأيضاً تجدهم رغم ادعائهم العقلانية إلا أنهم متعارضون في قبول الأحاديث ورفضها، علمانييهم ومستشرقيهم وإسلامييهم مما يؤكد ضلال مسلكهم وأنهم مبني على الهوى لا العلم والتقوى.
وهذه المحاولات العصرية الفاشلة كشف عوارها كثير من الباحثين في كتب مطبوعة مثل: كتاب (موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية) للأمين الصادق الأمين، وكتاب (موقف المدرسة العقلية الحديثة من الحديث النبوي الشريف) لشفيق بن عبد الله شقير، وبحث الأستاذ الدكتور ياسر الشمالي (عرض الحديث على القرآن).
ومما يؤسف له أن كثير من الرسائل الجامعية الأردنية التي تصدت لهذه المطاعن لم تخرج إلى عالم المطبوعات بعد، مثل: رسالة دكتوراة (طعون المعاصرين في أحاديث الصحيحين الخاصة بأسباب النزول والتفسير بدعوى مخالفة القرآن) لعلي صالح علي مصطفى، بإشراف الأستاذ الدكتور محمد عيد الصاحب، ورسالة دكتوراة (الحداثة وموقفها من السنة النبوية دراسة نقدية) للحارث فخري عيسى عبدالله، وبإشراف الأستاذ الدكتور شرف محمود القضاة، واعتقد أن طباعة هذه الرسائل الجامعية ضرورة علمية مستعجلة، حتى لا تبقى هذه الجهود حبيسة الجدران ولكي تأدى غرضها بتوعية الأمة والدفاع عن سنة نبيها بوجه المغرضين.
ومع هذا كله فإن كل منصف يرى بوضوح رسوخ مشروعية السنة النبوية في حياة الأمة، وأن كل من حاول الطعن فيها كان مآله الخسران، وإلا فأين تأثير جهود المستشرقين وأبو رية وأمثالهم في الأجيال الحاضرة ؟
يا ناطح الجبل العالي ليكلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
وذلك أن في المسلمين دوماً من يفدون السنة النبوية بأرواحهم، ويقومون بالدفاع عنها أمام كل مغرض ومضلل، ونحن نعلم أن هذه المحاولات لن تتوقف خاصة في هذه المرحلة التي تشهد حضوراً قوياً للسنة النبوية، والذي ستلاقى مخططات خبيثة من الكيد لها عبر هجمات تلبس لبوس الإسلام والعلم، وكما قال الشاعر:
إن عادتْ العقربُ عُدنا لها وكانت النعلُ لها حاضره
إن تاريخ المسلمين شهد الكثير من الجهود العلمية النقدية المباركة في علوم السنة النبوية، كان الدافع لها الإخلاص للسنة النبوية والحب لها، ولذلك تلقاها العلماء بالقبول وناقشوا أصحابها وقبلوا الصواب فيها، وحتى لو كان ذلك بخصوص أصح الكتب في السنة وهما الصحيحين، ولذلك فإن جهود أمثال الحافظ الدارقطني والحافظ أبو مسعود الدمشقي والحافظ أبو علي الجياني الغساني، والحافظ وأبو بكر الإسماعيلي والحافظ عبد الغني الأزدي وأبو الحسن القطان الفاسي، فلا تزال كتب أهل العلم تثنى عليهم وتتفق معهم وتختلف، لأنهم أصحابة نية سليمة، ولأنهم التزموا المنهج العلمي الحديثي، وإن خالفوهم في نتائجهم.
وختاماً فكما أن الأمراض والألم رحمة من الله عز وجل لأنها تكشف مواطن الضعف ومداخل الأعداء، ولولاها لهلك الإنسان فجأة بالمرض دون أن ينتبه ويتعالج، لأن الذي لا يمرض ولا يتألم هو الميت والجماد، (وربما صحت الأجسام بالعلل) كما يقول المتنبي، فإن الطعن والهجوم على السنة النبوية لهو دليل على عافية الأمة وسلامتها، ولذلك فإن هذه المطاعن تكشف للأمة عن أعدائها الذين كانت تحسن الظن فيهم، وتدلها على المواطن التي ينبغي زيادة التحصين لها، كما قال تعالي " لا تحسبوه شراً لكم بل هو خيراً لكم "، (النور، 11).
ومن أجل الوقاية من أخطار هذه المطاعن على السنة النبوية ينبغي على أقسام الحديث في كليات الشريعة أن تحرص على استقطاب الكفاءات المخلصة المشهود لها بسلامة المنهج ونقاء السريرة من جهة، والتجديد في المناهج التعليمية بحيث تشمل تفنيد هذه المناهج الفاسدة بأدوات البحث العلمي والموضوعي.
الهجمة على السنة النبوية دليل على العافية !!
2014/06/01
الرابط المختصر
Image