الوحي الرباني ورعاية وتكريم العقل

الرابط المختصر
Image
الوحي الرباني ورعاية وتكريم العقل

إن من أول مظاهر رعاية وتكريم الوحي الرباني للعقل أنه لا يتعامل إلا مع العقلاء من الناس، أما مَن فقد عقله فهو ليس مخاطباً ومكلفاً في منهج الوحي الرباني أصلاً، ولذلك حرص الوحي الرباني المتمثل بالقرآن الكريم والسنة النبوية في أحكامه وتشريعاته على صيانة العقل من الضياع والزلل فحرّم الخمر وما شابهها مثل المخدرات والمفتّرات أو يعطله عن القيام بوظيفته مثل التقليد الأعمى واتباع الهوى والتعصب لغير الحق كما حرم الخرافات والتشاؤم والكهانة والسحر والشعوذة.
وهذه الرعاية والتكريم للعقل تتكامل مع منهج الوحي الرباني بمنع العقل من التوغل فيما لا طاقة له به من علم الغيب والتشريع العام لانعدام أدوات صحيحة تُعين العقل على الإبحار في هذه المجالات.
ففي مجال الغيب نرى كيف ضلت البشرية خلف خرافة التطور التي جاء بها داروين بمحاولة فهم كيفية بدء خلق الإنسان بعيداً عن نور الوحي الرباني، والذي فصل حقيقة بدء الخلق في آيات قرآنية وأحاديث نبوية عديدة من أن الله عز وجل خلق الإنسان خلقاً تاماً مباشراً، منها قوله تعالى: "إن مَثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كُن فيكون" (آل عمران: 59)، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب، والسهل والحزن وبين ذلك" رواه الترمذي وصحّحه الألباني، والواقع يثبت ضلال خرافة النشوء والارتقاء والتطور كلما تقدم العلم في زماننا وأثبت الخلق التام من عصور سحيقة، فضلا عن عجز خرافة التطور عن تعليل توقف التطور من آلاف السنين إذا كان هذا التطور حقيقة! مما حدا بالتطوريين إلى ممارسة الاستبداد والقمع ضد خصومهم من العلماء والباحثين في الجامعات ومناهج التعليم في أرض (التنوير الأوربي) وعلى نهجهم الاستبدادي بمخالفة العلم والوحي يمضي أتباعهم في بلادنا المسلمة!
ومِن صور تكريم الوحي الرباني للعقل ورود لفظة العقل ومشتقاتها في القرآن الكريم 59 مرة، كلها تذم حالة تغيب العقل عن الإنسان، وهذا بخلاف ما ورد في القرآن الكريم من مرادفات العقل كالألباب والأحلام أو بيان أعمال العقل من التدبر والتفكر والنظر والاعتبار والفقه والعلم، والتي ترد بصيغة المدح والكمال.
والعقل في مفهوم الوحي الرباني هو صفة ومعنى وليس شيئا ماديا، فالمجنون يملك دماغاً ولكنه يفتقد العقل، ويُقصد بالعقل الغريزة المدركة والمعارف الفطرية والعلوم الضرورية العامة وإدراك المعارف النظرية والعمل بمقتضى العلم.
وقد أشار القرآن الكريم إلى أن العقل يكون في الأفئدة والقلوب، فقال تعالى: "أفلم يسيروا في الأرض فتكونَ لهم قلوبٌ يعقلون بها" (الحج: 46)، فالإنسان إذا خاف تقلّب قلبه قبل كل شيء، وفي عصرنا الحاضر قد ثبت مع تطور الطب وإمكان نقل القلوب بين الناس أن مشاعر وسلوك وتفكير من غُير قلبه يتقلب! وثبت طبياً وجود وظائف أخرى للقلب سوى ضخ الدم من إفراز أوامر عاقلة للجسد، وهذا لا يتعارض مع وجود دور للدماغ في عملية التعقل، فالقضية تكاملية بين القلب والدماغ، ولكن الوحي الرباني منذ 1400 سنة يجعل المركز والأصل للعقل هو القلب.
ومن رعاية الوحي الرباني وتكريمه للعقل أن آيات القرآن الكريم والسنة النبوية جاءت بالكثير من الإشارات العقلية والأدلة المنطقية، وهو ما يسميه العلماء الأدلة النقلية العقلية، حيث أن العلماء قسّموا الدليل الشرعي إلى قسمين:
الأول: هو الأدلة النقلية/السمعية، وهي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والتي تتعلق بما لا يُعلم إلا بخبر صادق من جهة الوحي/الخبر، كصفات الله عز وجل ووصف الجنة ويوم القيامة وخلق الكون، والتشريع العام للبشرية، فلا سبيل لمعرفة ذلك بالعقل المجرد لانعدام الإمكان، ولمّا حاول البعض ذلك تناقضوا تناقضات عديدة ومريرة تسببت بكوارث قاتلة، ولعل من أمثلة ذلك جرائم هتلر التي هدفت لإعلاء الجنس الآري، أو قتل المرضى والضعفاء أو محاولة تشريع إباحة الإجهاض مما قتل ملايين الأجنة.
والقسم الآخر: هو الأدلة النقلية العقلية/السمعية العقلية، وهي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تحتوي على دليل أو إشارة عقلية كالأمثال المضروبة في القرآن الكريم والسنة النبوية وأدلة الخلق والنبوة والبعث، فيقول الإمام القاضي عياض في كتابه الشفاء عن وجوه إعجاز القرآن: "فجمع فيه من بيان علم الشرائع والتنبيه على طرق الحجاج العقليات والرد على فرق الأمم، ببراهين قوية وأدلة بيّنة سهلة الألفاظ موجزة المقاصد، رام المتحذلقون بعدُ أن ينصبوا أدلة مثلها فلم يقدروا عليها"، وقال الإمام السيوطي في الإتقان: "قال العلماء: قد اشتمل القرآن العظيم على جميع أنواع البراهين والأدلة، وما مِن برهان ودلالة وتقسيم وتحرير يبنى من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله قد نطق به، لكن أورده على عادات العرب دون طرائق المتكلمين"، وهو ما يقرره شيخ الإسلام ابن تيمية مرارا في كتبه كقوله في منهاج السنة: "والكتاب والسنة يدلاّن بالإخبار تارة، وبالتنبيه تارة، والإرشاد والبيان للأدلة العقلية تارة، وخلاصة ما عند أرباب النظر العقلي في الإلهيات من الأدلة اليقينية والمعارف الإلهية قد جاء به الكتاب والسنة مع زيادات وتكميلات لم يهتدِ إليها إلا من هداه الله بخطابه، فكان فيما جاء به الرسول من الأدلة العقلية والمعارف اليقينية فوق ما في عقول جميع العقلاء من الأوّلين والآخرين".
ومن طرائق الأدلة النقلية العقلية/ السمعية العقلية: ضرب الأمثال في القرآن والسنة، والذي يقوم على القياس العقلي للشيء على نظيره، كقوله تعالى عن مثال البعث والإحياء في الآخرة بإحياء الأرض الميتة بالمطر: "ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزّت وربَت إن الذي أحياها لمحي الموتى" (فصّلت: 39)، واستخدم الوحي الرباني قياس الأولى كقوله تعالى: "ولله المثل الأعلى" (النحل: 60) في إثبات كل كمال لله عز وجل، وتكرر في الوحى استعمال السبر والتقسيم كقوله تعالى: "أم خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون" (الطور: 35) حيث حصرت الآية الاحتمالات العقلية للخلق، ومن طرائق الأدلة العقلية النقلية نفي الدليل والحجة المؤيدة للكفر والشرك، كقوله تعالى: "ائتوني بكتاب من قَبْل هذا أو أثارة من عِلم إن كنتم صادقين" (الأحقاف: 4).
وبهذا يتميز الوحي الرباني الخاتم، والمتمثل بالقرآن والسنة، بأنه يكرم العقل ويرعاه ويخاطبه ويتفاعل معه، بخلاف ما حصل من تصادم وتناقض مع العقل والعلم والواقع لدى الأمم الأخرى.