تقرر معنا في المقالات السابقة ربانية الوحي للأنبياء، وأنه مصدر المعرفة الصحيح والوحيد لعالم الغيب والتشريع العام للبشرية، وأن الرسالة المحمدية المتمثلة بالقرآن الكريم والسنة النبوية هي الوحي الخاتم في العالم والذي يتناغم مع عقائده ومفاهيمه وتشريعاته وأخلاقه والعقل الصحيح والفطرة السليمة.
واليوم نستعرض جانباً آخر في قضية الوحي وهي كيفية فهمه وتعلمه وتطبيقه، فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الوحي الرباني سيواجه صنفين من المعترضين في قوله عليه الصلاة والسلام: "إن منكم مَن يقاتل على تأويل هذا القرآن؛ كما قاتلتُ على تنزيله" وبيّن عليه الصلاة والسلام أن المعني بالصنف الأول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أخرجه النسائي في "خصائص علي" وابن حبان وصححه الألباني.
فالمعترضون على الوحي الرباني صنفان: صنف ينكر ربانية الوحي وصحته ومشروعيته، والذين "قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم على تنزيله" وهم الكفار والملاحدة في القديم وأمثالهم في الحاضر، وفي المقالات السابقة أبطلنا شبهات منكري الوحي الرباني قديماً وحديثاً، وبيّنا صحة الرؤية الإسلامية للوحي الرباني ودوره في استقامة وسعادة ونهضة المسيرة البشرية.
وصنف ثان يقبل بالوحي الرباني ويقرّ له لكنه لا يلتزم بفهم الوحي وتأويله على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ما وقع فعلاً في مقاتلة علي بن أبي طالب من اتباع ابن سبأ من الخوارج الذين كفّروا وقتلوا المؤمنين، ومِن غلاة التشيع الذين ألّهوا علياً، رضي الله عنه، ثم تناسلت الفرق والمقالات البدعية قديماً وحديثاً، وإن استجد في واقعنا المعاصر اقتحام الكفار والملاحدة والزنادقة ساحة الإفتاء والتعليم والتأويل الإسلامي، سواء على صعيد التنظير عبر المناهج العلمانية والحداثية والمصادمة للوحي الرباني ومشروعيته أصلاً، أو على صعيد الفتاوى الجزئية والمواقف التفصيلية -وغالبهم ممن لا علاقة له بالعلوم الشرعية- والتي تهدم أحكام الشريعة الإسلامية فتُحل المحرمات من الربا والزنا والخمر، وتُحرم الحلال والواجبات الشرعية كالحجاب وأنصبة الميراث!!
وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من ظهور التأويل الباطل الذي يخالف بلاغه وتعليمه للوحي الرباني والذي أخذه عنه أصحابه رضي الله عنهم، والذين شهد له ولهم الله عز وجل بالإيمان الصحيح والفهم السديد، فقال تعالى عن كفار قريش: "فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق" (البقرة: 137)، فجعل الله سبحانه وتعالى إيمان كفار قريش بمثل ما آمن به النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضوان الله عليهم علامة الهداية، وذلك لأنه سبحانه وتعالى قد رضي إيمانهم، فقال جل وعلا: "والسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم" (التوبة: 100).
فمهمة الرسل والأنبياء عبر تاريخ البشرية هي تبليغ رسالة السماء والوحي الرباني للناس كما في قوله تعالى: "فهل على الرسل إلا البلاغ المبين" (النحل: 35)، وقال عز وجل عن نبينا عليه الصلاة والسلام: "وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين" (التغابن: 12)، وقال تعالى:" يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين" (المائدة: 66)، فوظيفة النبي والأنبياء عليهم السلام البلاغ وتبليغ الوحي الرباني، وليس البلاغ فحسب، بل البلاغ المبين، وهو كما يقول الشيخ السعدي في تفسيره للآية: "البلاغ المبين الذي يحصل به توضيح الأمور المطلوب بيانها"، وإلا ما فائدة نزول الوحي الرباني إذا كان غير مفهوم ولا معنى محددا له؟ فكيف ستحصل به الهداية؟ وكيف سيخرج المؤمنون به من الظلمات إلى النور؟
فمِن أهم جوانب التبليغ المبين للوحي الرباني تعليم النبي عليه الصلاة والسلام للناس "كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون" (البقرة: 151)، "لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" (آل عمران: 164)، وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً" رواه مسلم.
وقد شهد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم بتفوقه في تعليمهم الدين والوحي الرباني، فهذا معاوية بن الحكم السلمي يقول: "فبأبي هو وأمي ما رأيتُ معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه؛ فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني" رواه مسلم.
وأخبرنا التابعي عبد الله بن الحبيب عن منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم أصحابه الدين والوحي الرباني فقال: "حدثنا الذين كانوا يعلّموننا القرآن أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها. قالوا فتعلموا القرآن والعلم والعمل جميعا".
وهناك مجموعة كبيرة من الأحاديث النبوية الصحيحة التي يصرح فيها النبي صلى الله عليه وسلم بضرورة تعلم الدين ومعنى الوحي الرباني من خلاله، فمنها:
قوله عليه الصلاة والسلام وهو يخاطب مجموعة من شباب بني ليث بعد أن مكثوا عنده 20 ليلة: "ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم، وعلّموهم ومروهم ... وصلوا كما رأيتموني أصلي" متفق عليه، وقوله عليه الصلاة والسلام: "خذوا عني مناسككم" أي صفة الحج، رواه مسلم.
وخاطب النساء لما طلبن منه يوماً يعلمهن فيه الدين، فقال: "اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا وكذا" فاجتمعن فأتاهن صلى الله عليه وسلم فعلّمهن، رواه البخاري وجعله تحت عنوان: تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الرجال والنساء مما علمه الله.
وبيّن النبي صلى الله عليه وسلم شمول وظيفته التعليمية لأمته فقال: "إنما أنا لكم مثل الوالد، أعلمكم: إذا ذهب أحدكم إلى الخلاء فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستنجِ بيمينه" رواه النسائي وحسنه الألباني.
وقد علِم الصحابة أن النبي عليه الصلاة والسلام هو المعلم، فها هو صفوان المرادي يقول للنبي عليه السلام: إني جئت أطلب العلم، فيجيبه النبي عليه الصلاة والسلام: "مرحبا بطالب العلم، إن طالب العلم لتحفّه الملائكة بأجنحتها .." رواه ابن ماجه وحسنه الألباني.
ولن أستطيع الاسترسال مع الأحاديث التي تبيّن شمول تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأمّته أمور الدين وتفاصيل الوحي الرباني، وبهذا يتبين لنا خطورة الانحراف عن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لكليات وتفاصيل الدين والوحي الرباني لتأويلات باطلة ومنحرفة من غيره صلى الله عليه وسلم، وهي الظاهرة التي تنتشر اليوم بين المسلمين والمسلمات بسبب جهلهم بالوحي الرباني قرآناً وسنة.
الوحي تبليغه وتعليمه مهمة النبي صلى الله عليه وسلم
2018/08/01
الرابط المختصر
Image