الغلو والتطرف وتنظيمات الخوارج لن تنتهي بتبخّر داعش من الموصل، فقد سبق لجماعة داعش أن تبخّرت في تكريت والفلوجة وتدمر وغيرها!
فداعش تتركب من أمرين، الأول: فكر منحرف يتغذى على الجهل والغباء، وهذا أمر لن ينتهي في الناس، ولذلك أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن فكر الخوارج سيستمر ظهوره متقطّعا حتى قيام الساعة، فقال عليه الصلاة والسلام: "سيخرج أناس من أمتي من قِبل المشرق يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، كلما خرج منهم قرن قُطع، كلّما خرج منهم قرن قُطع -حتى عدّها زيادة على عشر مرات- كلما خرج منهم قرن قُطع، حتى يخرج الدجال في بقيتهم" رواه أحمد وصحّحه أحمد شاكر.
والثاني: تنظيم وكيان يسهل اختراقه والتلاعب بشبابه وصبيانه، ويسهل أيضا اختلاقه والمتاجرة به من قِبل الأعداء والخصوم؛ ومن هنا فإن احتمالية بقاء تنظيم داعش أو ظهور داعش 2 أو ظهور مسمى جديد احتمالية كبيرة جداً، خاصة مع توفر المناخ العدواني تجاه المسلمين السنة في العراق وسوريا، والذي لا بوادر لزواله والقضاء عليه.
وإذا كان تنظيم داعش قد حظي من قبل البعض بالتأييد والتعاطف والانضمام بسبب انخداعهم بشعاراته البراقة وخطاباته الرنانة ومقاطعه الهوليودية وإعلانه للخلافة المزعومة، فإن كثيرا من هؤلاء الناس يُفترض فيهم اليوم أنهم قد أدركوا الحقيقة، وأن داعش بلاء وليس بدواء أو حلّ، حتى للمجرمين الطائفيين الإرهابيين في العراق وسوريا.
إن مما يجب تعلّمه بوضوح ونشره علانية بين جميع الشباب والناس، وبكل الوسائل والأساليب أن منهج الغلو والتطرف منهج منحرف باطل في الدين والدنيا، وأنه لا ينتج عنه إلا خراب الدنيا وخسران الآخرة، ومن يدقّق في أفعال داعش ونتائجها يوقن بصدقِ وإعجازِ السنة النبوية حين وصفت الخوارج بكلاب النار!
فالغلو والتطرف والخروج هي نتاج الجهل بالدين "يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم"، أي أن القرآن لم يتجاوز طرف لسانهم فلا يصل معناه إلى قلوبهم أو عقولهم.
وسبب ذلك بُعدهم عن مجالس العلماء الربانيين واعتمادهم على أصحاب الحناجر، ففكر التطرف في عصرنا الحاضر نبَع من السجون وتحت التعذيب الظالم ومن قبل جنود يفتخرون بمحاربة الإسلام في العهد الناصري، وتبعه على ذلك أنظمة أخرى.
وتواصل اليوم الدعوات العلمانية المتطرفة بتوليد مزيد من مناخ الجهل المفرخ للتطرف والغلو، فدعوات تحجيم تعليم الدين في المدارس والجامعات وتقليص بناء المساجد ومحاربة الدعاة والمؤسسات الإسلامية الخيرية والثقافية ومحاولة اختراع إسلام "دايت" يناسب العلمانية .. كلها في الحقيقة قنابل موقوته لتفجير حالة غلو وتطرف أشد وأوحش!
ولا يمكن محاربة الغلو والتطرف إلاّ بِنشر العلم الشرعي الصحيح كما فعل الصحابي الجليل عبد الله بن عباس، رضي الله عنه، والخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، حين ناظرا الخوارج بحوار شرعي علمي فأنقذ الله بهم الآلاف من الخوارج للهداية وجنّب الأمة فتنا كبيرة، وفي عصرنا الحاضر كان للعلماء الكبار كابن عثيمين والألباني، رحمهما الله عز وجل، وغيرهما دور كبير في إطفاء فتنة التطرف والإرهاب في الجزائر، والتي غذتها أجهزة الأمن هناك كما كشفت اعترافات بعض الضباط المنشقين، حين كان العلماء يتحاورون مع الشباب المختبئ في الجبال عبر الهاتف، وقد سجل جانبا من ذلك كتاب "فتاوى العلماء الأكابر فيما أهدر من دماء في الجزائر" للشيخ عبد المالك الرمضاني.
إن العالم اليوم -بكافة أديانه- يتّجه للدين، ولا يمكن أن يحارَب فكر الغلو والتطرف والانحراف الديني إلا من خلال التدين الصحيح والعلم الشرعي السليم، وأي محاولة لمعالجة فكر التطرف والخوارج بفكر منحرف ديني آخر، سواء ببعث التصوف السكوني الخرافي أو التعصب المذهبي أو ترويج العلمانية والليبرالية لن تحل المشكلة بل ستضاعفها وتعمّقها، وتقدم المببرات والحجج لتقبل فكر التطرف والغلو على أنه الحل لواقع المسلمين، ومن المقرر في عالم الطب أن العلاج الخاطئ له نتائج وخيمة، وهذا ينطبق على أمراض الفكر والدين أيضاً، وفي قصة الراهب الذي منع وقوع التوبة لقاتل الـ 99 نفسا، والذي قتله، ثم ذهب لعالمٍ فأرشده لطريق التوبة الصحيحية، عِبرة لخطورة العلاج الديني الخاطئ لمشاكل التطرف.
ونحتاج أيضا لتوقي خطر التطرف والغلو في مرحلة ما بعد داعش من الوعي السليم بحقيقة نتائج هذه التنظيمات وأنها لا تجلب إلا المصائب والكوارث. وهذا جانب –للأسف- مُغفل عن بيانه للناس، فهذه التنظيمات منذ أيامها الأولى وهي تقترف جريمة تكفير المسلم بغير حق أولاً، ثم تقوم بجريمة قتله ظلماً وعدواناً.
ففي حادثة الكلية الفنية سنة 1974، أباح الخوارج قتل حرّاس الكلية! وفي سنة 1977 قَتل تنظيم شكري مصطفى وزيرَ الأوقاف الشيخ الذهبي برصاصة في رأسه خرجت من عينه! وفي سنة 1979 هاجموا الحرم المكي وقتلوا المصلّين وعطّلوا الصلاة والطواف 14 يوماً! وفي سنة 1989 اغتالوا الشيخ عبد الله عزام في بيشاور بباكستان! وفي سنة 1994م قتلوا 16 من المصلين في صلاة الجمعة بمدينة أم درمان بالسودان، وفي سنة 2001 اغتالوا أحمد شاه مسعود بأفغانستان.
أما جريمتهم الكبرى والبارزة فقد كانت في العراق وسوريا، إذ في ظل احتلال العراق قتلوا عشرات العلماء والقادة والساسة والجنود السنة، وفجّروا المساجد، ثم احتلوا مدن السنة فقط وتجنبوا الوصول لمناطق الشيعة، فجرّدوا أهلها من السلاح، ثم طبّقوا عليها جهلَهم الشرعي، فكرِه الناسُ الدينَ بسببهم، وغسلوا أدمغة آلاف الأطفال في مدارسهم، ثم انسحبوا من بعض المدن وتركوا أهلها فريسة للقوات الشيعية الطائفية التي استباحت حرماتهم وخيراتهم، ومدن أخرى كالموصل تمترسوا فيها حتى دكّت ودمّرت ثم تبخروا منها!
وفي سوريا اغتالوا عشرات القادة وقضوا على الكثير من مجموعات المقاومة وسلموا النظام النصيري ما يزيد عن 30 % من مساحة سوريا كانوا أخذوها من الثوار!
باختصار؛ إذا اجتمع التدين الصحيح والعلم الشرعي السديد وكان مناخ الدعوة مفتوحاً فإن شبهات التطرف تسقط ولا تروج، أما إذا حاصرنا التدين وشجعنا "التعلمن" باسم مكافحة التطرف فنكون قد جنينا على أنفسنا، كما حدث في تونس عقب السياسة الكارثية بتجفيف المنابع.
وإذا لم نتوسع في بيان كوارث التطرف والغلو وداعش وأخواتها للشباب في الجامعات والإعلام والمساجد لأخذ العبرة والعظة والتبصر بالخديعة التي تنصب لنا خلف مقاطع الهوليود الداعشية فنكون قد قصّرنا في حماية مجتمعاتنا من موجات التطرف والغلو والخوارج والإرهاب القادمة لا قدّر الله.
بالعلم الصحيح والوعي السليم ننجو من مخاطر ما بعد داعش
2017/08/01
الرابط المختصر
Image