من كلمات الفاروق، رضي الله عنه، التي تعد من جواهر الحكم قوله: "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية"، لأن مَن جهل أمر الجاهلية والشر لا يدرك مقدار النعمة بالإيمان والخير الذي هو فيه، كحال الصحيح والغني لا يدركان قيمة الصحة والمال إلا إذا ابتليا بفقدهما.
ولذلك علق ابن تيمية على كلام الفاروق فقال: "فإن كمال الإسلام هو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتمام ذلك بالجهاد في سبيل الله، ومن نشأ في المعروف لم يعرف غيره فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر ضرورة ما عند من علمه ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم ولهذا يوجد الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من الاحتراز عنه ومنع أهله والجهاد لهم ما ليس عند غيره، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم أعظم إيمانا وجهادا ممن بعدهم لكمال معرفتهم بالخير والشر وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر لما علِموه من حسن حال الإسلام والإيمان والعمل الصالح وقبح حال الكفر والمعاصي" (مجموع الفتاوي: 10/300).
وفي زماننا الحاضر لا يعرف كثيرٌ من الناس ضخامةَ الجهود الإصلاحية التي قام بها العلماء والمصلحون في القرنين الماضيين من مقاومةٍ للشرك والبدع والخرافات والجهل والتقليد والتعصب والجمود، وكم لاقوا في سبيل نصرة التوحيد والسنة ونشر العلم والدعوة للاجتهاد والتحرر والتفكر من مصاعب واتهامات وطعون وسجن وإبعاد وتضييق مما اضطرهم للاختباء أو الهروب من بيوتهم وبلادهم.
والعناية بنشر هذا التاريخ المجيد بين الناس من الجهاد في سبيل نصرة الدين وحماية جناب التوحيد من أهم الوسائل اليوم في مدافعة مشاريع الشر القادمة التي تستهدف قصف العقول عبر الإعلام وغسل الأدمغة عبر مناهج التعليم المهجنة وإضلال الأذهان عبر العمائم المصنوعة على يد الرهبان والأحبار والملحدين!
وهذه طائفة من أخبار جهاد العلماء والمصلحين لنصرة التوحيد والسنة ومنهج السلف حتى ندرك المستقبل المظلم الذي ينتظر أمتنا إذا نجحت مساعي شياطين الجن والإنس في الكيد لمنهج السلف.
كثير من الناس لا يعلم أن أهل نجد -بسبب قبولهم دعوة التوحيد ونبذ الشرك التي دعاهم إليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب- منعوا من الذهاب إلى الحج لسنوات طويلة!
وكانت تسود في مكة المكرمة عقلية التقليد والخرافة والتصوف الواقع في الشرك، وكان أهل العلم السلفيون يُخفون عقيدتهم ويخشون التصريح بها خوفا من الاضطهاد والظلم!
وعندما جاء بعض العلماء السلفيين من دول شتي إلى مكة للحج والعمرة وشى بهم بعض خصومهم للسلطات في مكة أنهم منحرفون وضالون فتعرضوا للمساءلة والسجن، فهذا محدّث الهند -بل العالَم- الشيخ نذير حسين لما ذهب للحج سنة 1300هـ، سعى خصومه من الأحناف المتعصبين والديوبنديين إلى تأليب حاكم مكة ضده فطلبه وسجنه مدة حتى تبين له أنهم مفترون عليه!
وتكرر هذا مع الشيخ تقي الدين الهلالي المغربي حين تناقش مع الشيخ حبيب الله الجكني في مكة، والذي كان قريبا من الشريف حسين وناقمًا على السلفيين، وصدف أنه جاء إلى مكة في ذلك الوقت بعض الحجاج الإندونيسيين السلفيين، ويبدو أنهم أظهروا سلفيتهم فرفع أمرهم للحاكم بأنهم وهابية! ا فأمر باستتابتهم وإلا عوقبوا، وفعلا تمت استتابتهم فتابوا! وكان من ضمن العلماء الذين استتابوهم الشيخ حبيب الله الجكني! ولما علم الهلالي بذلك خاف واختبأ ثمانية أيام خوفا من أن يعدوه من الوهابية ويدعوه الجكني للاستتابة!
هذه هي حقيقة ما لقي علماؤنا من عقبات وعراقيل في سبيل نصرة كلمة التوحيد.
وفي الشام كان الشيخ جمال الدين القاسمي يقاسي من تضييق أهل البدع والشرك، ففي سنة 1313هـ، أحضرته الشرطة وبات في السجن ليلة، ثم عُرض على القضاء بتهمة الاجتهاد وتأسيس مذهب جديد يدعى المذهب الجمالي! واستمرت وشايات الصوفيين والخرافيين تلاحقه حيث كانوا يستعينون بنفوذ أبي الهدي الصيادي في الأستانة، مما جعله يقول عن حياة الاضطراب هذه: "ولكن كيف كان الصحب والآل في هذه الليالي؟ حدّث ولا حرج!"، وفي سنة 1326هـ هجمت الشرطة على بيته وفتشته وفتشت مسجده وصادرت ثلاثة أكياس من كتبه وأوراقه! ثم هاجموه في المسجد الأموي حين استقبل هناك الشيخ رشيد رضا وأقام له درسًا، وبسبب هذا الهجوم الشديد على القاسمي لم يخرج من بيته مدة ثلاثة شهور!
أما الشيخ الألباني فقد كان يتعرض للطرد من بعض المساجد في دمشق ولا يسمحون له بالصلاة معهم! وبسبب وشايات الصوفيين وأهل البدع تم سجنه مرتين في دمشق، وحين هاجر للأردن لم يتوقف أهل البدع عن عداوته حتى أصدروا أمرًا بإخراجه من الأردن!
هكذا كانت مسيرة أهل العلم السلفيين، مسيرة حافلة بالتعب والصبر والتضحية.
وفي مصر تعرض الشيخ محمد حامد الفقي سنة 1926م للإيقاف عن الإمامة والخطابة في مسجده بسبب نشاطه في الدعوة إلى التوحيد، برغم أنه خريج الأزهر، وبسبب نشاطه في محاربة البدع من جهة، والشيوعية والإلحاد من جهة أخرى، حرّض بعض الخبثاء رجلاً أميا عليه ليقوم بقتله وفعلا أخذ سكينًا، وكان ينوي قتله، لكن الله عز وجل حماه وجعل هذا القاتل يصبح تابعا له!
والأمر نفسه يتكرر في العراق، فلمّا تعاظم التأثير السلفي للعلامة محمود الألوسي في بغداد وما حولها، لفّق له أتباع الصيادي من المتصوفة والمقلدة عدة تهم ووشايات منها: أن الألوسي يدعو للخروج على السلطان! وأنه يؤسس مذهبًا يناصب كل الأديان العداء! وأن تأثيره خطير بين الناس! فصدر الأمر بنفيه وبعض رفاقه إلى الأناضول فورًا.
وفعلاً أُخذ الألوسي ورفاقه من بيوتهم، واختبأ بعضهم وهرب البعض الآخر، ولكن تدخَّل بعض أهل الموصل وأبقوه عندهم ريثما يتواصلون مع العقلاء هناك ويبطلوا كيد أبي الهدي الصيادي وأتباعه، وعاونهم في ذلك ابن عمه علي علاء الدين؛ الذي كان يعيش في إستانبول، فجاء أمر السلطان بإبطال النفي وعودته لبلده مع إعادته لوظائفه التدريسية.
وفي الهند تعرض علماء أهل الحديث للسجن والتعذيب الشديد والنفي لجزيرة لا يوجد بها سوى الماء المالح، وكل ذلك بسبب تمسكهم بالعقيدة الصحيحة والدفاع عنها وعن بلادهم كما يأمرهم القرآن الكريم والسنة النبوية في وجه الكفار من الإنجليز وأعوانهم من الهندوس.
هذه نماذج مختصرة من حال علماء منهج السلف قبل قرنين من الزمان، ولولا توفيق الله عز وجل لهم وعنايته لهم لما عمّت أنوار التوحيد والسنة ربوع العالم الإسلامي، واليوم هناك جهل من كثير من الناس والسلفيين بالجهود العظيمة التي بذلها علماؤنا ودعاتنا من جهة، وجهل بالظلام القاتم الذي خرجنا منه، والذي يراد أن تدخله أمة الإسلام من جديد بمحاربة المنهج السلفي ونصرة المناهج المبتدعة، فهل نعي حجم الخطر ونقوم بالواجب الكبير في نصرة دين الله عز وجل لنكون من الفائزين؟