بركات الشريعة على البشرية خبرة عدي بن حاتم

الرابط المختصر
Image
بركات الشريعة على البشرية خبرة عدي بن حاتم

عدي بن حاتم هو ابن أكرم العرب حاتم الطائي الذي يضرب به المثل في الكرم والجود ، وكان رئيس قومه، وكان نصرانياً ثم أسلم سنة 7 للهجرة وعاش حتى سنة 68 للهجرة، وفي قصة إسلامه تظهر عظمة الإسلام ورفعة أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وبركات الشريعة على الناس والبشرية، هذه البركات التي جربتها البشرية طوال تاريخها كلما تمسكت بدين الإسلام الذي جاءت به جميع الرسل والأنبياء، قال الله تعالى: "أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحداً ونحن له مسلمون" (البقرة: 133)، وقوله تعالى: "إن الدين عند الله الإسلام" (آل عمران: 19)، وعن البركة قال تعالى: "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" (المائدة: 66)، وقوله تعالى: "فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا* يرسل السماء عليكم مدرارا* ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا" (نوح: 10-12). وقد جسدت قصة إسلام عدي بن حاتم نزول بركة الشريعة على البشرية، في سنوات معدودة، إذ عمّ الأمن بعد الخوف والفوضى والسرقة والنهب، وزالت الديكتاتوريات الضخمة وتلاشى الاستبداد، وحُلت مشكلة الفقر، وعمت العدالة الاجتماعية الجميع. وكل هذا بدون أحكام عرفية أو دولة بوليسية أو تأميم ومصادرة للممتلكات أو نهب لثروات الآخرين، وإنما بالإيمان بالله عز وجل وباليوم الآخر، وتطبيق الأحكام الشرعية في المعاملات والعلاقات، والأخذ بالأسباب الدنيوية الصحيحة، بهذه الثلاثية سعدت البشرية دوماً عبر تاريخها، وللأسف فإن هذا التاريخ مطموس ومغيب لصالح أساطير (حيونة) البشرية وفق أوهام نظرية التطور.    نبدأ قصة عدي ببعض ما نقله ابن كثير عن ابن إسحاق، أن عدي بن حاتم كان يقول: ما رجلٌ من العرب كان أشد كراهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به مني، أما أنا فكنت امرءا شريفا، وكنت نصرانيا، وكنت أسير في قومي بالمرباع، وكنت في نفسي على دين، وكنت ملكا في قومي لما كان يصنع بي، فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرهته، فقلت لغلام كان لي عربي وكان راعيا لإبلي: لا أبا لك، أعدد لي من إبلي أجمالا ذللا سمانا، فاحتبسها قريبا مني، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذني، ففعل، ثم أنه أتاني ذات غداة فقال: يا عدي ما كنت صانعا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات، فسألت عنها فقالوا: هذه جيوش محمد. قال: قلت: فقرب إلي أجمالي، فقربها، فاحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام، فسلكت الحوشية، وخلفت بنتا لحاتم في الحاضر، فلما قدمت الشام أقمت بها، وتخالفني خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتصيبت ابنة حاتم في من أصابت فقدم بهاعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا من طيء، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربي إلى الشام. قال: فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا تحبس بها، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه وكانت امرأة جزلة، فقالت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علي منّ الله عليك، قال: ومن وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: «الفار من الله ورسوله». قالت: ثم مضى وتركني، حتى إذا كان الغد مر بي فقلت له مثل ذلك، وقال لي مثل ما قال بالأمس. قالت: حتى إذا كان بعد الغد مر بي، وقد يئست فأشار إلي رجل خلفه أن قومي فكلّميه. قالت: فقمت إليه فقلت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد، فامنن علي منّ الله عليك. فقال صلى الله عليه وسلم: قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني، فسألت عن الرجل الذي أشار إلي أن كلميه فقيل لي: علي بن أبي طالب. قالت: فقمت حتى قدم من بلي أو قضاعة قالت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشام، فجئت فقلت: يا رسول الله قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ، قالت: فكساني وحملني وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام. قال عدي: فوالله إني لقاعد في أهلي فنظرت إلى ظعينة تصوب إلى قومنا، قال: فقلت: ابنة حاتم قال: فإذا هي هي، فلما وقفت علي استحلت تقول: القاطع الظالم احتملت بأهلك وولدك، وتركت بقية والدك عورتك. قال: قلت: أي أخية لا تقولي إلا خيرا فوالله ما لي من عذر لقد صنعت ما ذكرت. قال: ثم نزلت فأقامت عندي، فقلت لها وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعا فإن يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكا فلنتزل في عز اليمن وأنت أنت، قال: قلت: والله إن هذا الرأي. قال: فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدخلت عليه وهو في مسجده، فسلمت عليه، فقال: من الرجل؟ فقلت: عدي بن حاتم، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها. قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بملك. قال: ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفا فقذفها إلي، فقال: اجلس على هذه، قال: قلت: بل أنت فاجلس عليها، قال: بل أنت، فجلست وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض، قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك. أ.هـ وهنا ننتقل لصحيح البخاري لتكملة ما شاهده عدى في داخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وما الحوار الذي دار بينهما، فعن عدي بن حاتم قال: "بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: يا عدي هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد أنبئت عنها، قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا إلا الله،- قلت فيما بيني وبين نفسي فأين دعار طيئ الذين قد سعروا البلاد -ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: كسرى بن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه، وليس بينه وبينه ترجمان يترجم له، فليقولن له: ألم أبعث إليك رسولا فيبلغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالا وأفضل عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم. قال عدي: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اتقوا النار ولو بشقة تمرة، فمن لم يجد شقة تمرة فبكلمة طيبة، قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، يخرج ملء كفه". وعندنا رواية أخرى لهذا الحوار أوردها أبو نعيم في كتابه "دلائل النبوة" فيها مزيد من تفاصيل الحوار ونتائجه على عدي بن حاتم، فروى أبو نعيم بإسناده أن الشعبي رحمه الله دخل على عدي بن حاتم الطائي فقال: إنه بلغني عنك حديث كنت أحب أن أسمعه منك، قال: نعم، بعث النبي صلى الله عليه وسلم وكنت من أشد الناس له كراهية، وكنت بأقصى أرض العرب من الروم، فكرهت مكاني أشد من كراهيتي لأمري الأول، فقلت لآتين هذا الرجل، فإن كان صادقاً لايخفى علي أمره، وإن كان كاذباً لايخفى علي، أو قال: لا يضرني، قال: فقدمت المدينة، فاستشرفني الناس فقالوا: عدي بن حاتم. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ياعدي أسلم تسلم، قلت: إن لي ديناً، قال: أنا أعلم بدينك منك، قلت: ما يجعلك أعلم بديني مني؟ قال: أنا أعلم بدينك منك. ألست ترأس قومك؟ قلت: بلى، قال: ألست تأخذ المرباع- أي ربع الغنيمة، قلت: بلى، قال: فإن ذلك لا يحل لك، قلت: أجل، قال: فكان ذلك أذهب بعض ما في نفسي. قال: إنه يمنعك من أن تسلم خصاصة فقر من ترى حولنا، وإنك ترى الناس علينا إلباً واحداً، أو قال يداً واحدة، قلت: نعم، قال: هل أتيت الحيرة؟ ....." بنحو رواية البخاري. ولنقف بعض الوقفات السريعة مع فوائد هذه القصة، فأولاً شخصية عدي بن حاتم المتميزة، والذي كان زعيماً وسليل مجد يدرك عادات الملوك ولا تخدعه سلوكيات المخادعين، وعدي لم يكن وثنيا بل كان نصرانياً يعرف العقائد والأديان، وله صلات بالرومان وقياداتهم، ولكن سمو أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفته بدقائق دين عدي (الركوسية) والذي ليس نصرانيا خالصا، جعلت عدي يذعن ويقر ويسلم لأنه أدرك أن هذه الأخلاق العظيمة والمعرفة لا تكون لمحتال أو مخادع، مصداقاً لقوله تعالى: "وإنك لعلى خلق عظيم" (القلم: 4)، وقوله تعالى: "وعلمك ما لم تكن تعلم" (النساء: 113). الوقفة الثانية: أن عدي تساءل في نفسه كيف يمكن أن تسير المرأة في الصحراء من الحيرة والتي تقع في جنوب وسط العراق قرب الكوفة اليوم إلى مكة، دون خوف أو وجل من قطاع الطريق من قومه قبيلة طيء، وقد يكون بقي في نفسه شيء من التردد أو الشك، لكنه بعد سنوات رأى بنفسه حصول ذلك فقد طال عمره وعاش 120 سنة، فعايش بركة الشريعة الإسلامية بتأمين السبل وانقطاع دابر الجريمة، واستقرار المجتمعات وازدهارها، ثم تحقق بنفسه من النبوءة الثانية بهدم دكتاتورية فارس التي استعبدت الناس وظلمتهم، حيث كان عدي في طليعة من حرر أهل فارس من ظلم الأكاسرة، وفتح السبيل أمامهم للاندماج في سيل الحضارة الإسلامية المتدفق، فظهر منهم العديد من العلماء والأدباء الذين خدموا الإسلام والمسلمين، لكن قيام الدولة الصفوية عطل ذلك وأقام قطيعة فظيعة في هذا المجال. الفائدة الثالثة: أن هذه المعايشة لتحقق النبوءات النبوية جعلت عدي يجزم بحصول النبوءة الثالثة وهي الرخاء المادي، حتى لا تجد فقيراً يقبل الزكاة، وتحول هذا لدى عدي من إيمان بالغيب إلى حقيقة شبه ملموسة، وفعلاً سرعان ما تحققت النبوءة النبوية في زمن خلافة عمر بن عبد العزيز سنة 99هـ، إذ "كان الرجل يُخرج زكاة ماله في زمن عمر بن عبد العزيز فلا يجد أحدا يقبلها" (تاريخ واسط، ص 184)، وقال يحيى بن سعيد: "بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد بها فقيرا، ولم نجد من يأخذها مني، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها رقابا فأعتقتهم"، فعمت بركة الشريعة غير المسلمين حيث حررتهم من العبودية. وختاماً، فإن تطبيق الشريعة الإسلامية عبر تاريخ البشرية هو الذي أسعدهم فيما مضى، وهو الذي سيسعدهم حالاً ومستقبلاً، إذا حسن إيمانهم وصلحت عباداتهم ومعاملاتهم، وأخذوا بالأسباب السليمة.