تنتشر صورة قاتمة للأحوال والأوضاع العامة عند قطاع واسع من الناس، وكثيرٌ من هذه الصورة تكون من أخبار غير موثوقة ومعلومات غير مؤكدة، والأخطر أن جزءا من ذلك هو بسبب شائعات مدبرة من قبل الأعداء لنشر الإحباط والهزيمة لدى الناس، وترك العمل والجد في سبيل نهضة أمتنا وبلادنا، مما يساعدهم على إكمال مهمّتهم بالاختراق والهيمنة على مجتمعاتنا.
إن الخطوة الأولى نحو النهضة والنصر تكون بمعرفة الواقع بدقة، بإيجابياته وسلبياته، فلا نبالغ في تحسين الصورة عن حقيقتها فتصبح جميلة لكنها مزورة، ولا نبالغ في جلد الذات حتى ننتحر!
نعم؛ أمتنا تواجه تحديات كثيرة وعميقة في بعض جوانبها، لكنها أمة حية لا تموت، الخير في جنباتها دومًا، وبرغم كل ما تعرضت له من أهوال وخطوب كجحافل التتار والمغول أو غزوات الصليبيين فقد بقيت أمتنا صامدة في مواجهتهم، بل تمكنت من ابتلاعهم وهضمهم لاحقاً، وبعد حقبة الاحتلال الحديث تخلصت الأمة منهم بتضحيات كبيرة ولكنها لا تزال تعاني من بعض تبعات الاحتلال.
وبرغم ذلك دعُونا نأخذ صورة واسعة وكاملة لبعض النواحي من واقع أمتنا حتى نعرف مدى دقة الصورة القاتمة عن أمتنا وهل هي أمة متخلفة ومهزومة وميتة لا أمل لها بالحياة والانتصار كما يشيع في عبارات متداولة ونكات رائجة يبرر بها البعض تقصيره وإهماله وعدم قيامه بواجباته ومسؤولياته تجاه نفسه وأهله ومجتمعه وأمته؟
فعلى صعيد التعليم كان الجهل سائدا في بلاد كثيرة قبل عدة عقود حيث لا تجد في بعض المدن والقرى إلا الشخص والشخصين ممن يحسنون القراءة والكتابة! بينما اليوم هناك قفزة خيالية في باب محو الأمية في كثير من البلاد برغم أن النسبة العامة للأمية في عالمنا العربي لا تزال قريبة من 50%، وقد تزيد مع تعطل الدراسة منذ سنوات في أجزاء من العراق وسوريا واليمن وليبيا.
ولكن هذا التقدم في القراءة والكتابة انعكس على ارتفاع نسبة التعليم الجامعي وارتفاع نسبة التأليف والترجمة والطباعة وانتشار المكتبات الفردية والعامة.
وبرغم أن دعم البحث العلمي لا يزال يتعثر في بلادنا إلا أن أبناءنا أثبتوا علو كعبهم في ساحة العلم سواء من خلال إبداعهم واكتشافهم للكثير من الاختراعات وحصولهم على الجوائز العالمية بسبب ذلك، أو من خلال حرص العالم المتقدم على استقطاب الكفاءات من شبابنا وشاباتنا عبر الهجرة والتجنيس، إذ تقدر أعداد كفاءات شبابنا في الغرب بـ 450 ألف عربي من حملة الشهادات العليا، بحيث أن 34% من الأطباء الأكفياء في بريطانيا هم من العرب، وبسبب هذا الاستقطاب الغربي وخلل الأوضاع في بلادنا فإن 54 % من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم، وهذا يثبت أن شبابنا لديهم القدرة والقابلية للتفوق والإنجاز متى توفرت البيئة المناسبة، وقد شهدنا ذلك في تجربة العراق بالصناعة العسكرية في عهد صدام حسين، ورأينا تجربة نهضة ماليزيا وقفزة تركيا، ومن هنا يصبح التحدي الحقيقي هو: كيف نستثمر هذه الطاقات ونزيل العوائق من أمامها لتخدم بلادها وأمتها؟
وعلى صعيد الكتب والمكتبات، فقبل عدة عقود كانت الكتب والمخطوطات تجمع في دمشق من المنازل وغيرها وتباع لمن يشعل فيها النار في المطابخ والحمامات العامة! حتى بادر الشيخ طاهر الجزائري مع عدد من رفاقه لدى والي دمشق، مدحت باشا، لتكوين مكتبة عامة تجمع الكتب المخطوطة والنادرة في مكان واحد، وفعلا تم في سنة 1296هـ - 1880م تأسيس المكتبة الظاهرية كأول مكتبةٍ عامةٍ في تاريخ دمشق الحديث، ومن يومها تصاعد الاهتمام بالكتب والتراث بالتحقيق والدرس والطباعة، واليوم تتنافس الدول في إقامة المعارض الدولية للكتاب، بل أصبح هناك مكتبات ضخمة إلكترونية على شبكة المعلومات تضم عشرات الآلاف من الكتب المصورة، مطبوعة ومخطوطة، في مختلف المعارف والعلوم مما يسهم في قوة بلادنا ومجتمعاتنا.
أما على صعيد الاقتصاد فقد حرص الاحتلال الأجنبي في كثير من البلاد على أن يجلب جاليات وقوميات غريبة عن أهل البلد أو يخص بعض الأقليات التي تشابهه في المذهب أو العرق ليملّكهم مفاتيح الاقتصاد والوكالات التجارية وأن يفرض النظام الربوي على التعاملات التجارية ويؤسس محاكم تجارية لا تتقيد بالأحكام الشرعية المعتادة في بلاد المسلمين مما أحدث فوضى تجارية ضخمة وحوّل غالبية السكان إلى فقراء وأُجَراء لغيرهم.
ولكن وخلال عقود قليلة تمكن علماء أفذاذ من نقد النظام الاقتصادي الربوي، والدعوة لتأسيس نظام اقتصادي إسلامي، وبعد سنوات من التنظير والجدال حول ذلك قام د. عيسى عبده، رائد الاقتصاد الإسلامي، بمبادرة تأسيس أول مصرف إسلامي في مدينة ميت غمر بمصر سنة 1963 واستمرت التجربة 3 سنوات، ثم في عام 1972 قرر مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية في جدة إنشاء بنك إسلامي للدول الإسلامية، فتأسس البنك الإسلامي للتنمية سنة 1974 كبنك خاص بالحكومات لا يتعامل مع الأفراد، وفي 1975 تم إنشاء بنك دبي الإسلامي، وبدأت عندها مسيرة البنوك الإسلامية في دول العالم، وتميزت ماليزيا تبنّيها الاقتصاد الإسلامي، حيث تم إنشاء أول بنك إسلامي عام 1983م، وبعد 10 سنوات تم تحويل كافة البنوك فيها لتصبح إسلامية في عام 1994م.
ولم يقتصر هذا على الدول والبنوك الإسلامية بل أخذت البنوك الربوية العالمية تفتح أقساما وفروعا إسلامية تابعة لها، فكانت البداية من مجموعة سيتي جروب عام 1996، ثم لحق بها بنوك من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وهولندا وسويسرا، حيث يبلغ عدد البنوك الإسلامية في العالم اليوم 500 بنك في 73 دولة.
وأصبحت مصطلحات الفقه الإسلامي "المشاركة"، و"الصكوك"، و"التكافل" متداولة في قواميس البنوك الغربية، وأخذت البنوك ومجالس التشريع في الغرب وأمريكا واليابان وغيرها تقيم الندوات المتخصصة حول الاقتصاد الإسلامي ودوره في إنقاذ الاقتصاد العالمي، خاصة بعد أزمنة الديون في أمريكا سنة 2008.
وهذا يضع على عاتق المختصين بالاقتصاد الإسلامي مسؤولية حمايته من الانحراف والتشويه، خاصة مع إعلان صندوق النقد الدولي مطلع العام 2017 عن توجهه لإدراج التمويل الإسلامي ضمن خطته الرقابية، ومن جهة أخرى فعليهم التحسين والتطوير في آلياته نحو تحقيق المزيد من مقاصد الشريعة الداعية للتجارة والربح الحلال بالمشاركة الحقيقية والمضاربة وغيرها من صور التعاملات لتقديم حلول عصرية ناجحة للأزمات الاقتصادية العالمية تتوافق مع أحكام الشريعة وتنقذ البشرية من أضرار الربا وجشع المرابين العظام.
وعلى صعيد الفرد المسلم والفرد العربي فقد أثبت على مر العصور صلابته وبسالته وكرم معدنه، فبرغم تكرر موجات الغزو والعدوان إلا أنه ينتصر ويتفوق مع قلة العتاد وانعدام النصير، فمن تتبّع حركات المقاومة لظلم المحتلين من أقصى الشمال المغربي سيجد آلاف الأبطال بقيادة الشيخ ابن باديس والبشير الإبراهيمي في الجزائر، والشيخ محمد عبد الكريم الخطابي في المغرب، والشيخ عمر المختار في ليبيا، وفي فلسطين والشام قام العلماء والمجاهدون بقسط وافر من المقاومة، وفي الهند كان الشهيد أحمد عرفان، وفي كل مكان وجد مقاومة للاحتلال.
وفي معركتنا مع اليهود لنا سجل ناصع أبرز حقيقة الجندي العربي والمسلم عسكرياً أو متطوعا إذا توفرت له القيادة المستقيمة، ففي معركة الكرامة عام 1968 تناغم الجيش الأردني والفدائيون، ولقنوا الصهاينة درسا صعباً، وفي عام 1973 هَزم الجيش المصري اليهود وعرّفهم حقيقتهم، وفي الانتفاضة الأولى عام 1988 عجز جيش اليهود عن مواجهة الحجارة، وفي مخيم جنين عام 2002 هَزم بضعة رجال جيشَ اليهود بأجمعه، وفي هبة الأقصى الأخيرة عام 2017 أرغم الفلسطينيون العزّل دولة اليهود على التراجع عن عدوانها على المسجد الأقصى.
إن ثبات أهل فلسطين عليها برغم ما يصيبهم من تنكيل وخيانة لهو نموذج متكرر في كثير من البلاد التي تُستهدف بالظلم والطغيان لإجبار أهلها على الرحيل والهجرة، ولكنهم برغم ذلك يقاومون ويثبتون على أرضهم، فهذه الشعوب -برغم ما فيها تقصير- إلا أن معدنها نفيس، والمحن والابتلاءات تكشف عن معدنها وتصقله، فاستبشروا رغم الألم والحزن.
أما في عالم السياسة الذي تشوبه الكثير من الخطايا والآثام وتنتشر في أرجائه رائحة الخيانة والتقصير والمؤامرات والدسائس إلاّ أن فيه جوانب مضيئة وجهودا خيرة كثيرة لكنها لا تجد من يوضحها للناس. فهل مواقف من مثل موقف الملك فيصل في حرب العبور عام 1973 بمنع توريد البترول للغرب يمكن أن ينسى! وهل موقف الملك حسين بإرغام نتنياهو على علاج خالد مشعل وإخراج الشيخ أحمد ياسين يمكن أن يزول من الذاكرة!
إن تسليم المشير سوار الذهب السلطة في السودان لقيادة مدنية سنة 1986 كان لحظة فارقة في التاريخ السياسي، واليوم نجد محاضير محمد يتخلى عن السلطة طواعية سنة 2002، وفي تركيا يصبح عبد الله غول رئيساً سابقاً لتركيا ولا يحاول الاستبداد بالحكم أو شق الحزب سنة 2014، وفي نفس السنة سلّم المنصف المرزوقي الحكم في تونس للفائز في الانتخابات.
وبرغم كل الفساد الموجود في كثير من الحكومات والبرلمانات والأحزاب في عالمنا العربي والإسلامي، إلا أنها أيضا لها جهود مهمة وإيجابية، ومن آخر الأمثلة انسحاب أمريكا ودولة اليهود من منظمة اليونيسكو نتيجة جهد سياسي عربي قاده الأردن لفرض قضية القدس على أجندة المنظمة.
وقد جاء تصريح مرزوق الغانم، رئيس البرلمان الكويتي، في وجه ممثلي برلمان دولة اليهود صفعة تاريخية ستبقى الأجيال تتذكرها، وتشكر الساسة الشرفاء على مواقفهم المشرفة.
ختاما؛ نحن لا نعيش في الضياع التام والهزيمة الساحقة كما يحب أعداؤنا أن نقتنع بذلك، نحن نعيش في عالم صعب، فيه الجيد والسيئ والصالح والطالح، وعلينا أن نرى الصواب ونشجعه وندعمه ونقف بجواره ونقلده، ونعرف الشر ونتجنبه ونسعى في علاج مشاكلنا والبحث عن حلول لها، وترك الندب والعويل، فهذا وقت العمل والجد وزمان ظهور الأبطال والمثابرين.
بكامل الصورة ننجو من الإحباط والتهور 2-2
2017/10/01
الرابط المختصر
Image