ها نحن على مشارف توديع شهر رمضان بعد أن كنا في حالة ترقب وتشوق لقدومه، وصدق الله العظيم في وصف قلة زمان رمضان بقوله: "أياما معدودات" (البقرة: 184)، نسأل الله أن نكون جميعاً ممن حظي بالقبول وفاز بالعتق وبُشّر بالقبول إن شاء الله.
فهذه عدة تأملات في فريضة الصيام من معين القرآن الكريم، الذي هو رفيق وأنيس الصائمين والقائمين والمعتكفين في هذا الشهر المبارك.
1- يقول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم" (البقرة: 183)، وفي هذا إشارة صريحة إلى أن شعيرة الصيام شعيرة عرفتها الأمم السابقة وكانت مفروضة وواجبة على المؤمنين عبر العصور.
وفي هذا أيضًا دلالة صريحة إلى وحدة البشرية وعالمية الإسلام، فالإسلام والقرآن يصرحان مراراً وتكراراً أن البشرية كلها من أصل واحد، وهو آدم عليه السلام، الذي خلقه الله عز وجل خلقاً تماماً مباشراً من الطين "إذ قال ربك للملائكة إني خالقٌ بشراً من طين" (ص: 71)، وهذا يهدم كل مزاعم نظريات التطور وأن الإنسان تطور من حيوانات سابقة! ولذلك فإن البشرية عبر تاريخها الطويل وحاضرها الممتد -وبرغم تعدد شعوبها وأجناسها وألوانها وألسنتها- كلها تخضع لنفس المعايير والسنن الربانية.
وأيضاً فإن القرآن الكريم يصرح مراراً وتكراراً بأن البشرية كلها والكون كله من خلق الله عز وجل "الله خالق كل شيء" (الزمر: 62)، وأن البشرية بأجمعها مطالبة بالعبودية لله عز وجل والدخول في الإسلام، وبهذا جاءت الرسل والأنبياء لكل الأمم والشعوب "ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت" (النحل: 36)، وقال تعالى: "إن الدين عند الله الإسلام" (آل عمران: 19).
ومن هنا فإن أركان الإسلام الخمسة: شهادة التوحيد، الصلاة، الزكاة، الصيام، الحج، لا تختص بأمة محمد عليه الصلاة والسلام، بل هي أركان الإسلام الدين الشامل للبشرية جمعاءن وكذلك هو حال أركان الإيمان الستة.
فبخصوص أركان الإسلام نجد كل الأنبياء طالبوا أممهم بشهادة التوحيد وعبادة الله وحده كما تقدم، وكل الأنبياء كانوا يصلون ويأمرون أقوامهم بالصلاة، فها هو أبو الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول: "ربّ اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي" (إبراهيم: 40)، وها هو عيسى المسيح عليه الصلاة والسلام يخاطب قومه وهو رضيع مدافعاً عن طهارة أمه مريم البتول: "وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمتُ حيا" (مريم: 31)، والزكاة كانت في شريعة كل الأنبياء "وجعلناهم أئمةً يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين" (الأنبياء: 73)، والحج أيضاً كان شعيرة معروفة عند الأنبياء السابقين، فها هو إبراهيم يؤذن بالحج "وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فج عميق" (الحج: 27)، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عدداً كبيراً من الأنبياء قد حجّ للكعبة، فعن ابنِ عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صلَّى في مسجدِ الخَيْفِ سبعون نبيًّا، منهم موسى صلى الله عليه وسلم" رواه الطبرانيُّ وصحَّحه الألباني، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن نبي الله عيسى عليه السلام سيحج في آخر الزمان بعد نزوله للأرض، فعن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده، لَيُهِلَّنَّ ابنُ مريمَ بفجِّ الرَّوحاءِ، حاجًّا أو معتمِرًا، أو لَيَثْنِيَنَّهُمَا" رواه مسلم، وأما الصيام فقد تقدم أنه كتب على الأمم السابقة أيضاً.
فشعيرة الصيام تربط المسلم المعاصر بتاريخه العريق والذي يشمل كل الأنبياء والرسل والأمم المسلمة ويحقق العولمة الحقيقية!
وشعيرة الصيام تؤكد للمسلم والمسلمة المعاصرة أن الدين والتوحيد هما الأصل في البشرية، وأن الكفر والشرك والإلحاد هي الانحراف والشذوذ، بخلاف مزاعم العلمانية لما جعلت أصلها حيوانا كان منطقياً أن تنطلق من الكفر!
بينما الرؤية القرآنية التي تنطلق من تكريم الإنسان والبشرية "ولقد كرّمنا بني آدم" (الإسراء: 70) وأنه خلق في الجنة فإنها تكرم الإنسان أيضا وتجعل الإنسان الأول آدم عليه الصلاة والسلام نبيا دينه الإسلام والتوحيد بعيداً عن أوساخ الكفر والشرك.
2- الصيام الذي هو امتناع ذاتي طوعي عن المباحات والحلال هو تجسيد لعبوديتنا لله عز وجل ذي الجلال والكمال، هذه العبودية التي تحررنا من العبودية المذلة للمخلوقات (أشخاص، أحجار، أشجار، أوهام، مال، حيوانات ...).
وهنا تتمثل قوة الإرادة والتسامي فوق الشهوات والأهواء للحصول على محبة ورضا الرحمن الرحيم من جهة، وأيضا تكشف بوضوح عن حقيقة الإيمان بأنه الطاعة التامة لله عز وجل في كل مناحي الحياة، وفي هذا رد على دعاة العلمنة الذين يحاولون فصل الدين عن الدولة، أو عن الحياة عند الغلاة منهم.
وهذه العلمنة تتعارض مع حقيقة الإيمان والذي يقوم على أن لله عز وجل أمر وحكم في كل شؤون الحياة "قل إن صلاتى ونسكي ومحياى ومماتى لله رب العالمين* لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين" (الأنعام: 162-163)، وأن حقيقة الإيمان بالله عز وجل هو الطاعة والخضوع التام لأوامره وأحكامه مع المحبة والفرح بها، والصيام هو نموذج مصغر لاختبار التخلي عن الرغبات واللذائذ، وامتحان الصبر على المصاعب والمشاق، مما يكشف حقيقة المحبة ويبرهن على مقدار الإخلاص.
3- الصيام في ظاهِره تعذيب للبدن وإرهاق للجسد، ولا ينتفع الفقير بجوع الغني، هذه هي النظرة السطحية لحقائق الدين والتي تقيس الأمور بالماديات المباشرة.
لكن لما تقدمت العلوم ثبتت فوائد الصيام الصحية ومنها تخلص الجسم من سمومه وتجديد خلاياه وهو الأمر الذي كان مجهولاً لمئات السنين والذي يصلح أن يكون من تنويعات معنى قوله صلى الله عليه وسلم "الصيام جُنة" متفق عليه، وجُنة أي وقاية من الشهوات، ولذلك أمَر الشباب بالصيام لكسر الشهوة وهو أيضا وقاية صحية، وبهذا يتجلى الإيمان بالغيب ويتحقق التسليم المطلق لأمر الله عز وجل لأن أمره كله خير وبهذا نصل لليقين مجدداً بقوله تعالى "والله يعلم وأنتم لا تعلمون" (البقرة: 216)، فكم من أمر رباني قد لا ندرك حكمته ومصلحته الآن لكن قد نعرف ذلك في المستقبل، وبالطاعة للأمر الرباني، ولو لم نعرف حكمته يختبر الإيمان في القلوب.
4- لما كان الصيام في حقيقته اختبارا لمصداقية الإيمان من جهة وتعامل مع عالم الروح وتجاوز عالم المادة والأشياء، كانت مقاييسه مختلفة، فرائحة فم الصائم (الخلوف) أزكى من رائحة المسك! والثواب على الصيام يتولاه الله عز وجل مباشرة! وقيام ليلة القدر -وهي بضع ساعات- يعادل قيام ألف شهر!
5- ولما كان شهر الصيام من مواسم الخير الجزيل والثواب العميم فإن نهايته تكون عيداً وبهجة وفرحاً بما وفق الله عز وجل من طاعته ويسّر من عبادته، فلذلك يفرح المؤمنون بصيامهم كما يفرحون بحجهم، ومن هنا فإن تحريف معنى العيد ليصبح موسماً للعصيان ومناسبة لارتكاب الآثام هو مثال بارز على ضخامة كيد الشيطان وأوليائه في جر المؤمنين والمؤمنات لدخول النار وإبعادهم عن طريق الرحمة والجنة والنعيم، فهل نغفل عن هذا المكر في خاتمة رمضان، والعبرة بالخواتيم فاحرصوا على الحفاظ على ما قدمتم.
تأملات في فريضة الصيام
2019/05/01
الرابط المختصر
Image