تناول تقرير ديما محبوبة في الغد يوم 10/1/2010،" سيدات يبتكرن مكياجاً وتسريحة شعر للعزاء " قضية في غاية الغرابة، تصلح مثالا حياً لكيفية تحريف الأوامر الشرعية سواء بالابتداع والزيادة والتشدد أو بالتحريف والتفريط والتساهل. والعزاء وضحت الشريعة الإسلامية أحكامه وصفته، حيث أن العزاء يرتبط بالحياة والموت وهما من القضايا الكبرى في دنيا البشرية، وكانا عبر الزمان من المداخل المهمة لتحريف الأديان بالابتداع أولاً والشرك ثانياً والكفر ثالثاً. في بيان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العزاء مقارنة بالأمم والأديان الأخرى يقول العلامة ابن القيم: " كان هديه صلى الله عليه وسلم في الجنائز أكمل الهدي مخالفا لهدي سائر الأمم مشتملا على الإحسان إلى الميت ومعاملته بما ينفعه في قبره ويوم معاده وعلى الإحسان إلى أهله وأقاربه وعلى إقامة عبودية الحي لله وحده فيما يعامل به الميت. وكان من هديه في الجنائز إقامة العبودية للرب تبارك وتعالى على أكمل الأحوال والإحسان إلى الميت وتجهيزه إلى الله على أحسن أحواله وأفضلها ووقوفه ووقوف أصحابه صفوفا يحمدون الله ويستغفرون له ويسألون له المغفرة والرحمة والتجاوز عنه ثم المشي بين يديه إلى أن يودعوه حفرته ثم يقوم هو وأصحابه بين يديه على قبره سائلين له التثبيت أحوج ما كان إليه ثم يتعاهده بالزيارة له في قبره والسلام عليه والدعاء له كما يتعاهد الحي صاحبه في دار الدنيا. فأول ذلك تعاهده في مرضه وتذكيره الآخرة وأمره بالوصية والتوبة وأمر من حضره بتلقينه شهادة أن لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه ثم النهي عن عادة الأمم التي لا تؤمن بالبعث والنشور من لطم الخدود وشق الثياب وحلق الرءوس ورفع الصوت بالندب والنياحة وتوابع ذلك . وسن الخشوع للميت والبكاء الذي لا صوت معه وحزن القلب وكان يفعل ذلك ويقول: " تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب ". أما هذه العادة الشاذة والحديثة من جعل مناسبة العزاء مناسبة للاستعراض والتبرج والزينة، بدلاً من العبرة والاتعاظ والدعاء والاستغفار والتوبة، هو تحريف جديد وحديث ولكن باتجاه معاكس، فقد كان السائد والمنتشر هو المبالغة في إظهار الحزن عبر لطم الخدود وشق الثياب، عوضاً عن الصبر والرضي بقضاء الله عز وجل. لكن في هذا الوقت الذي تزايدت فيه مساحات التقليد والمحاكاة للمادية الغربية، لم يعد من المناسب لفئات "مخملية" من النساء هذه التقاليد الشرقية التي يحاربها الإسلام، فكان الحل هو تقديم تبرج للعزاء!! وبذلك تحاول إقناع نفسها من تفعل ذلك بأنها قامت بواجبها، والحقيقة أنها تخدع نفسها فالتبرج بذاته محرم، فكيف في موقف العزاء؟ لقد تعرضت الشرائع والأديان عبر الزمن للتحريف والتبديل وذلك بسبب الهوى والجهل وكيد الشيطان، ولذلك كانت سنة الله عز وجل بإرسال الرسل عبر الزمن للأمم المختلفة، فكانت الرسل تأتي لتصحح المسار للبشرية في قضية التوحيد الثابتة عبر الزمان والمكان، وتفصل الشرائع بحسب أحوال الأمم والشعوب. كما قال الله تعالي " كان الناس أمة واحدة " أي على التوحيد الذي كان عليه آدم وبنيه، ومن ثم حدث فيه الشرك فاختلفوا " فبعث الله النبين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه" (البقرة 213). وتحريف الدين هو أول سلاح يستخدمه الشيطان في إضلال المؤمنين، ولذلك كان خروج أبينا آدم من الجنة وهبوطه إلى الأرض هو بتحريف إبليس معنى أمر الله عز وجل لأدم بعد الاقتراب والأكل من الشجرة، بأنها شجرة الخلود!! وبعد أن تاب الله عز وجل على أدم وبدأ تاريخ البشرية على الأرض، كان بنو آدم على الحق والهدى كما روى شيخ المفسرين ابن جرير الطبري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلها على ملة أبيهم آدم عليه السلام على شريعة من الحق"، فجاء الشيطان فحرف الدين بأن سول لبعض الناس رسم بعض علمائهم ورجالهم الصالحين في أماكنهم العامة وهو محرم عليه بحجة تذكرهم والتي تساعد على النشاط في العبادة والطاعة، ومن ثم سول لهم دعائهم والتوسل بهم مع الله عز وجل بحجة أنه أولياء وشفعاء عند الله، وبعد ذلك سهل عليهم عبادتهم من دون الله عز وجل، كما روى البخاري في كتاب التفسير في سورة نوح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :" صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما وَدُّ فكانت لكلْب بدومة الجندل، وأما سُواعٌ فكانت لهذيل، وأمَّا يغوثُ فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهْمدان، وأمّا نسْرٌ فكانت لحمير، لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسمُّوها بأسمائهم ففعلوا، فلم تُعْبَدْ، حتى إذا هلك أولئك وَتَنَسَّخ العلم عُبِدت " .(ومعنى تنسخ العلم: أي علم تلك الصورة بخصوصها) . وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري بشرح البخاري " :أخرج الفاكهي من طريق عبيد بن عمير قال: أول ما حدثت الأصنام على عهد نوح، وكانت الأبناء تبر الآباء ، فمات رجل منهم فجزع عليه، فجعل لا يصبر عنه، فاتخذ مثالا على صورته فكلما اشتاق إليه نظره، ثم مات ففُعِل به كما فعل حتى تتابعوا على ذلك فلما مات الآباء فقال الأبناء: ما اتخذ آباؤنا هذه إلا أنها كانت آلهتهم فعبدوها "، فأرسل الله عز وجل لهم نوحاً عليه السلام يدعوهم للتوحيد ونبذ الشرك، قال تعالى: " واتل عليهم نبأ نوحٍٍ إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم أقضوا إلي ولا تنظرون " ( سبأ 71). فكان علاج التحريف يكون بإرسال الرسل وإنزال الكتب، أما منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فقد توقف ارسال الرسل وانزال الكتب، لأن الله عز وجل جعل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم الرسالة الخاتمة للبشرية جمعاء، قال تعالى: " مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ " ( الأحزاب 40 ). ومن أساب ختم الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم تطور أحوال البشرية حتى أصبحت كأنها قرية واحدة عبر تطور وسائل النقل والاتصال بشكل لم يسبق في تاريخ البشرية، والتي ستجعل من وصول الرسالة الخاتمة للبشرية جمعاء أمر يسير، ولذلك جاء تعهد الله عز وجل بحفظ القرآن الكريم بخلاف ما سبقه من كتب ورسالات سماوية " إنا نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" (الحجر 9)، ليكون القرآن والسنة النبوية التي وصفها الله عز وجل بقوله تعالي: " وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحىٌ وحى" (النجم 3،4)، هي المرجع الذي يحفظ للبشرية دينها من التحريف، بثباتها ووضوحها. فكل فعل أو قول يقارن بهذا المرجع الثابت وبناء على موافقته له يقبل ويعمل به، وما عارضه فهو مردود ومرفوض، ومنه هذا التبرج في العزاء بشكل خاص.
تبرج العزاء .. نموذج لتحريف الدين !!
2014/08/01
الرابط المختصر
Image